الرسالة الاخيرة

اغصان الصالح
aaghasan@yahoo.ca

2021 / 5 / 30

الرسالة الأخيرة

للحرمان صور عديدة، أقساها تلك التي عشتها، أربعين سنة أعمل في دائرة البريد، ولم أحصل على رسالة حبّ واحدة.
إنّ الثورة التكنولوجية أطاحت بكلّ شيء يحمل لمساتنا أو شيئًا من ذواتنا.
تقرّر إغلاق دائرة البريد، حيث أعمل، بعد أن عزف الناس عن كتابة الرسائل في مدينتنا الصغير والعالم كله, اكتفى الجميع بالرسائل النصّية والمكالمات، سواء بالصوت أو بالصوت والصورة عن طريق الهواتف الذكية.
اليوم سلّمت مفاتيح الدائرة إلى المسؤول في البلدية، وأكّدت عليه أنّه لا يوجد أيّ شيء داخل المبنى الذي كنت أنا أديره وحدي في الأشهر الأخيرة، الشيء الوحيد الذي أخذته معي هي الأربعون رسالة التي تحمل أربعين طابعًا من أربعين دولة، كنت أسمع أسماءها في نشرات أخبار الحروب والكوارث.
في هذه الرسائل كان اسم المرسَل إليه (إلى حبيبتي)، لكنّها تأتي إلى عنوان دائرة البريد، كنت أعيدها إلى المرسِل لأنّها بلا اسم محدّد، فكانت تعاد إليَّ لأنّ المرسل قد غيّر عنوانه، احتفظت بها حسب قوانين العمل، والآن المفروض أن أرميها في فرّامة الورق, ألّا أنّني قررت أن أشغل أوّل أيّام تقاعدي بهذه الرسائل، أنا وكلبي الذي يعيش معي بعد أن توفّي والداي.
في أوّل صباح لي كامرأة متقاعدة جلست على كرسي قبالة الشمس في يوم تموزي, تسقط أشعّتها القويّة على الطاولة الزجاجية، حيث وضعت الرسائل الأربعين تحتها، كلبي الصغير يغطّ في نوم عميق قرب قدمي، الآن من المنطقي أن أبدأ بقراءة الرسائل بالتسلسل, لكنّي قرّرت ان أبدأ بآخر رسالة، الرسالة تحمل طابع جنوب أفريقيا.

إلى حبيبتي التي لم أعرف اسمها حتى الآن..
أكتب لك هذه الرسالة الاخيرة، ولديّ شعور أكيد بأنّك سوف تقرئينها، مرّت أربعون سنّة على أوّل يوم رأيتك فيه، كنت أكتب لك في كلّ عام، باليوم نفسه رسالة، وأبعثها إلى مكان عملك، عسى أن تقرئيها، تركت لك في الرسائل عناويني، وانتظرت رسالة منك, برغم ذلك لم أيأس ولم أتوقّف عن الكتابة لك، أتمنّى أن تكوني مازلت تحتفظين بذاكرتك لأربعين سنة مضت، هل تذكرين الشابّ الذي دخل إلى دائرة البريد، يبحث عن السيد مارك (جاري)؟
قلت لي إنّك موظفة جديدة، وإنّه ذهب في مهمّة، وعرضت عليّ خدمتك، لكنّي رفضت وتأفّفت، ناديت عليّ وقلت لي: لقد علّمني السيد مارك كلّ شيء، وأستطيع مساعدتك.
قلت لك: هل تجيدين ربط ربطة العنق، اليوم تخرّجي، وأنا لا أعرف، وأبي خارج البيت.. تركتِ مكانك وتقدّمتِ نحوي, جذبتِ طرفَي الرباط وبدأت بربطه، كانت يداك ترتجفان كورقة شجرة تلعب فيها الريح, بينما أنفاسي تفرق غرتك، فيعود النَفَس لي مشبّعًا بعطرك، لقد بحثت عن عطرك في كلّ النساء التي لاقيتها على مدى هذه السنين، لكنّي لم أجده، قبّلتك في جبينك وخرجت، لم أرقص يومها مع رفيقتي، وبقيت جالسًا في مقعدي، عدت إلى البيت, نمت، وصحوت من دون أن أفتح ربطة العنق، تمنّيت لو أنّي لم أفتحها، لكن الهاتف الذي جاء من المستشفى يخبرني أنّ أمّي وأبي تعرّضا إلى حادث سير وفقدا حياتهم أجبرني على ذلك، بعد أن أنهينا مراسيم الجنازة والدفن اصطحبني صديق أبي للعمل معه في الصليب الأحمر، كنت أتنقّل بين الدول المنكوبة، أبحث عنك بين القتلى والجرحى، في دخان القنابل وصرخات الجنود، في وجوه الجياع وبكاء اليتامى، كنت أنت من يجعلني أقاوم كلّ ما أراه بعيني، كلّ تلك السنين مرّت وأنت معي، السنة الماضية قرّرت أن أعمل في أفريقيا، هناك الناس بحاجة إلى عناية، بعد ستة أشهر بدأت أشعر بضيق في التنفّس، سألت الطبيب الذي معنا، وبعد أن اجرى لي عددًا من الفحوصات أخبرني أنني بحالة صحّية سيئة جدًّا، وإنّ السرطان المتوحش ضرب الرئة، ولم يبق على أيّ شيء، الغريب هو أنّني لم أشعر بشيء من قبل، الخبر الذي احتفظت لك به في آخر الرسالة هو إنّك عندما تقرئينها سأكون قد غادرت هذا العالم الذي أتمنّى أن تكوني فيه بخير.
حبيبتي، مازلت أحتفظ بربطة عنقي التي لم يلمسها أحد بعدك، أوصيتهم أن يضعوها حول عنقي أثناء الدفن من دون أن يربطوها، لا أحد يجيد ربطها مثلك، كم تمنّيت أن أعرف اسمك فقط وأكتبه على الظرف.
وفيما أنا أسترجع تلك الذكرى التي كانت تؤنّسني كلّ يوم, أحرقت أشعّة الشمس المارّة عبر زجاج الطاولة ما تبقّى من الرسائل



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن