الحياة الثانية لغسان كنفاني - اسعد أبو خليل

محمد عبد الكريم يوسف
levantheartland@gmail.com

2021 / 4 / 17

ترجمة محمد عبد الكريم وسف
مراجعة سوسن علي عبود
****
في أوائل السبعينات، تعاون ثلاثة مفكرين فلسطينيين بارزين هم: غسان كنفاني، وماجد أبو شرار، وكمال ناصر في تشكيل مكتب الإعلام لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وخلال عقد من الزمن ، تمكن الإرهابيون الإسرائيليون من قتل المفكرين الثلاثة: كنفاني عام 1972، ناصر عام 1973 وأبو شرار عام 1981.
لم تزعج الحركة الصهيونية نفسها أبدا في التمييز في حملات القتل التي مارستها بين الأهداف المدنية والعسكرية: في الحقيقة وفي مناسبات عديدة، استهدفت حكومة الاحتلال الإسرائيلي) أو حتى الحركة الصهيونية قبل إقامة دولة الاحتلال) المدنيين بغرض خلق الرعب بين السكان. ومن المفترض سلفا أن إسرائيل أرادت قتل كنفاني وإسكات صوته المقاوم . ومع ذلك، لم تنجح الخطة على النحو المنشود.
مضت ست وأربعون سنة على اغتياله، لكن غسان كنفاني موجود في كل مكان، في وسائل التواصل الاجتماعي العربية وحتى بين جيل الشباب غير المعتادين على قراءة الكتب . يلاحظ المرء وجود غسان في كل مكان. وتوضع صورته على ملفات الأشخاص في وسائل التواصل الاجتماعي لدى عدد لا يحصى من المواطنين العرب كما أن الاقتباسات من مقالاته تملأ الفضاء الاجتماعي. أما رسوماته وملصقاته وتصاميمه فهي شائعة جدا هذه الأيام. إنها تنتصب كرمز للثورة وفلسطين وأكثر من ذلك بكثير.
أنتج نشر رسائل الحب التي وجهها غسان للكاتبة السورية غادة السمان (والتي لم تنشر أبداً أي من خطاباتها إلى كنفاني) في عام 1992 صورة جديدة للكاتب الفلسطيني الرائع. ويتم اقتباس رسائل الحب على نطاق واسع من قبل النساء العربيات على وسائل التواصل الاجتماعي، كما أن حبه الرومانسي للسمان هو الآن مادة من مواد أساطير الحب تماما مثل روميو وجولييت – أو قيس وليلى بين العرب.
لم أكن أعرف أبداً غسان كنفاني: لقد قُتل عندما كان عمري 12 عاماً فقط . ومع ذلك سمعت عنه الكثير منذ سنواتي الأولى. لا أتذكر اليوم الذي تعرفت به على اسمه. فقد عمل عمي ناجي أبو خليل مع غسان كنفاني في “الحرية”، وهي لسان حال الحركة القومية العربية في ذلك الوقت . لقد كانت المجلة مقرًا للمثقفين الطليعيين الذين تحدثوا عن الفنون والأدب والسياسة. لقد كان هؤلاء هم الذين عرّفوا القراء العرب على الكتاب اليساريين الفرنسيين وتحدثوا عن القضية الفلسطينية بلغة ماركسية غريبة – وهي اللغة التي تم استخلاصها بشكل حاد من اللغة القديمة للماركسيين العرب التقليديين الذين لم يتعافوا أبداً من الألم بسبب الموافقة والخضوع السوفييتي لدعم خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين عام 1947.
الاهتمام بتحرير فلسطين
أتذكر كيف كان عمي يتكلم عن غسان كنفاني وكم من قصة حب من طرف واحد مع غادة السمان أزعجت أصدقائه . كان غسان كنفاني يحظى بشعبية كبيرة بين الرجال والنساء، ومع ذلك كان يركز على غادة السمان فقط. وكان أصدقاؤه يحثونه على إنهاء علاقته معها لأنها دون جدوى: لقد سكنت غادة السمان قلبه لكنها لم تسكن عقله الذي كان مليئًا بالقلق تجاه مشروع أكبر لتحرير فلسطين. كما كان هناك من ينظر إلى كنفاني على أنه مخلوق ضعيف: فقد عانى من مرض السكري، وكان عليه أن يأخذ جرعة يومية من الأنسولين. وفي بعض الأحيان كان يغمى عليه وكان عليه أن يتناول الحلوى.
كان غسان كنفاني معروفًا في مجتمع المقاهي اللبنانية بروحه المرحة . لقد تآمر هو وعمي مرة للسخرية من “حركة الشعر الحر” الجديدة، التي كان يدافع عنها اللبنانيون اليمينيون الذين ارتبطوا بمجلة “الشعر” . وذات مرة، جلس كنفاني وعمي (ومعهم آخرين، إذا كنت أتذكر بشكل صحيح) معا وصمموا جملا مليئة بالتعابير المنقطة وأرسلوها للنشر في المجلة . وكان من المؤكد أن القصيدة قد نشرت بإشادة عالية للموهبة الجديدة للشخص الذي كتبها (وهو اسم مزيف استخدمه المتآمرون على المجلة).
“فلسطين” بريشة الشهيد البطل غسان كنفاني
لكن كنفاني كان معروفاً لنا ولآخرين ككاتب وصحفي لبناني غزير الإنتاج وكان من الشخصيات المهمة في حياة دور النشر الرئيسية في ذلك الوقت. فقد قام بتحرير الملحق الفلسطيني (فلسطين) إلى جريدة “المحرر” المشهورة (المحرر كانت جريدة عربية وطنية تمثل التيار المعاكس لتيار النهار اليميني الذي عبّر عن وجهات نظر سياسات الولايات المتحدة والخليج . (كانت “المحرر” ركنا أساسياً في تحرير العديد من الشباب اللبنانيين من مختلف الأساطير القومية اللبنانية وأيضاً عاملا أساسيا في غرس قناعتنا القوية تجاه فلسطين.
كما كتب كنفاني في مجلة “الحوادث”، وكذلك في جريدة “الأنوار”. في الأنوار، بدأ كنفاني يكتب الملحق الثقافي الأسبوعي. وكتب في جريدة “الحوادث” باسم ربيع مطر واستخدم اسم فارس فارس في جريدة “الأنوار” . لكن دوره الإعلامي الرئيسي الناجح في الأوساط اللبنانية انتهى بعد عام 1967.
في أعقاب هزيمة حرب عام 1967، تحولت فروع مختلفة من الحركة القومية العربية إلى منظمات ماركسية لينينية خاصة بكل بلد. وظهر الفرع الفلسطيني كجبهة شعبية لتحرير فلسطين في أواخر عام 1967. وكثيرون لا يعلمون بأن فكرة مجلة ” الهدف” التي جاءت لتجسده ليست فكرة غسان كنفافي. ولا يعلم الكثيرون أن الرجل الذي أطلق المجلة، الناطقة حتى اليوم باسم من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لم يكن سوى وديع حداد.
كان لدى حداد شعور إعلامي كبير وكان يعرف أن المعلومات جزء من الكفاح الفلسطيني. وكان قلقاً من أن معظم المفكرين اليساريين في الحركة القومية العربية كانوا ينجذبون نحو نايف حواتمة، المنافس اللدود لجورج حبش، الذي كان أقرب رفيق وصديق لحداد . وقد خصص حداد المال اللازم وكلف كنفاني بإطلاق المشروع الذي رأى النور في عام 1969.
بصمة كنفاني
لم تكن “الهدف” مثل أي مجلة أخرى قبل أو منذ ذلك الحين. لكنها سوف تترك بصمتها على وسائل الإعلام الثورية في جميع أنحاء العالم. من مكاتب مجلة ” الهدف” على كورنيش المزرعة في بيروت، صمم كنفاني وأنتج بعضا من أكثر الملصقات روعة في تاريخ الثورة الفلسطينية.
لقد جعل الأفكار الثورية العربية الماركسية باردة وعصرية تماما على عكس الإعلام الممل للحزب الشيوعي اللبناني. فقد جمع الفن مع الأدب والمعلومات وكل ذلك لغرض تحرير فلسطين. كما حرصت المجلة على الشفافية: فقد نشرت جميع المساهمات المالية التي تلقتها من جميع أنحاء العالم. وكانت في بعض الأحيان تبدأ من تحويلات مالية من طلاب عرب يعيشون في دول غربية (قبل أن يتم حظرها كمؤسسة إرهابية) إلى تبرعات عينية من الفقراء المقيمين في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين.
كانت المجلة، وكنفاني شخصياً، أول من لفت الانتباه إلى وضع الشعراء العرب (وخاصة محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد) وتقديمهم إلى جماهير عربية أكبر. فقد كسر الحظر المفروض على العرب الذين يعيشون تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي والذي كان ينظر لهم بعين من الشك في العالم العربي.
كانت “الهدف” راية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كما توافد الناس من جميع أنحاء العالم للقاء كنفاني وأيضاً للانضمام إلى المنظمة. إلا أن سياسة الباب المفتوح كانت نقطة ضعف لدى غسان كنفاني لأنها مكنت الكثير من عملاء المخابرات الأعداء من دراسته ومتابعته واغتياله لاحقا . وفي الأسابيع القليلة التي سبقت اغتياله، لاحظ العاملون في مجلة “الهدف” أن عدداً أكبر من المعتاد من النساء الغربيات يزور “الهدف” ويتظاهرن بأنهن صحفيات .
لم يتعب كنفاني من شرح القضية الفلسطينية لأي شخص يسأل عنها. لم تكن لغته الإنجليزية طليقة ولكنها مكنته من التعبير عن نفسه بوضوح وبقوة . في إحدى المقابلات، على سبيل المثال، يبدو كنفاني حاد ولا يعترف بنقطة واحدة إلى صحفي يتحدث من منظور غربي سائد.
كان بعض المتعصبين يسخرون من كنفاني بسبب قضائه بعض الوقت مع المراسلين الغربيين، وكان يجيب دائمًا موضحا أنه لا يتعالى أو يتكبر على الناس الذين لا يفهمون عمله من أجل القضية الفلسطينية . كان يشرح كيف ترك وظيفة آمنة في جريدة “الأنوار” التي كانت تدفع له ألفي ليرة لبنانية، ليعمل في وظيفة مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تدفع له 700 ليرة فقط ويضيف كنفاني أن “الأنوار” تدفع له أيضا راتبا شهريا إضافيا بالإضافة إلى فوائد مختلفة.
كان جورج حبش ووديع حداد كلاهما يحظيان بإعجاب غسان كنفاني. فقد كان حداد يستفهم منه عن الوضع الدولي قبل أن يخطط أو ينفذ أي عملية. كما كان كنفاني يتشارك الرأي مع الرجلين في المناظرات الأخيرة مع الغرب حول القضية الفلسطينية. وكان حبش يعتبره أقرب صديق له وقال عند استشهاده: لقد فقدت نصفي. ويقول البعض إن جورج حبش لم يعد أبداً كما كان من قبل بعد اغتيال كنفاني. وعندما عقدت الجبهة الشعبية الوطنية مؤتمرها الوطني الثالث في عام 1972، كلف جورج حبش غسان كنفاني بكتابة التقرير السياسي الشهير للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والمعروف باسم “مهام المرحلة الجديدة”.
الحسابات الإسرائيلية:
كان من الواضح أن الإسرائيليين كانوا يعرفون مسبقا مواهب شخص مثل غسان كنفاني وخدماته الجليلة للقضية الفلسطينية حتى لو لم يلعب أي دور عسكري في الحركة. وتفضل إسرائيل أن يكون هناك أشخاص مثل محمود عباس ومحمد دحلان وياسر عبد ربه وجبريل رجوب لأن هؤلاء الناس يستمرون في إلحاق الضرر بالثورة الفلسطينية بينما كان كنفاني يخدم القضية في كل يوم من أيام حياته.
تظهر تقارير الأرشيف الأمريكية التي رُفعت عنها السرية اهتمامًا شديدًا بقضية غسان كنفاني. لقد أزعج الأميركيين والإسرائيليين دورُ كنفاني في الإعلام، وقد أشارت بعض الوثائق الأمريكية بشكل محدد إلى المؤتمرات الصحفية التي عقدها. قبل أسابيع من اغتياله، تعرض كنفاني للضرب من قبل مجرمين في بيروت الغربية. ثم نشرت “النهار” القصة وسخرت من ادعاء كنفاني. عندما سمع وديع حداد ذلك، شعر بالاضطراب . يقول رفاقه: لكن إذا كان من فعلها هو الموساد، لكانوا قد قتلوه على الفور. علق حداد في ذلك الوقت قائلا: ليس بالضرورة. ليس بالضرورة. لقد كان حداد على حق.
ليس من الواضح العلاقة بين الحادثة وعملية الاغتيال التي جاءت بعد عدة أسابيع. ولم يتخذ غسان كنفاني أي احتياطات أمنية. كان لديه روتين يومي ومعروف حيث كان يذهب إلى “الهدف” وإلى المقاهي المختلفة التي يرتادها الصحفيون في ذلك الوقت. وكان يمضي أيضا أيام الأحد مع عائلته. وقد وجد أعداؤه أنه من السهل تتبعه، خاصة أنه عاش (وهو شيء غير معهود) في شرق بيروت، معقل الأحزاب اللبنانية اليمينية المعادية للفلسطينيين.
لم تضطر إسرائيل أبداً إلى تبرير قتلها لفنان وشاعر وخطاط وصحفي. ولم تكلف إسرائيل (والحركة الصهيونية قبلها) نفسها عناء شرح طريقة القتل واستهداف المدنيين العرب. قال الناس في الغرب عن الجريمة الإسرائيلية: لقد كان غسان كنفاني عضوا المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في وقت وفاته. أما الحقيقة – التي نادرا ما يتم الكشف عنها – هي أن كنفاني كان بعد وفاته عضوا في المكتب السياسي. لم يكن كنفاني في حياته يمتلك الصبر على حياة عضو في منظمة تستهلك الكثير من الوقت في اجتماعات طويلة ومملة.
لن يكون من المبالغة القول أن إرث كنفاني يولد من جديد بعد أن اكتشفه جيل جديد من العرب. ويتم تخصيص مواقع مختلفة له ويتم نشر كتبه في طبعات مختلفة (ومقرصنة في طبعات مختلفة أيضا). من يعتقد أن رجلاً كان عمره 36 سنة فقط عندما مات، سيكون له هذا التأثير الدائم؟ لنعتبر ذلك نوعا آخر من سوء التقدير الصهيوني.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن