قراءة في كتاب (خلاصة تاريخ العراق منذ نشوئه والى يومنا هذا) للأب انستاس ماري الكرملي(1866-1947م دراسة وتحقيق صباح شاكر العكام.

عبد الرضا عوض
nabeel_alrubaiy58@yahoo.com

2021 / 5 / 26

قراءة في كتاب (خلاصة تاريخ العراق منذ نشوئه والى يومنا هذا)
للأب انستاس ماري الكرملي(1866-1947م
دراسة وتحقيق صباح شاكر العكام.
د. عبد الرضا عوض
إنَّ التَّراث بصورة عامة المخطوط والمطبوع منه حجريا يُعد هوية للشعوب بمختلف تنوعاته ومصدر ثقافته وآرث حضاري للرقيّ، فينبغي الحفاظ عليه من الضياع والاندثار والاهتمام به فالحفاظ عليه واجب أخلاقي ووطني، ولعملية تحقيق المخطوطات أهمّية علمية وتاريخية في حفظ تراث الأمّة وإظهاره إلى السَّاحة العلميَّة، فبه يستطيع المُحقق المدقق أن يحفظ هذا الإرث الحضاري التاريخي، ثم يعرضه بعد طباعته على الملاء للإستفادة منه ، وإخراجه الى النُّور بدلاً من تركه مركوناً في رفوف المكتبات، ومن أجل إفادة القارئ والمطالع من هذا التّراث، بعد أن يبذل المحقق عناية خاصَّة وجهداً كبيراً في مراحل تحقيق الكتاب (المخطوط)، بما يتطلَّب الأمر من تَّصحيح، ومقابلته النَّسخ وتقييمها ، ومجمل تعريف هذا العلم هو تصحيح النّصوص وتوضيحها واثباتها وتوثيقها، وإحكامها، من قبل القائم بعمل التَّحقيق، وبأمانةٍ علمية، وهو علم كباقي العلوم الأخرى، إن لم نقل من أجلَّها.
فهذا التراث المخطوط كان نتيجة جهد ومثابرة وتظافر رجال العلم والعلماء الماضين – رحمهم الله- من هذه الأمَّة، وإنَّهم قضوا بعض سنوات عمرهم فيه، وبعضهم تركوا بلدانهم للسَّفر للبلدان الأخرى ولاقوا ما لاقوا من معاناة ، والعمل على تَّحقيق وإحياء التّراث المخطوط مراحل عدّة يمرّ فيها المحقق، فمن هذه المراحل معرفة مدى أهميته وفائدته والغرض من تحقيقه لهذا الكتاب، والبحث عن معرفة نسخ المخطوط وجمعها قدر إمكان المحقق، إن كان يتوفر أكثر من نسخة لهذا المخطوط، وإن لم يتوفَّر له نسخ أخرى بعد التّأكّد طبعاً من ذلك الأمر، فيعتمد على النّسخة التي حصل عليها مع الإشارة إليها في المقدِّمة، وبعد ذلك قراءة النّسخ وتوثيقها، لبيان أيهما أفضل نسخة، كذلك ذكر الأمور التي واجهته في عمله والإشارة إليها في مقدّمة التَّحقيق. ثم بيان طريقته التي اتّبعها في تخريج معاني الكلمات من المعجم، كذكره مثلاً مادة الكلمة والجزء والصّفحة، وباقي المعلومات التي يتم ذكرها وقائمة المصادر، وكذلك التعريف بالأعلام أمَّا أن يعرّف بكل واحد منهم في الهامش، وفي نهاية الكتاب تكون الفهارس الفنية التي نرى ان العكام قد أجهد نفسه في سبيل تنظيمها فهي تعطي قيمة فنية للكتاب المحقق.
هذه الأمور اتبعها المحقق العكام ، فبين يديّ نسخة من كتابه الأخير صدر تواً عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة قام بتحقيقه الأديب المحقق صباح شاكر العكام ويحمل عنوان (خلاصة تاريخ العراق منذ نشوئه والى يومنا هذا) وهو من تأليف الأب أنستاس ماري الكرملي(1866-1947م) ، يقع الكتاب في (376) صفحة من الحجم الوزيري ، وهو جهد موفق ومبارك ، إذا ما علمنا أن الساحة الثقافية في محافظتنا بابل قد تخلوا من المحققين إلا ما ندر.
راق للأديب العكام أن يتناول هذا الكتاب تحقيقاً وهي التجربة الأولى له فأبدع فيها بعد أن ولج خفايا هذه الصنعة المائزة إلا وهي صنعة تحقيق المخطوطات في دورة سريعة لعلم تحقيق المخطوطات ، فأتبع المنهج العلمي ودون مفرداته في ص19 تحت عنوان (منهجي في التحقيق). واشار المحقق الى أنّ الكتاب قد صدر عن دار الوراق سنة 2002م بعدد صفحات(260) من الحجم الوسط دون تحقيق ، وبعد مطابقته مع المخطوطة وجدت اختلافاً كبيراً بينهما ص10.
فالمحقق اورد في مقدمته:" حصلت على المخطوطة من مؤسسة الإمام كاشف الغطاء في النجف الأشرف ، وتحوي على 300 صفحة من الحجم الصغير ، وهي خلاصة تاريخ العراق منذ نشوء دولته الأولى إلى الاحتلال البريطاني للعراق .والمخطوطة تحوي على مقدمة المؤلف والتي أوضح فيها طلب ناظر المعارف في أيام الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1918م وضع منهج لتاريخ العراق لكي يدرس في المدارس التي افتتحت في ذلك الزمان من قبل البريطانيين . كما تحوي على (أقسام التاريخ وفوائد دراسته )" ص10.
وقبل الولوج في ثنايا تحقيق الكتاب لابد لنا من تسليط بعض الضوء على مؤلف الكتاب : فهو الأب إنستاس ماري الكرملي ، صاحب مجلة (لغة العرب) ، ولد في بغداد سنة 1866م ، من أب لبناني نزح إلى بغداد واستوطن فيها سنة 1850م ، وأم بغدادية . نشأ ودرس في بغداد وتخرج في مدارسها سنة 1882م .عمل مدرساً للغة العربية في مدرسة الآباء الكرمليين في بغداد . غادر إلى لبنان ودرّس في مدرسة الآباء اليسوعيين في بيروت وهو في العشرين من عمره ، ثم غادر لبنان إلى بلجيكا وانتمى إلى الرهبانية في دير شفرمون . ومن هناك انتقل إلى فرنسا ليدرس في مونبليه العلوم العالية في الفلسفة واللاهوت . ومن هناك زار (بلاد الاندلس). بعدها عاد إلى بغداد فاضطلع بإدارة مدرسة الآباء الكرمليين فهو ملم باللغات السامية كالسريانية والعبرانية والحبشية والمندائية الصابئية . كذلك له خبرة في اللغات الشرقية كالفارسية والتركية والإنكليزية والإيطالية والأسبانية .
في سنة 1911م أصدر الكرملي مجلة (لغة العرب) الشهيرة ، وفي سنة 1912 أصدر الكرملي (جريدة العرب) اليومية وهي جريدة سياسية وإخبارية ، استمرت أربع سنوات .
نفاه العثمانيون في خلال الحرب إلى الأناضول فبقي في (قيصري) سنة وعشرة أشهر (1914م – 1916م) ، وأعيد الى بغداد. وعرفته بغداد بمجالسها الأدبية والعلمية ، فكان له مجلس يؤمه كبار الأدباء والصحفيين والمثقفين وكان موعد افتتاحه الجمعة الساعة الثامنة صباحاً من كل اسبوع خلافاً لبقية مجالس بغداد التي تبدأ مساءً ، وعكف على تأليف العديد من الكتب بلغت (23) كتاباً اغنى بها المكتبة العربية من بينها هذا الكتاب مدار بحثنا. وتوفي ودفن ببغداد سنة 1947م.
لقد أورد المحقق كلمة المؤلف فكان منها : هذا الكتاب اقترحه عليَّ ناظر معارف بغداد بعد الاحتلال البريطاني بأكثر من سنة ، وهو الذي رسم لي فصوله ، فلبيت طلبه واستخلصته من نحو ستين مصنفاً بين عربي وفرنسي وإنكليزي وتركي ولاتيني ، وأتممته في نحو ثلاثة أشهر ، لأنه اقترحه عليَّ في حزيران سنة 1918م ولم أشرع به إلّا في أيلول لاشتداد الحر في بغداد في فصل القيظ ، ولهذا لم أنهه إلّا في تشرين الثاني . ولولا أن هذا التأليف موضوع للمدارس لذكرت أسماء المناهل التي وردتها بلوغاً لهذه الأمنية .ص23 .
تضمن الكتاب استهلال عن أهمية التاريخ ودراسته ثم جاء القسم الأول الذي تناول الحالة في الجزيرة القديمة قبل الاسلام ، وأحوال المدن الفراتية التي سماها بـ(المدالث) وجغرافيتها ومقابلتها بمدالث مصر والبنجاب، فالمخطوط مدونة موجزة عن تاريخ العراق القديم ، والذي تضمن تكوّن أرض العراق ، ومنابع الفراتين . كما تضمن العصور التاريخية التي مرت بها بلاد الرافدين على مدى التاريخ وحكام أموريين وكنعانيين وغيرهما .
واشار مؤلف الكتاب الى رحلة النبي إبراهيم (ع) من مدينة أور إلى أرض كنعان التي سكن فيها مع ابنه إسحاق وحفيده يعقوب وأبنائه وكان أحدهم يوسف ، كما تضمن حكاية موسى مع فرعون مصر . ومن الأقوام التي استوطنت شمال العراق (الآشوريون) وأقاموا إمبراطورية عظيمة ، ثم استوطنها الكلدانيون وأقاموا إمبراطورية عظيمة عاصمتها بابل ومن أبرز ملوكها (نبوخذ نصر) حتى اسقطت على يد الملك الفارسي الأخميني (كورش الثاني) .
ثم خضوع بلاد الرافدين إلى الاحتلال اليوناني عندما اكتسح الإسكندر المقدوني الشرق والغرب وأسس أكبر إمبراطورية في العالم القديم ، وبعد وفاته خضعت بلاد الرافدين إلى حكم السلوقيين ، ومن اشهر ملوكهم سلوقس الأول . وبعد ذلك احتلت بلاد الرافدين من قبل الفرس الساسانيين ، ومن أشهر ملوكهم (أردشير الأول) وسابور، والتي اسقطت بالفتح الاسلامي .
ويشير المحقق الى أن المؤلف قد استعمل تسميات للأشخاص والاماكن تختلف عما ورد في كتب التاريخ الاخرى ، وهذا اشكال ظهر امام المحقق للتوافق في بسط المسمميات، وأشار المؤلف الى الصنائع والفنون والريازة والذي يشمل فنّ البناء والصنائع والمهن قبل الإسلام في بابل في عهد الدولة الكلدانية وفي بلاد آشور.
أما القسم الثاني من المخطوط ، فكان الحديث فيه عن (الجزيرة في عهد الإسلام) والذي شمل الفتوحات الإسلامية في صدر الإسلام . وسطوة الأمويين على البلاد الإسلامية والتي اتخذت من دمشق عاصمة لها وسقوطها على أيدي العباسيين وقيام الدولة العباسية والتي اتخذت من بغداد وسامراء عواصم لها ، وقد توالى على حكمها 37 خليفة أولهم أبو العباس السفاح واخرهم المستعصم بالله والذي قتل على يد التتري هولاكو . كما خضعت بغداد إلى سطوة البويهيين والسلاجقة أثناء الخلافة العباسية . وبدخول التتر بغداد بقيادة هولاكو سنة 656ه/1258م.
واوضح المؤلف حفظ العرب لعلوم اليونان وعودتها إلى الغرب ، والذي تضمن ازدهار العلوم والفنون والآداب في العصر العباسي وخاصة في عهد المنصور والرشيد والمأمون الذي ظهر في زمانه عدد من الزنادقة والملاحدة حتى أصبح مفهوم الفلسفة مرادفاً للكفر والإلحاد . كما ظهر في عهد البويهيين عدد من العلماء والنحاة واللغويين والمؤرخين والشعراء .
واشار الكرملي الى الصنائع الاسلامية والريازة (فن البناء) ولا سيما فن الزخارف العربية والنقش أي التصوير بالألوان ، كما تضمن الأعصر الثلاثة المتعاقبة للريازة في بلاد الأندلس وفي المشرق العربي ، كما تضمن أبنية العراق قبل الإسلام وبعده وأهم الأديرة التي بناها العرب قبل الإسلام ، والقصور العباسية في بغداد وسامراء .ثم تناول مزايا العرب ، تعريفهم ، اسمهم ، مميزاتهم ،أخلاقهم ، كما تضمن في أقسام العرب المختلفة من بادية ومتحضرة . وقد ركز على أهل البادية (البدو) ، أشغالهم ، إدارتهم لشؤون القبيلة دينياً ودنيوياً ، وعيشة أهل البادية ، طعامهم ، لباسهم ، نظافتهم ، والوسم عند القبيلة ، وتطرق إلى مستقبل أعراب العراق . كما تضمن مستقبل ديار العراق ، مستعرضاً تأثير سلطة البحر على الأمم والشعوب 0
ويصف الكرملي احتلال بغداد من قبل الشاه إسماعيل الصفوي ، ثم احتلت من قبل العثمانيين على يد السلطان سليمان القانوني فتولى ولاية بغداد يوسف باشا ومن بعده حافظ أحمد باشا . ثم احتلت بغداد من قبل الصفويين مرة أخرى من قبل الشاه عباس الصفوي . ثم أحتلت بغداد مرة أخرى من قبل العثمانيين بقيادة السلطان مراد الرابع ويستطرد حتى قيام الحرب العالمية الأولى واحتلال البريطانيين للعراق سنة 1917م.
كتاب مهم وجدير بالقراءة بعد أن سلط المحقق الأضواء وبشكل موجز على تاريخ العراق منذ عصر الاكديين وحتى احتلال العراق من قبل القوات البريطانية عام 1917م ، وبدورنا نشد على آزر صديقنا صباح شاكر العكام على جهده هذا في رفد مكتبتنا العربية بالمزيد من النتاجات ، ومزيداً من العطاء إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين على نعمائه.

ليل 25 مايس 2021م



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن