قراءة في المجموعة القصصية( جذوة نوفمبر) للقاصة إيمان كاظم

سعد نزال
saad1131960@yahoo.com

2021 / 6 / 6

الحديث عن النقد الأدبى ومدارسه وتاريخه ،حديث يطول، وهناك كثير من الدّراسات والمؤلفات، تدور في مدار النقد الأدبي يمكن الرجوع إليها لمن شاء التوسع في المعرفة.
النقّاد الاوائل ( لا يمكن حصرهم في هذا المقال) ساروا على نهج المدارس الأجنبية في النقد الأدبي ولم يحاولوا خلق مدرسة عراقية أو عربية خاصة، و "كان استاذنا الدكتور علي جواد الطاهر قبل سفره الى فرنسا ينكر النقد انكارا عجيبا"، وهذه الجملة المنصصة تعود للناقد الحلي عبد الجبار عباس.
وحتى لا نبخس الدكتور الطاهر حقه في النقد فهو القائل: "ان النقد مظهر حضاري جليل".
أسوق تلك المقدمة بعد قراءتي لمجموعة السيدة إيمان كاظم القصصية التي حملت إسم: جذوة نوفمبر والصادرة عن الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. للتعريض أقول إنها ليست المجموعة القصصية الوحيدة الصادرة عن الإتحاد، والتي قرءتها بتمعّن، ولكنها المجموعة التي إستهوتني وإستوقفتني للكتابة عنها، مع إشادتي بالمجاميع الأخرى الصادرة.
المجموعة حَوَت بين دفّتيها تسع قصص أردَفَتها الكاتبة بسيرة ذاتية عنها.
نسبة لابأس بها من القصص التسع لا تخلو من أفكار عميقة، إذا أخذنا برأي الناقد باسم عبد الحميد حمودي، الذي عرّف القصة القصيرة بأنها( فكرة) .
فكرة تقدح بمخيلة القاص والتي هي من المواد المهمة  لبناء القصة القصيرة الناجحة.
إستعمال لفظة ( بناء)  جاءت بالمعنى الحرفي لها، فبدون وجود المواد الاولية لبناء بيت سكني (مثلا) لا يمكن للمهندس المدني المباشرة بالبناء مهما أوتي من علم هندسي.
بالعودة الى القصة القصيرة أو الأدب عموما تكون اللغة هي المادة الاولية الاساسية لبناء الاثر الادبي، كما ذكر ذلك الدكتور محمد مندور في كتابه (في الأدب والنقد )
والذي شبّه اللغة ( بمثابة الألوان للتصوير والرخام للنحت)، وشدّد أيضا، إن اللغة ( لم تعد وسيلة للتعبير ، بل هي خلق فني في ذاته).
ما طالعته في ( جذوة نوفمبر) لغة رائقة وسلسة تصلح للبناء الأدبي على إن الهفوات أو لنقل: الغفلات، تكون قابلة للتصليح بحضور  الأسس الصُلبة وثبوتها.
المجاميع القصصية التي تحمل إسم  إحدى قصصها وذلك يحدث على الأعم، تكون تلك القصة هي الإبن المدلل للكاتب فكرّمها بالتربّع على غلاف مجموعته.
سأبدأ بقصة جذوة نوفمبر التي حملت  المجموعة إسمها على إنها القصة رقم واحد في تسلسل الأعداد التسعة للقصص، وأعتذر  لعدم إلتزامي بالتسلسل الوارد في المجموعة.
القصة سُردت بصوت الراوي المجهول الذي يعرف دقائق الأمور دون أن نعرفه نحن القراء، مثل غيرها من قصص المجموعة.
القصة إرتكزت أحداثها جمعاء على ثلاثِ صدف إن لم تكن أربع، الصدفة الاولى: ينسى ( عزيز ) وهو الزوج،  إبريق الحليب مركونا فوق الموقد ليطفح الحليب مُطفِئناً النار مع إستمرار تسرب الغاز ويغادر بلا إنتباه لذلك.
الثانية: تستيقظ ( ثريا)، الزوجة، صباح واقعة الحليب وهي مصابة بإحتقان في الأنف يسلبها جذوة الشم، والثالثة: ان يكون الجو ممطرا ولا يمكن لثريا الخروج لإيداع إبنها ( تيم) لدى جدته لتلتحق بعملها الصباحي في دار العدالة( المحكمة).
ويمكن حساب تواجد الجار الشاب ( ياسر ) لحظة التهام النيران جسد ثريا واندفاعه لانقاذها صدفة رابعة.
جميع الأحداث التي لَحَقت ذلك، ساقها القدر او ( بمشيئة الله) كما كررت الكاتبة ذلك، وحتى لا ننسى نحن القراء.
إن خلق صدفة واحدة لبناء أحداث كاملة تتعكز عليها القصة القصيرة غير مرغوب، ويُعتبر ضعفا في القصة، وكتّاب القصة القصيرة أو الرواية يتفادون الصدفة في البناء الدرامي بإعتماد مبدأ ( مسدس تشيخوف)، والمجال لا يتسع لشرح معنى هذا المسدس ويمكن الرجوع اليه في مصادر عدة لمن شاء المعرفة.
للأمانة، وحده الكاتب والناقد عبد المجيد لطفي آزر المصادفة في القصة في مقاله ( القصة والمصادفة) المنشور في مجلة الأديب اللبنانية حيث قال: "فإذا لعبت المصادفة دورا رئيسيا في قصة من القصص فلا يحق لنا ان نسمي ذلك تكييفا مفتعلا للوقائع وابعادها عن الحياة الواقعية". المقال السالف تعرض الى النقد واتُّهم بتبرير الأخطاء والدفاع عنها.
نعود إلى قصة ( جذوة نوفمبر ) ونقول: جاءت قدرية تبدأ ببطلة القصة ثريا، نستدل من عملها وافكارها إنها ذات شخصية قوية تترافع في المحاكم  وتحاول بناء تاريخا مجيدا لها يكون مفخرة لإبنها ( تيم)، وتنتهي نهاية مأْسَوية بإنتحار البطلة للتخلص من التشوّه الذي ذوّى جمالها وأطاح به. الفكرة العامة مكررة باكثر من صياغة، شاب ( أو شابة) يفقد عزيزا عليه ولا يستطيع التعايش مع الحقيقة الجديدة وينتهي به الأمر إلى الإنتحار وأحيانا الجنون.
ما شدّني إلى القصة هو إختيار مفردات اللغة بعناية والسرد الأنيق وتوظيف الفكرة (المطروقة) بشكل جديد.
إستندت قصّتا ظلال صوت و مرايا صدئة على فكرة محاورة الذات وتعريته وكشف أخطاء الماضي سواء بتجسيد شخص آخر بأَبعاد ملموسة أو محاورة طيفه في المرآة، والأخيرة وردت بقصص و سيناريوهات لأفلام كثيرة وعادة ماتنتهي بكسر المرآة أو
إنسحاب المحاور المتجسد واختفائه. يمكن القول أن قصة مرايا صدئة خُلقت من المثل: ( طبيب يداوي الناس وهو عليل). الطبيب النفساني الذي يعالج المرضى ويسجل حالاتهم بالصوت، يكتشف أخيرا أنه حالة شبيهة بحالات مرضاه. حالته يمكن إدراجها ضمن الحالات التي يحتفظ بها،  وتقييدها تحت رقم معين، وبطل القصة بأمسّ الحاجة إلى العلاج قبل أن يطبّق نظريا ما درسه بعلم الطب النفسي على مرضاه.
القصة وجّهت ضوءا مركزا أنار زوايا مظلمة في مجتمعنا، أقواها هي الفكرة المجتمعية عن الطبيب النفسي بأنه طبيب مجانين وتُحرّم زيارته لأي سبب، فالصورة التي يرسمها المجتمع عن زائر الطبيب النفسي، هي الجنون ويجب تحاشيه.
حالات أخرى طرحتها الكاتبة بجرءة مثل تعرض الاطفال الى الإعتداء الجنسي. حالة الشابة ومحاولاتها المتكررة للإنتحار، والكاتبة تركت الحرية للقارئ لإختيار سببا مقنعا لمحاولات الإنتحار.
قصة أنفاس في مخزن خردة، برأي  يمكن أن يحتل إسمها غلاف المجموعة فهي بحق أقوى القصص بناءا وفكرة.
لا أعني بالفكرة البنت التي يهجرها حبيبها ليرتبط بأخرى ومحاولته الاستمرار مع الأولى كنوع من التسلية مستغلا ضعف شخصيتها والإيمان بوعود كاذبة، لا، لا أقصد هذه الفكرة فهي مطروقة ومستهلكة.
الفكرة الأساسية التي قصدتها هي فكرة أن يكون الراوي هو كشك الهاتف العمومي الدافئ الذي قدّم خدمات جليلة للمجتمع، تم إزاحته عن الشارع بطريقة مهينة بعد تقدمه ( في السن) ورميه في مخازن الخردة كأي إطار مستهلك او إنبوب مجاري نخره الصدأ.
قصة أرواح مواربة والذي كان بطل القصة هو الراوي، جاءت شبيهة بقصص
ألف ليلة وليلة وفكرة قديمة، وهي فكرة البيت المسكون بأشباح هم أهل الدار الذين يرفضون مغادرة دارهم. موتى بظروف غامضة لم يُتفق عليها وتناقلت الألسن قصتهم بصور مختلفة، يأتي الإبن ليكتشف ( بالصدفة أيضا )، إن الدار تعود إلى أبويه القتلى وهو طفلهما الذي تبناه عمه وصار اباً له.
قصة صخور وثيرة فكرتها ( العامة) بان المال ليس كل شيء وسُردت اشتقاقاً عن عظة ( القناعة كنز لا يفنى) وبرأي الشخصي هي لم ترتقِ للواقع المُعاش. ما أعجبني في القصة هو نقد ضمني للإنجاب الذي يفوق القدرة  المعاشية للعائلة ونقد مقولة ( كل طفل يأتي للحياة، يأتي رزقه معه) هذا النقد الضمني يشفع للقصة، ولكن ما تلاها من أحداث هي قسمة الله، والفقير ( غني ) بما رزقه الله وأفضل حالا من الأغنياء المبتلين بالمشاكل وكأن الفقراء خالين من المشاكل، ويعيشون عَيشا يُحسدون عليه،  والخلاصة التي فهمتها، أنه يمكن للصخور ان تكون وثيرة احياناً.
قصة برزخ يوم ماطر، وبعد قراءتها إنتابني شعور صوفي كون القصة إستندت على الدين وكل شيء ممكن لذلك أبتعد عنها.
قصة قاب قلبين او منفى، بمعناها العام شبيهة بقصة، انفاس في مخزن الخردة واكرر القول: بالمعنى العام فقط.
مجموعة ( جذوة نوفمبر ) لا تخلو من جهد وإبداع، والكاتبة السيدة إيمان كاظم بارعة في اللغة وتستطيع أناملها أن تخط الأفضل متلافية الهفوات، وسبحان من لا يهفو.
كلّي ثقة إن مجموعتها القادمة ستكون أرقّ وأعذب وتحمل بين طيّاتها للقرّاء متعة تفوق ما حملت ( جذوة فبراير ).



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن