التنميط الثقافي ووسائل التواصل الاجتماعي.

عبدالله محمد ابو شحاتة
aheroabdallah@gmail.com

2021 / 5 / 30

لا شك عندي في أن النظرية الماركسية قد بالغت كثيراً في تقديمها للثقافة كتابعة للعامل الاقتصادي، هذا هو المأخذ الأكثر أهمية فيما يخص فكر اليسار القديم وأيضاً البعض من الذين لا يزالون يؤمنون بذات الفكرة من اليسار الجديد.
فالتوصيف الأدق هنا هي أن العلاقة بين العاملين علاقة تأثير متبادل، ولا يمكن أن نجعل أحد العاملين تابعاً للآخر ثم نخرج بعد ذلك بنظرية متسقة مع التاريخ والواقع وقابلة للتطبيق.
ولعل هزيمة اليسار القديم وفشله المتوالي لم يكن إلا نتيجة لتهميش العامل الثقافي الذي أعطته الرأسمالية في المقابل أهمية كبرى، فنجحت بذلك في خلق وعي جماهيري لا يتزحزح بأن المجتمع لا يمكن إلا أن يكون سوى ما هو عليه، وتوالت نظريات علم الاجتماع المحافظة مثل البنائية الوظيفية و التفاعلية الرمزية والتي تتعامل مع المجتمع بوضعه الحالي دون أن تحوي أي نظرة تطورية أو تحوي أي معالجة تُذكر للشق الثوري، وقد استطاع التيار الرأسمالي المحافظ في النهاية إرساء قواعد النظام القائم في وعي الأفراد كقواعد أبدية لا تتبدل، وجعل من مفهوم المجتمع في أذهان العامة لا يعني سوى مجتمع رأسمالي، وقد اكتسبت تلك التصورات صفة البداهة حتى بين الطبقات العاملة والأكثر كدحاً والتي كانت من المفترض أن تصبح وقوداً لليسار ونواة للتغيير المجتمعي.
ولقد تمت تلك العملية في رأيي عبر سبل عدة، لعل أولها هو خلق الإنسان الأجوف الذي لا يملك أي أساس ثقافي، فيسهل عليه أن يتأثر بالإعلام والبروبجندا ويصبح تشكيل وعيه أكثر سهولة، ولقد تحققت تلك الغاية من خلال قتل وقت الفراغ بساعات العمل الطويلة والتوجيه نحو الاهتمامات التافهة ووسائل الترفيه بدلاً من التثقيف الذاتي، بجانب القيام بعملية تضليل لمن تتوفر لديه رغبة في البحث والتثقيف، فيتم توجيهه نحو جمع معلومات والاطلاع على كتابات ومجالات غير ثقافية، أي القيام بعملية تزييف لتقديم ما ليس بثقافة على أنه هو الثقافة. وهذا بالطبع يقودنا بالضرورة لأن نبين ماهية الثقافة

فما هي الثقافة ؟

لعل من الأمور الهامة التي يجب أن نلتفت إليها هي التفريق بين المعرفة والثقافة والعلم. فالمعرفة هي كل ما بداخل عقل الإنسان، هي كل معلومة واردة إليه أياً كان نوعها، بينما الثقافة والعلم فمفاهيم على درجة كبيرة من الخصوصية، ويمكننا إيجازها ببساطة في أن العلم هو معرفة ذات تأثير عملي موضوعي، أي معرفة بإمكانها أن تؤثر على الواقع الموضوعي وتبدله أو تعدل فيه. أما الثقافة فهي معرفة قادرة على إحداث تغيير في الرؤية الذاتية للواقع، أي أن تأثير العلم في المجمل موجه للموضوع بينما الثقافة موجة للذات. ومثال على العلم هي بالطبع العلوم الطبيعية ومثال على الثقافة هي التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع.. إلخ. ويجب أن ننوه أن العلم والثقافة يتقاطعان في خطوط كثيرة، فالتطور البيولوجية أو علم الأعصاب هي علوم طبيعية ولكنها تتقاطع مع الموضوعات الثقافية من خلال إثارتها لموضوعات مؤثرة في النظرة الذاتية وطريقة التفكير للإنسان، كموضوعات ماهية الوعي وأصل البشرية وتاريخ تطورها....إلخ
والخلط الذي يحدث في مفهوم الثقافة هو اعتبار كل معلومة ثقافة، سواء أكانت معلومة غير ذات تأثير، أو حتى معلومة علمية بحتة، ففي تلك التصورات المغلوطة قد نجد على سبيل المثال أن الطبيب أو المهندس يعامل كمثقف، والحق أن ممتهني تلك المهن على أهميتها لا يتعدوا كونهم فنيين من طراز رفيع، وثقافتهم الحقيقية لا علاقة لها بمهنهم من قريب أو من بعيد. ولكن الكثير من المجتمعات الرأسمالية عانت من تشوه في مفهوم الثقافة جعلها تضفيها بناءً على المهنة أو حتى الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وترافق مع هذا تهميش لمَواطن الثقافة الحقيقية وإبعاد المثقف الحقيقي عن المشهد.
ومع حدوث غياب وتشويه للثقافة تصبح مهمة الإعلام والدعاية في قولبة الوعي أكثر سهولة.

*الإعلام وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي.

لقد أصبح تأثير الأعلام في تشكيل الوعي الثقافي للمجتمعات خلال فترة النصف الثاني من القرن العشرين تأثيراً يكاد يكون لا يقهر، ولقد دفع هذا التأثير القاهر للآلة الإعلامية المحافظة كثيراً من مفكري اليسار إلى حالة من اليأس. ورأى الكثير منهم خلال تلك الفترة التطور التكنولوجي خاصة في مجال الإعلام كعامل مساعد على الثبات وعرقلة التغيير. فقد عالج هربرت ماركوزه على سبيل المثال التلفاز وقوته الكبيرة في السيطرة والتوجيه والقولبة الشعبية، ومساهمته الكبيرة في خلق المجتمع ذو البعد والواحد؛ أي المجتمع الذي لا يحوي إي نظرة تقدمية أو رؤية نقدية، ورأى وفقاً لذلك أن كافة التطورات التكنولوجية خاصة في مجال التواصل الإعلامي ستكون حتماً قوة في يد الطبقات المحافظة لكونها هي الطبقات المسيطرة، وأن تكنولوجيا التواصل والأعلام لن تدين بالولاء في المقام الأول إلا لمن يمتلكها. ولعل تلك النظرة المتشائمة من ماركوزه لم تكن تحمل مبالغة فيما يتعلق بالتلفاز والأعلام التقليدي ذو البعد الواحد، وهو بعد التلقي، فالفرد في تلك الصور من وسائل الإعلام لم يكن سوى متلقي فقط، وهو ما اختلف الأن مع ظهور مسائل التواصل الاجتماعي، فلم يعد الفرد يقف عند حد التلقي بل تعداه إلى حد التفاعل والمشاركة في صناعة المحتوى ونشره.
وبالرغم من أن سياسة الهيمنة الدعائية تمتد حتى لتشمل وسائل التواصل الاجتماعي إلا أنها وبلا شك لا تقارن مع الهيمنة التي تحدث عنها ماركوزه في عصر الراديو والتلفاز؛ فوسائل التواصل الاجتماعي والأنترنت تترك بصيصاً من الأمل وفرصة لا بأس بها لمواجهة الهيمنة الدعائية وتنميط الوعي الممنهج، ولقد ثبتت فاعليتها في التغيير من خلال حركات الربيع العربي وما تلاه، وهو ما لفت النظر لتأثيرها الغير متوقع لدى الأنظمة المحافظة سواء ذات الصبغة الاستبدادية أو ذات الصبغة الديمقراطية. ولقد لمسنا في الفترة الأخيرة محاولات حثيثة لرفع مستوى القيود في سياسات العديد من مواقع التواصل المشهورة الأكثر تأثيراً ولا سيما فيسبوك. ورأينا أيضاً أن العديد من تلك القيود يطبق بشكل انتقائي متحيز في بعض الأحيان. هذا فضلاً عن محاولة لتحييد تلك المنصات فيما يخص الميادين والموضوعات ذات الأهمية، وهو ما يتضح من قرار فيسبوك بعدم ترشيح صفحات ومجموعات النشاط السياسي لأعضائها، والذي اتخذته في بداية هذا العام، وهو ما يوضح رؤية واضحة لدى صانعي السياسات لمواجهة التأثيرات الثقافية الكبيرة وغير المتوقعة لتلك المنصات. وهو ما يلقي في المقابل مسؤولية كبيرة على مفكري اليسار والتقدميين في طرح رؤى واضحة ودراسات جادة حول الاستغلال الأمثل للمستجدات التكنولوجية الحديثة في مجال التواصل والأعلام، وكيفية استغلال الفجوة التي أحدثتها داخل المنظومة الدعائية التنميطية. وهي فجوة و بلا شك يمكن توظيفها لكسر حالة القولبة الثقافية المستمرة منذ منتصف القرن الماضي.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن