موقف الذات وتأسيس ملامح الخطاب الشعري في ديوان -بلا خبز ولا نبيذ-بقلم/د.كمال اللهيب

مؤمن سمير
momensamir76@yahoo.com

2021 / 4 / 18

يشكل العنوان في ديوان " بلا خبز ولا نبيذ" للشاعر مؤمن سمير(*) علامة نصية أولى للدخول في مسارب نصوصه المتشابكة, فيأتي كمفتاح نصي يفتح أفق توقعات القارئ, وأول ما تنفتح عليه تلك التوقعات, هو استدعاء واحد من أهم الأسرار الأرثوذكسية السبعة, وهو سر التناول أو سر الشكر, والذي يمثل الخبز والنبيذ في سياقه أسمى الهبات الممنوحة, عندما يستحيلان من خلال معجزة التحول إلى موضوعين مقدسين, يحققان الخلاص الروحي للذات, والبشارة بالأبدية.
وهنا تتجسد أزمة الذات ومأساتها في تلك الأحرف الثلاثة التي تسبق كلمتي "خبز" و "نبيذ", حيث تقف كلمة "بلا" حاجزا منيعا يحول دون وصول الذات فردوسها المنشود, الذي يتمثل في الخلاص الروحي الأبدي من سعير الحاضر, وكلمة "بلا" في سياق العنوان حبلى بكل المدلولات التي تؤكد على عجز الذات عن الخلاص, وفقدانها اليقين والسلام النفسي, كما تقرر في الوقت نفسه الموقف الوجودي والنفسي للذات في لحظة إنشاء خطابها الشعري, فالذات مصلوبة في زمنها الراهن, يدق الحاضر مسامير الفقد في أطرافها, ويعتصرها الماضي, أما المستقبل بالنسبة لها فيكاد يكون محض خرافة, لا يحمل أي بشارة بالخلاص.
ومن هذا المدخل يمكن تصور موقف الذات الشاعرة, والذي كان بمثابة الرحم التي تولد عنها الخطاب الشعري, واستمد من جيناتها ملامح تشكيله ورؤيته, الذات في "بلا خبز ولا نبيذ" ذات ثلاثة أبعاد متشابكة, وجودية ومعرفية ونفسية, فهي متشظية وجوديا ومنقسمة, تفتقد الوحدة والتكامل, وهذا الفقد والتشظي ينعكس معرفيا على رؤيتها للعام, فتراه منقسما متشظيا بالضرورة مفتقدا للاكتمال, وبالتبعية تفقد الذات يقينها فيه وفي المنطق الذي يحكم العلاقات بين موضوعاته, فتلفظ ذلك المنطق, وتشتق منطقها الذاتي (أو لا منطقها) الذي يحكم العلاقات بين موضوعات عالمها الشعري, وهذان البعدان يتصلان مع البعد النفسي فتكتمل الدائرة المفرغة التي تحاصر الذات, فتشرع في إنشاء خطابها الشعري من حال اللا اكتمال وفقد اليقين وافتقاد الآخر الغائب, هذا الآخر الذي قد يمثل أحيانا الجزء الذي تفتقده الذات من نفسها.
موقف إنشاء الخطاب:
الذات في الديوان لا تعيد إنتاج تجربة عانتها فيما مضى, وانقضى عليها وقت قامت فيه بتأملها وبنينتها معرفيا وجماليا وفق نسق سابق الإعداد, بل العكس هو الصحيح, فالذات لم تقترف على مدار الديوان فعل الترتيب المنطقي لموضوعات تجربتها بأية حال, بل تورطت إنشاء خطابها الشعري من داخل التجربة التي تكابدها وتعانيها لحظة إنتاج خطابها الشعري, تجربة اعتصار الألم, وكما تُعتصر حبات العنب فتكون نبيذا, وكما تطحن حبات القمح الكثيرة فتكون خبزا واحدا, هكذا يمكن تصور بنية الخطاب الشعري في "بلا خبز ولا نبيذ" في كليتها, فهي طحين من حبات الفقد وافتقاد اليقين والسلام الروحي, معجونة بعصير الألم, خليط متداخل يصعب فك مغاليقه للوهلة الأولى, يفتقد ظاهريا للمنطق السببي, وأي منطق هذا يمكن يحتمله من يكابد هذا السعير.
وبعد أن استعرضنا طبيعة الذات, والموقف الوجودي والمعرفي والنفسي الذي انطلقت منه في إنتاج خطابها الشعري, نقتفي بعض آثاره التي انطبعت على التشكيل الشعري والمخزون الرؤيوي في الديوان, ومن أبرز تلك الآثار.
الصورة الذاتية للذات:
في البدء يكون الجسد هو وسيلة الاتصال الأولى بالعالم, ولكن ما طبيعة ذلك الاتصال الذي يمكن أن يحدث بين ذات متشظية وعالم مفكك, وتنبع صورة الجسد في الديوان من صُلب الموقف الوجودي للذات, فالجسد تتناثر شظاياه عبر الديوان, لا نعثر عليه مكتملا, ونجد أجزاءه فرادى, الأصابع, اللحية, الصدر, الذراع, السيقان, الشرايين, الجلد, الدماء, الدمع...إلخ, وصورة الجسد في الديوان وإن كانت تنبع من الموقف الوجودي للذات, فإنها تصب في الموقف النفسي, فيعكس هذا التفكك الخارجي مدى العذابات الروحية والخواء الداخلي, التي يقررها المقطع الأول في أولى قصائد الديوان "مراوغات":
" الأعصاب والجلد, فقط, هما أحزمة جسدي.. الأمر الذي لا يحتاج إلا إلى العبث اللين بإي آلة حادة عند المداخل, لتنفك, وينفلت ويصير طريا تلوح للممر خيوطه... مجرد خرقة يمسكها الولد الشقي ويفردها مع خوف الصباح ويصنع شبكته الملونة ".
الشعور بالفقد واللا اكتمال:
تلك الحالة الوجودية الراهنة التي آل إليها الجسد في الزمن المضارع, والتي يتم تقريرها في أول قصائد الديوان, هي نتيجة نهائية لما آلت إليه الذات, وللوقوف على مسبباتها البعيدة, اعتمد الخطاب الشعري على توظيف آلية الاسترجاع مرارا عبر قصائده, فاستدعي سلسلة طويلة من أنواع الفقد, فقد الحبيبة, الأب, الصاحب, فقد اليقين,..إلخ.
وفي قصيدة "يسحق الزجاج تحت قدميه" نقف على أحدها, وهو فقد الصاحب:
" جفوني تدلت وأصبحتُ قبيحا يوم غاب صاحبي الشرير. صدره كان يبرق فينفتح باب المسرات وإن أشار بإصبعه تحجل الذكرى وأنا ورائها نحو الضوء".
وتعاود صورة الصاحب إطلالتها عبر قصائد الديوان, كضربات فرشاة سريعة, ففي قصيدة "هو الآتي من متاهة, وأنا المضمرُ فيها", يطالعنا مقطع دال يقول:
" صاحبي هذا طيب كوالده وجده.. هو الوحش وأنا الضئيل لكنه يحبني دون عقد وأحس أحيانا أنه يخشاني, وكلما أفوت عليه وأدعي المرض أو الغياب يجزع بصدق وتزيد ضربات قلبه مما يجعل الدم يضطرب في البحيرة فأرفع نظري لذكرياته, وأشرع في إحصاء الرعشات" .
ونلاحظ اختلاف طبيعة الذات عن طبيعة الصاحب/الذات المفتقدة, فهما كطرفي المغناطيس, لا يتجاذب قطباه إلى إذا اختلفا, لكنهما على اختلافهما يتكاملان في الوقت نفسه, ويصبح غياب أحدهما مأساة الآخر.
ويقربنا المقطع التالي أكثر من ذلك التصور,حيث تتراجع نبرة الرثاء لبرهة عندما تتناسى الذات الشاعرة ذلك الفقد, وتعيد إنتاج ومعايشة الماضي:
" تَعلَّم حبيبي القراءة وأغرم بألبرتو مورافيا وهنري ميللر وباطاي وطلب زيارتهم في غرفهم واقترح أن تكون الكتب على شكل عمود حوله رايات.. وضحكنا من جهة القلب.. يشاهد الأفلام ويذوق الموسيقى ويتسلى بالقفز بين غرز الشباك ويعلق صور الأفيال في الغرفة وأحبَّ التاريخ حقا.. يرقص كلما شاف كهفا في عمق المشهد وينتشي كلما دفنوا الجثمان ".
ومع تلك الجملة الأخيرة تبدأ نبرة الرثاء في العودة مجددا, بعد هذا الانطلاق الصاخب السريع, حيث العودة للسكون مرة أخرى وفقد طعم الحياة ولونها, ونتساءل هنا, هل كانت الذات ترثي ذلك الآخر المفتقد حقا, أم كانت ترثي جزءا منها, حرمت من الحياة التي تتوق إليها بفقدها إياه.
تفكيك المنطق السببي:
ويشكل هذا الفقد صدمة معرفية للذات, تترك بصمات واضحة على لغة الخطاب الشعري, ومن أبرزها تفكيك المنطق السببي الخطي, وكسر العلاقات التقليدية بين موضوعات العالم الشعري, ففي قصيدة "عندي حفار قبور يحبني وأحبه" تقرر الذات منطقها أو (لا منطقها) الذاتي الخالص الذي يناوئ المنطق السببي:
" أبي مرتاحٌ تحت بلاط الصالة ويكلمني بعد أن يناموا وحبيبتي سِبتُ لمستها الصادقة التي وقعت منها فجأة, كي تتجمد وتظل تقول أحبك حتى تكبر وهي تظن أن الزمن هو الذي أرشدها في البحيرة.. أصواتي التي تركضُ كل برق, ألُمُّهم في علبة أخبط على قلبها فتخبرني بالوقت.. كأنني ثَبَتُ عقارب الساعةِ على الخوف.."
تجاوز العلاقات النمطية:
أيضا من البصمات الواضحة الذي يتركها موقف الذات على لغة الخطاب الشعري, تجاوز العلاقات النمطية بين موضوعات العالم الشعري, واشتقاق علاقات جديدة تتشبع برمزية ذاتية, يكون المرجع في الوقوف على مدلولات دوالها, هو الذات الشاعرة نفسها, وما تنتجه من دوال داخل خطابها الشعري, مما يفتح أفق تأويل النصوص على مصراعيه, بحسب أفق توقعات كل قارئ, ويعزز ذلك الانفتاح الدلالي توظيف اللغة لآلية تراسل الحواس.
وتتبدى تلك الملامح في المقطع التالي من قصيدة "الطلسم":
" يجعلون بيني وبيني حاجزا, رسمةً مرتعشةً, كهفاً ثرثاراً أو بحراً يربي حدائقه على شهقاتِ القراصنةِ.. فألمح أصواتاً تَقلِب الحوائطُ غمراً وأنيابا تلاحِق الظلَّ وطفلا يئنُّ من خَبَث المسمار.. يفصلون بين كلام ساكن المرآة وبين النومِ العجوزِ, فتلاحِقَ الهمهماتُ العناكبَ, في الشقوق وتحتَ السخرية".
بناء الحدث السردي:
وبناء الحدث السردي في الديوان لا يأخذ اتجاها خطيا يسعى إلى تكوين مشهد شعري واضح السردية, بل نزعم أنه لا يتم تقديم الحدث عبر الديوان بصورته النمطية, فما تقدمه النصوص بالفعل هو وقع أو انعكاس هذا الحدث أو ذاك على صفحة مرآة الذات, وبالتالي فلا تقوم الأحداث ببناء مشهدية واضحة الملامح, وإنما تقوم بتقديم الإيحاء بمشهدية ما, نكاد نتبينها بعدما تعبر خلال منشور الذات.
في قصيدة "إعادة إنتاج القسوة" نقف على ملامح حدث متصل, تقوم عليه مشهدية النص, وتعتمد الذات ضمير المتكلم لتنشئ سرديتها, فتعلن في لحظة إنشاء خطابها الشعري عن تخلصها من ذلك الآخر الثقيل في اليوم السابق:
" بالأمس تخلصت منه, ذلك الثقيل, الذي راوغته عمري كله حتى ملَّ أخيرا.. رميت بالكلام دون وجل, على طول ذراعي وتنفست من عمقي..
ثم تكشف المزيد عن طبيعة العلاقة مع ذلك الآخر الذي تخلصت منه, وهو الكشف الذي سيترتب عليه تطوير الحدث:
..لكن لأنني أخشى مكره قلتُ أستنفذ قواه,
وأمتصها...
ملأتُ الغرفة بالكذب والكره والحب والكذب والمداهنات البلاغية والسخرية والكذب والمناورة والرحمة والالتباس والغباء والفوز والقتل والشَّم...
ثم تنتقل بؤرة السرد على ذلك الآخر لتبيان مآله:
للمرة الأخيرة.. يشم في العيون الزهو بحيويته, قبل أن ألُمَّ زبده على ظهري, وأنحني, وأُلقمه الديدان الصديقة..
ثم تنتقل بؤرة السرد إلى التبئر الداخلي فتصبح الذات هي المبئر وموضوع التبئر في الوقت نفسه, لترصد وقع ذلك الخلاص عليها:
سأخرج للنافذة وأطوح للمارة فرحتي.. أنا الآن أخف وأجمل من ملاك..
وتعلن عما تنتوي الإقدام عليه:
سأطلق سراح الجري الملتاث والأحضان والكذب والضحك والغناء واستنشاق البيرة والكذب وتقبيل البنات ]...[
حنجرتي ستعود ذيل طائر واللسان سأنساه في جحر فيصير حية تراوغ الإيقاع...
أنا الآن قريب من قيمة رائعة تستحق الدفاع عنها
وتليق بأن أربي لها مشاعر لم تُمَس أبدا..
كأنها روحي التي فتحت صدرها للصباح,
قديما..."
وما نستطيع أن نقف عليه في هذا النص هو علاقة الذات بذلك الآخر, وعلاقتها بالعالم, ولكن ما إن نقترب من السؤال عن طبيعة هذا الآخر أو ماهيته, حتى ينفتح أفق التأويل على مصراعية, وهذا على ما نعتقد هو هدف نصوص الديوان , فنصوص "بلا خبز ولا نبيذ" ليست "فاترينات" تعرض الذات فيها تجربتها بطريقة جاهزة الإدراك أمام أعين القارئ, وإنما تسعى إلى أن يدرك القارئ تجربته الخاصة من خلال تجربتها, كما تدرك الذات في الديوان نفسها من خلال مفردات العالم المحيط بها, فهي لا تقدم موضوعات جاهزة, وإنما تقيم علاقات تسمح بالتأويل النسبي بحسب تجربة كل قارئ, فلكل منا شيء ما يسعى إلى الخلاص منه, ووقتما يقدر على ذلك سيشعر بالتحرر, وبعودته إلى الأصل الذي كان عليه في سابق عهده قبل أن يجثم عليه ذلك الشيء, ولكن ما هو هذا الشيء/الآخر الذي تحدثنا عنه القصيدة, هل هو الخوف, أو الجسد, أو الشعر, وقد يكون هو الوجود نفسه, وما تلك القصيدة إلا احتفالية بالموت, وابتهال الذات لاقترابها من قيمة تراها رائعة هي قيمة العدم.
وأخيرا بعد هذا العرض, فقد كان للديوان في مجمله نصيبا من اسمه, حيث جاءت قصائده خليطا من طحين الفقد, فقد الآخر,واليقين والمنطق السببي, والأمل في خلاص أو سلام نفسي, ممزوج بنبيذ الألم المعتق في عصارة الماضي.
(*) "بلا خبز ولا نبيذ" ، شعر ، مؤمن سمير ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،2017



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن