مَخاطر المُخَطّطات الأمريكية في آسيا - دراسة من ثلاثة أجزاء

الطاهر المعز
husseinahwazy@gmail.com

2021 / 5 / 4

مكانة الهند في المخططات الإستراتيجية الأمريكية بآسيا
الهند - من رأسمالية الدّولة إلى الرأسمالية النيوليبرالية – الجزء الأول من ثلاثة أجزاء
تضحية الدولة بالقطاع الزراعي وبصغار الفلاحين
الطاهر المعز

تقديم:
مكانة آسيا في الإستراتيجية الأمريكية
أكّد الرئيس الأمريكي جو بايدن، في بداية فترة رئاسته "إن قيادة أمريكا للعالم تتطلب الدّفاع بشراسة عن المصالح الأمريكية، والحَزْم تجاه الصّين والتّشدّد تجاه روسيا"، وتُواصل إدارة "جو بايدن" ما بدأه "باراك أوباما"، سنة 2012، من تركيز للقوة العسكرية الأمريكية (مع حلفائها) في آسيا، بهدف مُحاصرة الصين، مع مواصلة استفزاز روسيا، عبر تكثيف المناورات العسكرية لحلف شمال الأطلسي، على حدود روسيا، وتعزيز التحالفات العابرة للأطلسي، مع أوروبا، والتحالفات العابرة للمحيط الهادئ مع آسيا، بالتوازي مع تركيز الإعلام الأمريكي على "مخاطر صعود الصين، ما يُقَوِّضُ هيمنة الولايات المتحدة"، ما يستوجب رصّ صفوف الدّول الإمبريالية (أمريكا الشمالية وأوروبا) في مواجهة صُعُود الصين"، والإعتماد على أستراليا واليابان والهند كقوى حليفة للولايات المتحدة، في مواجهة الصّين، في المُحيطَيْن الهادئ والهندي...
مثّل فوز الحزب الدّيمقراطي، وانتخاب "جو بايدن" رئيسًا، عودةً للخطط الإستراتيجية التي أعلنها "باراك أوباما" (كان جو بايدن يشغل منصب نائب الرئيس آنذاك)، والتّركيز على آسيا لمجابهة الصين، وتجلّت هذه العودة من خلال اختيار وزير الخارجية "أنتوني بلينكن" لمنطقة شرق آسيا، حيث أهم القواعد العسكرية الأمريكية (اليابان وكوريا الجنوبية) كأول وجهة لأول رحلة دبلوماسية له، ما قد يُؤَشِّرُ إلى مواصلة الحرب التجارية والإقتصادية والدبلوماسية ضد الصين، بالتوازي مع الإستفزازات العسكرية وتعزيز التحالف ضد الصّين...
عادت الولايات المتحدة للتركيز على الصين، بالتّعويل على الهند كحليف هام، وجديد نسبيًّا، إلى جانب أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وبعض الدّول الصغيرة الأخرى، ويندرج إعلان (مجرد إعلان) "الإنسحاب التّدريجي من أفغانستان" في هذا الإطار، حيث تُصبح القواعد العسكرية الأمريكية غير ظاهرة، وتُفَوِّضُ أو تُوَكِّل الإمبريالية أمر الإشراف على أفغانستان لقوى محلّيّة أخرى، منها الهند التي بدأت تدريب القوات الأمنية والعسكرية الأفغانية، منذ عدّة سنوات...

الهند نموذج التحولات السّلْبِيّة:
تزامنت موجة الإستقلال - الشّكْلِي في معظمه - للبُلْدان التي كانت مُستعمرات مُباشرة، مع ظهور نظريات وممارسات تُساهم في إرساء دولة ما بعد الإستقلال، لأن الإستعمار (أو ما يُمكن تسميته يُخَرّبُ ولا يَبْنِي، وعندما يضطرُّ جَيْشُهُ لمغادرة المُستعمرات يترك وراءه مشاكل لا تُحْصَى، ويُبْقِي البلدان "المُستقلة (المُحيط) تابعة للدّول الإستعمارية (المَرْكز) اقتصاديا وتجاريا وماليا وسياسيا...
حاولت حكومات بعض البلدان، حديثة الإستقلال، إنجاز برامج التنمية عبر رأسمالية الدّولة، أو عبر ما سمّاه بعضهم "التطوّر غير الرأسمالي"، وغير ذلك، وتأسست بعض التّكَتُّلات الدّولية مثل حركة عدم الإنحياز، وكانت الهند والصّين من أهم ركائزها، ثم انفَرَطَ عقدُها، وبعد خمسة عُقُود تأسست مجموعة "بريكس" (البرازيل والهند والصين وروسيا وجنوب إفريقيا)، وكانت الصين والهند من ركائزها أيضًا، قبل أن يحكُم اليمين المتطرف الهند والبرازيل، وتضعف جنوب إفريقيا، التي يرأسها حاليا رجل أعمال ثري، وقبل أن تصبح الصين والهند على شفا حرب، سنة 2020...
لم تخرج مثل هذه المحاولات عن المنظومة الرأسمالية (ونمط الإنتاج الرأسمالي) بشكل عام، رغم التطور الخاص بالصّين، في حركة عدم الإنحياز، وكانت الحكومات الأكثر نشاطًا في مثل هذه المجموعات تُطبّق رأسمالية الدّولة (الكينزية) أو ما تُسمّيه الطريق غير الرأسمالية للتنمية.
رَوّجت أُطْرُوحات النّظريات الإستعمارية في الإقتصاد السياسي أن تخلّف البلدان المُستقِلّة حديثًا يعود إلى خَلَلٍ داخلي، ولا علاقة لذلك بالهيمنة الخارجية، وعارضت "مدرسة التبعية" هذا الإدّعاء وركّزت على الهيمنة الخارجية، التي لم تنتَهِ مع خُرُوج الجيوش الإستعمارية (إن خَرَجَتْ بالفعل) بل تَواصلت هذه الهيمنة بأشكال أخرى، ومن بينها هيمنة الشركات العابرة للقارات على المواد الأولية والموارد الأخرى، وهيمنتها على حركة التّجارة الخارجية والمنظومة المَصْرفية، ما جعل الإستعمار يتواصل بأشكال أخرى، وما جعل الدّوَل "النامية" غارقة في دَوّامة التّبَعية، ولن تخرج منها بمحاولة "نَقْل التكنولوجيا" (وهو أمر لن يحصل أبدًا) أو بمحاولة "اللحاق" بالدّول الرأسمالية المتطورة.
حاول جناح من مدرسة "نظرية التّبَعِيّة" التنبيه إلى استحالة تنمية (و"التنمية" تختلف عن "النُّمُوّ") اقتصاد البلدان المُسْتَعْمَرَة (أو الواقعة تحت الهيمنة) من خلال برامج وخطط رأسمالية، ودعا إلى القَطيعة مع الرأسمالية التي تُعَرْقِلُ تَطَوُّر مثل هذه البلدان، والقطيعة مع الدّول الإمبريالية التي تنهب ثروات البلدان "النامية"، وتتوسّع على حسابها، وتمْنعها من التّطوّر، ما يُلغي استقلال دول "الجنوب"...
كانت الدّولة في معظم البلدان حديثة الإستقلال أهم مُستثمِر، بهدف تطوير البُنْيَة التحتية وبناء المؤسسات وإنشاء منظومة الصحة أو التّعليم، وغير ذلك من القطاعات التي أهملها الإستعمار، لكنها كانت "فترة انتقالية"، انتقلت بعدها إلى "اقتصاد السّوق" غير المُوَجّه، وإلى الخصخصة وبيع مؤسسات القطاع العام، وعدم تجاوز حُدُود "التّقسيم العالمي للعمل، بدعم وتوجيه من صندوق النقد الدّولي ومن البنك العالمي.
تُشكّل الهند نموذجًا يستحق الدّراسة، بسبب موقعها في آسيا، وبسبب الكثافة السّكّانية وسعة المساحة وتنوع المناخ، وبسبب التغييرات السياسية التي حصلت، بين 1947 (تاريخ الإستقلال) وبداية العقد الثالث من القرن العشرين...

نظرة عامة أو مُلَخّص للوضع بالهند، في بداية سنة 2021:
قبل عامين، في أيار/مايو 2019 ، فاز ناريندرا مودي في الانتخابات العامة الهندية من خلال زيادة عدد الأعضاء المنتخبين من حزبه (حزب بهارتيا جاناتا).
سمح هذا الانتصار الانتخابي لمودي بتعزيز سياسته العنصرية القائمة على عقيدة السيادة الهندوسية على الأديان الأخرى في البلاد ، وعلى مطاردة المسلمين (المحتملين) المفترضين. تبعت قرارات الصدمة بعضها البعض مثل إلغاء الوضع الخاص الذي تتمتع به كشمير ، الدولة الوحيدة في الاتحاد الهندي ذات الأغلبية المسلمة ، أو إطلاق بناء معبد مخصص للإله رام في موقع مسجد. ، التي بنيت منذ أكثر من ستة قرون ودمرها مسلحون هندوس. يسمح القانون بمنح الجنسية الهندية للأجانب بشرط ألا يكونوا مسلمين. كان هذا المشروع مناسبة للعنف العنصري وأثار مظاهرات لعشرات الآلاف من المواطنين ضد التمييز، وبالتوازي مع ذلك، أقَرّت الحكومة العديد من الإجراءات ضد المعارضين ، وضد وسائل الإعلام والجامعات والمنظمات غير الحكومية ، وكل من يعتبرهم الحزب الحاكم "خونة للأمة".
في الوقت نفسه، في العام 2021، وبعد سنتَيْن من الإنتصار العريض لرئيس الحكومة وحزبه اليميني المتطرف، يتجه اقتصاد الهند نحو الهاوية، حيث تواجه البلاد تباطؤًا حادًا في اقتصادها، بينما يستمر عدد الوفيات الناجمة عن "Covid-19" في الازدياد، ولما اتخذت الحكومة قرار الإغلاق الإقتصادي والحبس المنزلي، حاول الآلاف من المهاجرين الداخليين على الطرقات ، الذين حُرِمُوا من جميع الموارد، بين عشية وضحاها، العودة إلى قراهم الأصلية، وانتشروا في الطرقات، خارج نيو دلهي، يمشون على الأقدام.
كان الإقتصاد مُتباطِئًا بشكل حاد قبل الأزمة الصحية، ولكنه انهار تمامًا في الربع الثاني من العام 2020، مع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 24%، وأثّرت الأزمة في قطاعات الإقتصاد الرسمي، كما في الإقتصاد المُوازي (غير الرسمي ) الذي يعتمد عليه غالبية السكان، وتأثّر صغار المُزارعين بالإجراءات التي أقرتها الحكومة بذريعة "تحديث الزراعة"، ما يُعلّل الرفض القاطع من جانب الفلاحين لمشروع الحكومة والحزب الحاكم، ويُعَبِّرُ الفلاحون عن غضبهم في الشوارع وفي مدلاخل العاصمة "نيو دلهي"، منذ عدة أشهر.
على الصعيد الدولي ، ساءت العلاقات بين الجَارَيْن الكبيرَيْن (الصين والهند) وحصلت اشتباكات عنيفة على طول الحدود بين البلدين في جبال الهيمالايا، تعبيرًا عن تدهور العلاقات بينهما، وانحاز إعلام الدّول الإمبريالية للهند التي ترغب حكومتها استغلال النزاع مع الصين، لتعزيز مكانتها كحليف آسيوي ثابت "للدول الغربية" ضد "التهديد الصيني".

نموذج التنمية في الهند:
أصبحت الهند، منذ بداية القرن الواحد والعشرين (أي منذ انهيار الإتحاد السوفييتي) حليفًا للولايات المتحدة وللكيان الصّهيوني، وتدعمها الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي واليابان وأستراليا، لتُنافس الصّين، ولكي تُصبح قوة اقتصادية هائلة، لكن التطور الرأسمالي النيوليبرالي للهند يُخفي نقاط ضُعْفٍ هَيْكَلِيّة عديدة، ساهم الإضراب العام يوم 26 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2020 (أكبر إضراب في تاريخ الطبقة العاملة)، واحتجاجات المزارعين التي بدأت قبل عدة أشهر، ولا تزال متواصلة، في إبراز بعض مظاهر استهتار الدولة بحياة مئات الملايين من المواطنين، وبالأخص منذ آلت السّلطة إلى حزب "بهارتيا جاناتا" اليميني المتطرف وزعيمه "نانيندرا مودي".
تحتل الهند المرتبة الثانية من حيث عدد السّكّان، بعد الصّين، والمرتبة السابعة بخصوص المساحة، وهي الأكثر اكتظاظًا بالسّكّان، ويبلغ حجم قوة العمل (القادرون على العمل) نحو 520 مليون نسمة، يعملون في قطاع الخدمات (حوالي 55% من الناتج المحلي) وفي الصناعة (حوالي 26% من الناتج المحلي )، مع الإشالرة أن الهند ثاني أكبر مُصدّر للمنسوجات في العالم (بعد الصين) وفي قطاع الزراعة الذي يمثل حوالي 19% من إجمالي الناتج المحلي، وأدّى عدم التوازن بين الولايات وبين فئات السّكّان إلى انتشار الفقر، ما أدّى بالفُقراء إلى الهجرة نحو الخليج، حيث يُعاملهم صهاينة العرب (شيوخ النفط) كالعبيد، بينما تُعامل فئة أخرى من المهاجرين الهنود (مهندسين وخبراء الشؤون المالية والتقنية) بشكل مُغاير تمامًا، أي مثل المُغتربين "الغَرْبِيِّين"، ويُحوّل المهاجرون الهندِيُّون (حوالي 25 مليون مُهاجر) قرابة ثمانين مليار دولارا إلى بلادهم، بحسب تقديرات البنك العالمي، سنة 2019.
لفتت احتجاجات المزارعين انتباه العالم بخصوص أهمية القطاع الفلاحي بالهند، التي تعتبر ثاني أكبر مُنتج زراعي في العالم، ومن كبار مُنتجي القطن والحبوب (القمح والأرز) والبطاطا والبذور الزيتية والشاي وقصب السكر، والعديد من الفواكه الطازجة، وتُشغّل الزراعة (ومعها صيد الأسماك) أكثر من نصف القوى العاملة (ما بين 52% و 55,5% )، رغم انخفاض حصة الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي، والتي يتوقع أن تصل إلى حوالي 17% سنة 2021، لكن الإقتصاد الهندي يُعاني من مشكلات هيكلية عديدة، ومن مشكلات اجتماعية، نذكر بعضها ضمن هذه الورقة التي تهدف التعريف بالمحيط الذي نشأت ونُفِّذَتْ به حركة المُزارعين، بنهاية سنة 2020، وبداية سنة 2021.

حدّة التّفاوت الطّبَقي:
لم تُعَرّف حكومات الهند المتتالية الفَقْر، ولم تُحدّد خطّ الفقر، لذا توجد أربع تصنيفات للفقر، وتُقدّر بعض البيانات الحكومية (الشَّحيحة جدًّا) عدد من يعيشون بأقل من 1,9 دولارا في اليوم (للفرد الواحد) بنحو 170 مليون مواطن، سنة 2018، فيما يُقدّر باحثون مَحَلِّيُّون (من الهند) عدد الفُقراء بحوالي 320 مليون نسمة، اعتمادًا على تقاطُع عدد من البيانات، ويُقدّر البنك العالمي نسبة الفُقر المدقع بالهند بنحو 13,4% من السّكّان البالغ عددهم الإجمالي نحو 1,3 مليار نسمة، سنة 2018، اعتمادًا على بيانات الحكومة، وهي بيانات مشكوك في صحتها، وغير متفق على تعريفها للفقر، ونورد في فقرة لاحقة بعض الأرقام والنِّسَب التي أوردتها مؤسسات بحثية أو منظمات غير حكومية، غير مُعارضة لحكومة الهند.
رغم ارتفاع حجم الناتج الإجمالي المحلي، وارتفاع نصيب الفرد إلى حوالي 2360 دولارا للفرد سنويا، أي أعلى من باكستان وأفغانستان ونيبال، يبقى نصيب الفرد من الناتج المحلي بالهند، سنة 2020، أقل من سريلانكا وتايلند وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وغيرها من الدول الآسيوية الفقيرة أو المتوسطة، ورغم ارتفاع مستويات التعليم في الوسط الحَضَرِي، لأبناء الفئات متوسّطة الدّخل، تُصنّف البُنية التحتية والطرقات والنقل الحديدي وتعميم وصول الطاقة، والصحة والحد الأدنى من الرّفاه السكني (الطاقة وماء الشُّرْب والصرف الصحي) والتغذية، ضمن أسوأ دول العالم، فضلاً عن انتشار الفساد والرّشوة، والعُنف ضد النّساء والأطفال وبعض الأقليات الأثنية والدّينية وبعض الفئات الإجتماعية، وفي مجال الغذاء، تحتل الهند المرتبة الأولى في عدد رؤوس المواشي، والمرتبة الأولى عالميا في إنتاج الألْبان، لكن الدّولة لم تَقْضِ على الجوع، بل يُعاني أكثر من 15% من السّكّان من سوء التّغذية، ويُعاني أكثر من 30% من الأطفال من نقص الوزن، بحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة، بين 2015 و 2018، ووَرد في تقرير إحدى المنظمات المناهضة للعبودية أن أكثر من عشرة ملايين طفل يضطرّون للعمل، بسبب الفَقْر، وأن حوالي 1,4% من السكان (أو ما يزيد عن 19 مليون نسمة) مُسْتَعْبَدُون، ويضطرّون للعمل مجانًا (السّخرة) لصالح الدّائنين أو الأعيان، كما تنتشر بالهند ظواهر التّسَوُّل والدّعارة القَسْرِيَّيْن، والإتّجار بالبشر، ولئن انخفض حدة هذه الظواهر نسبيا، حتى سنة 2012، فإنها عادت إلى الإرتفاع، خلال الفترة الممتدّة من سنة 2014 إلى سنة 2020، بالتوازي مع تعميق الفَجْوَة الطّبَقِية والتفاوت في الدّخل...

بعض مظاهر التّخَلّف:
صنف صندوق النقد الدولي الهند كخامس أكبر اقتصاد في العالم في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في تشرين الأول/اكتوبر 2019، وفقا للناتج المحلي الإجمالي الاسمي، أي قبل بريطانيا، القوة الإستعمارية السابقة للهند (من سنة 1858 إلى 1847)، وتُؤكّد تقارير المُؤسّسات المالية الدّولية ووسائل الإعلام الإستعمارية على النمو الإقتصادي الهائل للهند طيلة عقد كامل، وارتفاع الإنتاجية، واتّساع حجم الفئة الوُسْطى، وغير ذلك، بحسب مؤسسة "ماكنزي" للإستشارات، وهو تقرير يُهْمِلُ تمامًا الصّعوبات الكبيرة التي تُلاقيها العديد من الفئات الإجتماعية للإستفادة من هذه التّنمية، إذ يُعاني قرابة 68% من السّكّان من الفقر (النّسْبي، أو أقل من دولارَيْن للفرد في اليوم)، ويعيش 30% من السّكّان الفُقراء بأقل من 1,25 دولارا يوميا للفرد، ورغم "التّنمية" المُفترضة (وهي في الحقيقة نمو أو ارتفاع حجم الناتج الإجمالي المحلي)ن فإن مئات الملايين محرومون من مُقومات التنمية الحقيقية، مثل الحصول على الكهرباء ومياه الشرب وخدمات الصرف الصحي، والتعليم والرعاية الصحية، وبعض وسائل الترفيه كالرياضة والثقافة، وغير ذلك.
رغم ترشيح الأوساط النيوليبرالية العالمية للهند لكي تُنافس الصّين، بالتّحالف مع الولايات المتحدة، وتصبح القوة الإقليمية التي تنوب الإمبريالية الأمريكية في بعض الملفّات الإقليمية، وتقوم ببعض المهمات القذرة بآسيا، تبقى مظاهر التّخلّف بارزة في الهند، بالإضافة إلى الفجوة الطبقية العميقة وإلى إقصاء وتهميش مئات الملايين من المواطنين، بدوافع طبقية واجتماعية وعُنْصُرِية، تتستّرُ أحيانًا بالدّين (أو الطّائفة)، اِتُطْلِق على الملايين صفة "المَنْبُوذِين"، بهدف تقسيم المواطنين الكادحين والفُقراء والأُجَراء، مقابل توحيد صفوف الأثرياء، وأظهر انتشار وباء "كموفيد 19" استهتار أجهزة الدّولة الطّبَقِية بحياة المواطنين، فقد نشرت وكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب.) يوم 19 نيسان/ابريل 2021 تصريحات لحاكم ولاية العاصمة "نيو دلهي" مفاده انتشار جائحة "كوفيد 19" لتصبح خارج نطاق السيطرة، حيث سُجِّلَت، خلال سبعة أيام، أكثر من 1,4 مليون حالة إصابة جديدة بفيروس كورونا، وتسجيل رقمين قياسيين جديدين خلال 24 ساعة (18-19 أبريل 2021)، مع 273810 حالة إصابة مُؤَكّدة، ووفاة 1619 شخصًا خلال 24 ساعة ، ليفوق عدد الإصابات المؤكّدة والمُوَثَّقَة 15 مليونًا منذ بداية الوباء، ولتحتل الهند المركز الثاني بعدد الإصابات، بعد الولايات المتحدة، وتعتبر العاصمة نيودلهي هي المدينة الأكثر تضررا، خاصة مع نقص الأكسجين والأدوية في المستشفيات، ما اضطر الحكومة الإتحادية إلى فَرْض إغلاق لمدة أسبوع واحد في نيودلهي (20 مليون نسمة) اعتبارًا من مساء الاثنين (19 أبريل 2021)، "لتجنب كارثة أكبر ... لأن النظام الصحي في دلهي غير قادر على استيعاب المُصابين"، بحسب رئيس الحكومة المحلية، فالمستشفيات مكتظة وتفتقر إلى الأسرة، بينما يطلب المواطنون الأسرة والأكسجين والأدوية، وفقًا لوسائل الإعلام المحلية التي بثت صورًا لطوابير طويلة في المستشفيات ومحارق الجثث.
يلقي العديد من الخبراء باللوم، في زيادة عدد الإصابات بالفيروس التّاجي وارتفاع عدد حالات الوفاة، على إهمال الحكومة الإتحادية (المركزية) من خلال السماح بالمهرجانات الدينية وتشجيعها، مثل مهرجان "هندو كومبه ميلا" الضخم الذي شارك فيه ملايين الأشخاص، من طائفة الهندوس التي تُشكّل الركيزة الإنتخابية الأساسية للحزب الحاكم "بهارتيا جاناتا" اليميني المتطرف، كما رخصت الحكومة للتجمعات الانتخابية في الولايات، ما ساعد على انتشار الوباء بسرعة، وزيادة حالات العَدْوى والوفيات.
بعد وقت قصير من إعلان الإغلاق، تشكلت طوابير بالقرب من المتاجر في العاصمة، تمامً كما حصل قبل الإغلاق على مستوى البلاد سنة 2020، وتدفق آلاف العمال إلى محطة النقل البَرِّي في شرق دلهي للسفر إلى ولاياتهم الأصلية بالحافلة، تمامًا كما في العام 2020 ، حيث فقد ملايين العمال وظائفهم ومداخيلهم الضئيلة، خلال فترة الحبس المنزلي، ما جعل الكثيرين يُقررون العودة - أحيانًا سيرًا على الأقدام - إلى ولايتهم الأصلية.
تَضُرُّ قرارات الحبس المنزلي بالعمال والفقراء الذين يحاولون إدارة كل يوم من أجل الغذاء، لأن الدّولة تُنفق المال العام لدَعْم الشركات الكبرى والأثرياء، وتُهمل العاملين والكادحين والفُقراء.
إن الأرقام التي أوردتها وكالات الاخبار (وكالة الصحافة والفرنسية ورويترز وأسوشيتد برس، يومَيْ 18 و 19 نيسان/ابريل 2021) تعتمد على بيانات وزارة الصحة، وهي دون الواقع بكثير، بحسب بعض الكُتّاب الهنود الذين أشاروا إلى تهاون الحكومة الإتحادية، منذ بداية الوباء، لأنها فضّلت مصالح الشركات الكبرى على حياة المواطنين، وهو ما حصل في كافة المجالات، خصوصًا منذ حصول حزب "باهارتيا جاناتا" وزعيمه "نانيندرا مودي" على أغلبية نيابية في البرلمان، ويُعَدُّ قطاع تجارة التجزئة، من المجالات التي أعادت الدّولة هيكلتها، لِتُقْصِيَ ملايين التّجار الصّغار، ثم جاء دَوْرُ الفلاحة، فهي من المجالات التي أرادت الحكومة (والطبقات التي تُمثل مصالحها) إعادة هيكلتها وحصرها بين عدد قليل من الشركات الكُبرى، ما أثار احتجاجات المزارعين، منذ أشهر، ضد القوانين الجديدة التي تَضُرُّ كثيرًا بمصالح صغار المزارعين، والمنظومة الغذائية لمعظم المواطنين...

احتجاجات الفلاحين ومسألة السيادة الغذائية:
تكمن أهمية قطاع الفلاحة بالهند في النسبة المرتفعة من سُكّان الريف، وارتفاع من يعملون في الزراعة، وكانت الحكومات المتعاقبة تدعم الفلاحة بأشكال غير مباشرة، حيث تُشرف على توريد وتسويق مستلزمات الإنتاج، وتُشرف على أسواق تسويق الإنتاج في البلاد، فكان الفلاحون يبيعون أهم المنتجات الغذائية، بأسعار مُحَدّدة، في أسواق تُشرف الدّولة على تسييرها، وعمومًا فقد مَكّن الدّعم الحكومي الفَلاّحين من الوصول إلى الأسواق، والتخزين، وضمان حد أدنى من أسعار الإنتاج الزراعي، واستيعاب العمالة الفائضة، حيث يستوعب القطاع الزراعي نحو ستمائة مليون شخص (سنة 2018)، أو ما يُعادل ضِعْف العدد الإجمالي لسكان الولايات المتحدة، ومن شأن انخفاض دخل واستهلاك هؤلاءِ، خَلْقَ أزمة ركود للإقتصاد المَحَلِّي.
بدأت حكومة الهند تنفذ برامج "إصلاح الإقتصاد" و "تحرير التجارة" بداية من 1991 (إثر انهيار الإتحاد السوفييتي وشُيُوع النهج النيوليبرالي)، وبدأت بالإنتاج الصّناعي، وفي سنة 1994، شرعت الحكومة في "تحرير الفلاحة"ن بإلغاء بعض القيود على توريد وتصدير بعض السّلع والمُستلزمات والتجهيزات والأسمدة، وغير ذلك، مع تخلّي الدّولة التّدريجي عن الإشراف على أسواق المنتجات الزراعية، تحت عنوان "تبسيط الإجراءات التجارية"، تطبيقًا لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية، والتزام حكومة الهند ب"إلغاء القيود" (أي إلغاء الدعم) بداية من سنة 2003، وإلغاء دعم صادرات الحبوب وبعض المنتجات الطازجة، وانخفض دعم شراء وتخزين وترويج الإنتاج في الأسواق الدّاخلية بنسبة الثُّلُثَيْن تقريبًا، خلال عقْدَيْن، وتأثّر الفلاحون الصغار بهذه الإجراءات فانخفض عددهم وانخفض دخلهم وزادت دُيُونهم، ما أدّى إلى انتحار الآلاف سنويا، وتزايدت احتجاجات المزارعين، سنة 2018، بسبب انخفاض الدّخل إلى حوالي خمسين دولارا شهريًّا، لِعَدَم حصولهم على أسعار "معقولة" لإنتاجهم، بسبب سيطرة الشركات الكبرى على القطاع الزراعي، بدعم وبتواطؤ من الحكومات المتعاقبة التي تُقَوِّضُ تدريجيا اتفاقيات وقوانين ضمان الأسعار والخدمات الزراعية، وتعزيز وتسهيل تجارة المنتجات الزراعية، وأصبحت ( الحكومات) تدعم بسَخاء شراء المُعدّات والآلات الزراعية والمبيدات السّامة والأسمدة الكيماوية، كما أضرت تقلبات الطّقس ونقص مياه الأمطار والري، بصغار المزارعين، مع ارتفاع الدُّيُون، وعجز حوالي 20% من صغار المُزارعين عن سداد الدّيون المتراكمة (أرقام سنة 2018)، بالتوازي مع تطبيق السياسات "النيوليبرالية"، التي أدّت على ظهور فئة من المضاربين بالسلع الغذائية، وشبكة من الوُسَطاء، واضطر أكثر من 3,5 ملايين مُزارع، سنويا، للنزوح نحو المدن الكبرى، بحثًا عن عمل (37 مليون شخصا خلال عشر سنوات، بين 2009 و 2018) وأعرب نحو نصف المزارعين عن رغبتهم في ترك العمل بالزراعة، لو توفرت لهم بدائل لكسب عيشهم، فهم حاليا لا يستطيعون تلبية الحاجيات الأسياسية لأفراد أُسَرِهِم...
ارتفعت حدة الغضب خلال فترة حُكم حزب "بهارتيا جاناتا" لأن زعيمه "ناريندرا مودي" غالط جمهور الناخبين من المُزارعين، وتَمَكَّنَ من الوصول إلى السّلطة، بفضل وعوده بمضاعفة دخل المُزارعين بحلول سنة 2022، ولكن الوضع ازداد سوءًا منذ 2014 (تاريخ حصول الحزب على الأغلبية البرلمانية)، وتتواصل الإحتجاجات الحالية منذ حوالي أربعة أشهر، بدعم من العديد من المنظمات الشعبية، والنقابات العُمّالية، رغم الإستفزازات والقمع والاعتقالات، واعتقال الأمين العام لاتحاد بهاراتيا كيسان (الاتحاد الزراعي الهندي)، ونفذ الفلاحون، يوم 26 آذار/مارس 2021، الإضراب العام الثاني خلال اقل من سنة أشهر، وكانت المحكمة العليا قد أقَرّت في كانون الثاني/يناير 2021 "حق الفلاحين في التظاهر والتعبير عن معارضتهم"، ومع ذلك ، تم اعتقال العديد من الفلاحين المتظاهرين ومن قيادات نقابات الفلاحين، خلال مؤتمر صحفي، كانت بعض القنوات التلفزيونية المحلية تَبُثُّ وقائعه مباشرة...

دروس واستنتاجات؟
بعد أكثر من ثلاثة أشهر من النضال المتواصل، لا يزال الآلاف من صغار المزارعين - حوالي 250 ألف يتناوبون على المُخَيّمات - يُحاصرون مداخل العاصمة "نيو دلهي"، وبدأت مُقاومة المزارعين الفُقراء بالهند تجد بعضَ الصّدى في وسائل الإعلام بالدّول الإمبريالية، وقد يُصبح نضال الفلاحين الهنود قدوة لبقية مُزارعي العالم، الذين تحاول بعض منظمات الفلاحين العابرة للحدود، مثل "فيا كومبسينا" (طريق الفلاحين)، الدّفاع عن مصالحهم، كما شكّل نضال الفلاحين ومُزارعي الهند فُرصةً لتجاوز التقسيمات الأثنية والعرقية، التي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة في الهند كما في الولايات المتحدة وبعض بلدان أمريكا الجنوبية (بوليفيا والبرازيل وغواتيمالا...)، ناهيك عن أوروبا حيث ارتفعت أسهم اليمين المتطرف، فأوروبا هي موطن العنصرية والرأسمالية والإستعمار والفاشية...
حظيَ المزارعون الهنود، بفضل صمودهم الطويل، من أجل إلغاء القوانين الفلاحية الجديدة التي سنتها حكومة "نانيندرا مودي"، بدعم الإتحادات النقابية للعُمّال والأُجَراء، التي نظّمت مع نقابات الفلاحين، إضرابًا عامًّا كبيرًا في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، وهو الإضراب العُمالي الثاني، حيث كان الأول في كانون الثاني/يناير 2020، الذي كان من العوامل المُشجعة للفلاحين على إطلاق انتفاضتهم، بعد بضعة أشهر، كما حظيَ احتجاج الفلاحين بدعم متزايد من حركات ومنظمات بيئية وطُلاّبية، في جميع أنحاء البلاد، كما في الخارج.
عمومًا، كانت هذه الإحتجاجات، فُرصةً لتوحيد صفوف المعارضة السياسية، ربما بشكل مُؤَقّت، رغم افتقار أكبر أحزاب المعارضة (المؤتمر) لبرنامج بديل لحزب بهاراتيا جاناتا الحاكم منذ العام 2014، وقد تُؤَدِّي هذه المقاومة إلى خلق أو توسيع الشبكة المناهضة لسياسات رئيس الوزراء، وحكومته وحزبه، بسبب رفضه التراجع عن "إصلاحات" يرفضها المزارعون، بل وإصراره على فَرْضها بالقوة والقمع، بهدف استحواذ الشركات الكبرى على القطاع الزراعي، وإلغاء الأسواق التي تنظمها الدولة بضمان أسعار دنيا لبعض المواد الغذائية الأساسية التي ينتجها المزارعون المحليون.
عند تعميق البحث عن منشأ هذه الإنتفاضة الفلاحية (الرّيفية)، نلاحظ أنها انطلقت من ولايتي البنجاب وهاريانا، وهما ولايتان تقعان في شمال البلاد، وتسكنهما طائفة السِّيخ، وتحتل الولايتان مرتبة متقدمة في الإنتاج الغذائي بالهند، ثم انتشرت الإحتجاجات بسرعة، منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2020، في عدة ولايات لتشمل مُزارعي الحبوب والخضار والفواكه، ومربي المواشي (إنتاج الحليب)، وحققت سياسات حزب "بهارتيا جاناتا" العُنصرية والمتطرفة، إنجازًا عظيما يتمثل في التحام المزارعين الهندوس والمسلمين، فيما ترتكز عقيدة الحزب الحاكم (هندوسي) على "تفوّق الهندوس" على بقية الأديان والأعراق، واعتبار غير الهندوس غير جديرين بالجنسية والمُواطَنَة، واعتبار المسلمين "أعداء داخليين" (للهندوس)، وكانت الحكومة قد حرضت على تهديم مسجد تاريخي، ضمن أحداث أدّت إلى قَتْل حوالي ألفي مسلم هندين واستخدم الحزب الحاكم نفس هذا الخطاب العنصري في السياسة الخارجية، للتحريض ضد باكستان، لكن قد تُؤَدِّي احتجاجات الفلاحين الحالية إلى إحداث بعض التغيير، بحصول تقارب، خلقته النضالات المُشتَرَكة بين الهندوس والمسلمين والمسيحيين والسّيخ، بمشاركة مُكثّفة للنساء ولفئة الشباب، ضد برنامج نانيندرا مودي لتخريب القطاع الزراعي، وضد الخيارات الاقتصادية النيوليبرالية للحكومة التي لن تؤدّي إلا لتفاقم الفقر.
تلجأُ معظم حكومات العالم إلى تشويه المُعارضين لسياساتها، باستخدام وسائل الإعلام الموالية، ونشرت وسائل الإعلام الهندية الموالية للحكومة معلومات مُضَلِّلَة عن مشاريع قوانين الحكومة، وعن وَضْع المُزارِعين، لكن الإحتجاجات خلقت أو دعمت الوعي الشّعبي بأوضاع الفلاحين ومآسيهم التي تدفع الآلاف منهم للإنتحار سنويا، كما خلقت شبكات من التّضامن، داخل الهند وخارجها، ووعيًا مُتزابدًا بأهمية السيادة الغذائية، وفي الهند تُشكّل فئة صغار الفلاحين والعاملين في قطاع الزراعة (بدون أرض أو على حيازاتهم الصغيرة) نحو 85% من سُكّان الأرياف الذين يعتمدون في معيشتهم على الزراعة وتربية المواشي، ويرزح العديد منهم تحت وطأة الدُّيُون وفوائدها المرتفعة، ومخاطر العجز عن تسديدها بسبب الجفاف أو فساد المحاصيل، ويحتاج المزارعون إلى استقرار الأسعار وضمانها، لكن مشروع الحكومة يسمح لعدد قليل من الشركات بالتحكم في مجمل الإنتاج والتّسويق، وفَرْض أسعار منخفضة لإنتاج الفلاحين، ومعظمهم من الأميين الذين لا يمكنهم الدّفاع عن مصالحهم سوى بالإتحاد وتكثيف عدد المُشاركين في الإحتجاجات، مع وُضُوح المطالب والأهداف، رغم النّواقص، وأهمها إهمال مصالح الفلاحين الفاقدين للأرض وعُمّال الزراعة والمُهَمّشين (دليت) الذين يستغلهم كبار الفلاحين وكذلك الفلاحون المتوسّطون...
إن القوانين الثلاثة التي تُحاول الدّولة فَرْضَها بالقُوّة، تُؤَدّي إلى انسحاب الدّولة تمامًا وانتهاء دورها "التّعْدِيلي"، أي الإنتقال من النيوكينزية إلى النيوليبرالية، لتتنصّل الحكومة من دور التّدخّل والرقابة على تسويق الإنتاج الزراعي، وترمي بالفلاحين في شِباك الشركات الكبيرة التي تمتلك قدرة كبيرة على احتكار وتخزين الإنتاج الغذائي، والتّحكّم في توزيعه، وبأسعاره، كما تهدد الأمن الغذائي، وتقضي على تنوع المحاصيل الغذائية المَحَلِّيّة، وتقضي على سُبُل عيش عشرات الملايين من الفلاّحين.
تُقَدّم المؤسسات المالية الدّولية، والصحافة الليبرالية المتخصصة بالإقتصاد، الهند كبلد متطور، سوف يكون قادرًا، في مستقبل قريب، على منافسة الصّين، وتعتمد هذه المؤسسات والصّحُف على زيادة الناتج المحلي الإجمالي، وعلى عدد ناطحات السحاب والمصارف والتّطوّر التّقني، في بعض المجالات، والواقع أن التفاوت كبير جدًّا، حيث لا يزال ما لا يقل عن ثُلُثِ السّكّان تحت خط الفقر، سواء في الرّيف أو في الأحياء الفقيرة بالمُدُن، رغم وجود شركات عابرة للقارات، ذات مَنْشَأ هندي، في مجالات الصّلب، وصناعة الأدوية والتكنولوجيا.
تُشكّل قوانين "الإصلاح الزراعي"، موضوع احتجاج صغار ومتوسطي المُزارعين، مدخلاً لدمج الإقتصاد الهندي والعدد الضخم لسكانه (المُستهلكين) في منظومة الإقتصاد النيوليبرالي، الذي تقودُهُ الشركات الكُبْرى العابرة للقارات، التي سوف تُهيمن على الأراضي الزراعية وعلى الإنتاج الغذائي، ودعا بعض رُموز حزب "بهارتيا جاناتا" الحاكم إلى إلغاء الدّعم تمامًا، ما يرفع أسعار البُذُور الأسمدة والمحروقات، أما خروج الدّولة من عمليات تسويق الإنتاج بذريعة "التّسويق المباشر"ن فيؤدّي إلى إدماج قطاع الزراعة (الأرض والتجهيزات والإنتاج) في "اقتصاد السّوق"، وسيطرة شركات القطاع الخاص، وخاصة الشركات الكُبْرى، على القطاع الفلاحي، لتحتكر الغذاء، عبر قُدْرتها على تخزين كميات كبيرة، فتتحكّم بالأسعار عبر رَفْعِها، لزيادة أرباحها، فيتضرر المُنْتِجُون من صغر الفلاحين، ببيْع محاصيلهم بالأسعار التي تفرضها الشركات، ويتضرر المُسْتَهْلِك بسبب ارتفاع أسعار البيع بالتّجْزِئة، ما يزيد من صعوبة الحُصُول على الغذاء، ويزيد من مشاكل الفقر والجوع...
خاتمة الجزء الأول
يندرج ما يجري حاليا بقطاع الفلاحة بالهند ضمن "الإندماج" بالإقتصاد النيوليبرالي والعَوْلَمَة، وسبق أن فرضَ الدّائنون (صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي والإتحاد الأوروبي...) "تحرير قطاع الفلاحة والإنتاج الزراعي" على دول عربية مثل المغرب وتونس ومصر والأردن، منذ قرابة أربعة عُقُود، تدريجيًّا، وبفوارق طفيفة في التّفاصيل، ما أدّى إلى إفقار الفلاّحين وزيادة أسعار الأسمدة وعلف الحيوانات والسلع الغذائية، وانقطاع البذور المَحَلِّيّة التي تكَيّفت مع المناخ والتُّرْبَة، مقابل توريد البذور المعدّلة وراثيا، والتي لا تصلح سوى لموسم واحد، وتخصيص مساحات هامة وموارد (مياه وتُرْبَة وطاقة...) لإنتاج سلع مُعَدّة للتصدير، فيما انخفض إنتاج المواد الأساسية كالحبوب واللحوم، وأصبح العمل الفلاحي غير مُجْدٍ، بسبب المنافسة بين أطراف غير مُتكافئة (الفلاحين الصغار مُقابل الشركات الكبرى)، ما زاد من تدهور دخل صغار الفلاحين، وزيادة حجم الفَقْر والتّهميش والبطالة في الأرياف، ومن نُزوح فُقراء الرّيف نحو المُدُن...
جابهت حكومات الدّول العربية نضالات الفلاّحين بالعُنف المُسَلّح وبالغاز المُسيل للدّموع، أما نقابات الفلاّحين فهي صَدَى لخطاب الحكومات، ولا تُمثل سوى مصالح كبار الفلاّحين، ولا توجد نقابات تُمثّل صغار الفلاّحين في البلدان العربية، تجمع شملهم لمقاومة ارتفاع مدخلات الزراعة، بالتوازي مع انخفاض سعر البيع عند الإنتاج، وارتفاع سعر نفس الإنتاج في أسواق البَيْع بالتجزئة...
تُشكّل الشركات العابرة للقارات خَطَرًا على الأمن الغذائي للشعوب، لأنها تحتكر الأرض والإنتاج، وتتحكم بمسالك التّوريد والتّصدير، وتُعَرقل عملية تحقيق الإكتفاء الذّاتي الغذائي، أي إنتاج معظم الإستهلاك الغذائي المَحَلِّي، وتحظى هذه الشركات بدعم الحكومات لاستيراد الحبوب واللحوم والألبان ومشتقاتها، وما إلى ذلك من الإنتاج غير الصّحّي، وغير الملائم، والمُعَدّل وراثِيًّا، بالعُملات الأجنبية، في ظل انخفاض قيمة الدّرهم والدّينار والجُنَيْه، وبذلك فهي تُعرقل السيادة الغذائية التي لا تتحقق بدون إنتاج البلدان الفقيرة ما يكفي كل مواطنيها من الغذاء الجَيّد والرّخيص، والمُلائم صحّيا و"ثقافيا"...
من الضروري دراسة تجربة مقاومة الفلاحين في بعض بلدان أمريكا الجنوبية وكذلك بالهند، لاستلهام أشكال نضال متميزة وتكييفها بما يتلاءم مع الوضع المحلي بمصر أو بالمغرب أو بتونس.
رَوّجت حكومة "نانيندرا مودي" وحزْبُهُ الحاكم، ونوابه بالبرلمان، أن تجمُّع الفلاحين على أطراف العاصمة هو السّبب الرّئيسي لانتشار وباء كوفيد 19، ولم تتخذ السّلطات أي إجراءات صِحِّيّة، بل ركّزت على قَمْع كافة أشكال المُعارضة باستخدام العُنف، فيما يواصل الحزب الحاكم اجتماعاته الانتخابية دون حماية صحية، ويُواصل دُعاة الدّين السياسي (الهندوسي) تجمعاتهم، بالتوازي مع اهتمام حركة الفلاحين بالصحة العامة للسكان، وبتطعيم كل من يتواجد بمخيمات الإحتجاج على مداخل العاصمة، وفي المناطق الأخرى من البلاد، ويوزع الفلاحون الأقنعة والمعدات الطبية على نطاق واسع في جميع الأماكن التي يحتلونها، كما ذهب الفلاحون وأنصارهم إلى محطات الحافلات والقطارات حاملين أكياس طعام لتوزيعها، ودَعَوْا العمال غير المستقرين إلى عدم العودة إلى قُراهم الأصلية، بل إلى مقاومة السلطة، والإنضمام إلى حركة الفلاحين، في مخيماتها، والاستقرار بها، بالإضافة إلى ذلك ، فتح الفلاحون أيضًا مقاصف وقدموا وجبات مجانية في معسكراتهم للعمال المطرودين من دلهي، اعتبارًا من 20 نيسان/أبريل 2021، مع ضمان الغذاء المجانين في المُخَيّمات، لفترة ستة أشهر، لتوسيع رقعة الإحتجاجات ضد الحكومة المُعادِية للعاملين وللفُقَراء.
لقد تحولت أماكن تعبئة وتسكين الفلاحين إلى مراكز للرعاية الصّحّيّة وللتلقيح والعلاج، وأماكن استقبال وطعام وإيواء للعمال غير المستقرين والعمال "المهاجرين"، وتحشد حركة الفلاحين الفئات المحرومة والفقيرة، تحسُّبًا لأي هجوم غادر ومفاجئ، محتمل من قبل الحكومة، وبذلك تمكّنت حركة الفلاحين من اكتساب أبعاد جديدة، وأهمية وطنية، وتشكيل ما يُشْبِهُ السُّلُطات المُوازية، تضع السّلطات السياسية في موقف حَرج. من جهة أخرى دعت حركة الفلاحين إلى مسيرة وتجمّع أمام البرلمان، خلال النصف الأول من شهر أيار/مايو 2021.
تُتِيح لنا دراسة نضالات مُزارعي الهند طَرْحَ تساؤلات بخصوص السيادة الغذائية للشعوب (وهي تختلف عن الإكتفاء الذاتي الغذائي، وعن الأمْن الغذائي)، عبرتطوير تجارب الفلاحة التقليدية، بدَلَ نَسْفِهَا وإلْغَائِها، لأن فلاحة السّكّان الأصليين بأمريكا أو إفريقيا، أو فلاحة الأجيال السابقة بالوطن العربي وآسيا، وغيرها، تُمارس عملية إعادة التّدْوير، قبل أن تنشأ أحزب "الخُضْر" (المحافظة على البيئة)، وتستخدم الفلاحة التقليدية المواد العضوية والسماد العضوي لإثراء التُّرْبة، كما يُتقن الفلاحون التقليديون عملية تلقيح (تلقيم) الأشجار المثمرة، وتنويع النباتات، والجمع بين الإنتاج الزراعي وتربية الحيوانات، وغير ذلك مما يُساعد على إنتاج معظم ما يحتاجه السكان من الغذاء.
عندما أُتيحت بعض الفُرَص القليلة لمُزارعي المغرب أو تونس أو مصر للحديث عن مشاغلهم وعن مُضايقة الدّولة والشركات العابرة للقارات، يُلَخِّصُون بكلماتهم وعباراتهم البسيطة مفهوم السيادة الغذائية، ما يُؤَكّدُ وطَنِيّتَهُم، في مواجهة عمالة السُّلُطات الحاكمة، ولذلك فنحن مُقصّرون في دعمهم...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن