الأجداد برؤية أخرى ؟

حسن مدبولى
hassanelmasry423@gmail.com

2021 / 4 / 7

وكما ستلعننا أحفادنا من الأجيال القادمة لتفريطنا وتهاوننا وتخاذلنا المخزى أمام إستكمال سد النهضة الحبشى ، فقد كان من المفترض أن تكون مشاعرنا نحن أيضا لاعنة ناقمة تصب جام الغضب بمقدار أشد تجاه الأجداد الفراعنة بإعتبارنا أحفادهم ،بدلا من كل هذا الغوص فى متاهات المباهاة البائسة التى لا تمل من التكرار ، والتى تستهدف بالأساس غسيل الأمخاخ -إن وجدت- وتغييبها بواسطة قلب الحقائق، وتحويل الكوارث إلى مآثر إفتخارية، من أجل تبرير وتسويغ الأوضاع القائمة،
ولو حكمنا العقل ولو بقدر قليل جدا، سيتبين لنا أن غالبية كوارثنا المعاصرة التى تكاد أن تفنينا وتنهى وجودنا ، هى كوارث مستنسخة طبق الأصل من جرائم فرعونية مسخ توارثناها ومشينا على هداها بلا تفكير،ثم إحتفلنا وتراقصنا بها ولها، دونما دراسة أو مراجعةأو تدقيق أو مقارنة،ثم زدنا الأمر سوءا بالتباهى والتلميز والتلقيح على خلق الله من حولنا، بإعتبارنا خير منتسبى الأرض ومن عليها وما فوقها؟ مع إن الأمم لا تبنى بالفشخرة الكاذبة ولا بالأنساب المشكوك فى أصولها ، إنما تفتخر بما حققته وقدمته للإنسانية، وتتباهى ببطولات أبنائها وقوة شكيمتهم تجاه أعدائهم ، وتعتز بحجم التضحيات التى قدمها أشاوسها دفاعا عن شرف الشعوب وحدود الاوطان وكرامة المقدسات ؟
فهل هناك مآثر فى تاريخنا الفرعونى تدعوا للفخر والتباهى والإختيال ؟
إن من يعتقدون أن هؤلاء الأجداد هم مجال عز وفخر لما خلفوه لنا من انجازات، هم بالتأكيد لايرون ولا يعرفون سوى الأهرامات والمعابد والنقوش والتوابيت الذهبية والجثامين المحنطة، وأيضا يعرفون الدولة الفرعونية العميقة الإستعبادية التى يملك حكامها الأرض بمن عليها ؟ فهل هذه إنجازات حضارية يمكن البناء عليها ؟
إنها قد تكون انجازات عظيمة بالفعل طبقا للمقاييس الإنشائية أو الفنية المحدودة المجردة، أو طبقا للمقاييس الخاصة بالنموذج الدولجى الطبقى التمييزى الذى لا يرى مانع من تدخل الأجنبى فى شئونه وسيادة بلاده مادام هو وحاشيته يستفيدون ؟ ولكنها تعتبر كوارث بائسة طبقا للمقاييس الحضارية الإنسانية، وطبقا للثوابت الوطنية للشعوب ، فكيف يجوز لحاكم فرعون لديه أدنى ذرة من الإنتماء لوطنه وأهله، أن يقوم بتسخير شعب بأكمله لبناء مقبرة خاصة به، لتخليد ذكراه أو ذكرى ذويه، حتى وإن كانت تلك المقبرة فى عظمة الأهرامات ؟و لقد كان من نتاج ذلك الإسلوب الإستعبادى أن ترسخت تلك الفكرة تاريخيا وتم تكرارها بنفس الطريقة عند حفر قناة السويس بنفس السخرة وبنفس الإنحطاط ؟مع الفارق بالطبع بين أهمية قناة السويس وبين أهمية مقبرة الفرعون؟ وإستمر الأمر الإستعبادى حتى كان بعض المصريين فى عصورنا الحديثة يقطع أصابع يديه او قدميه ، كى يهرب من السخرة القسرية ؟
ثم ما الذى إستفادته غالبية المصريين أيضا من التميز البارع فى علم تحنيط الجثث ؟ لقد تم تحنيط مئات القادة والحكام ، وآلاف الحيوانات المقدسة المعبودة كالتماسيح والقطط؟ ولكن ما هو العائد على غالبية الناس وقتئذ أو بعد ذلك؟ لا شئ بالطبع سوى ما نراه من مومياوات لمشاهير الفراعنة تعرض فى المتاحف للفرجة والمشاهدة بينما إندثر كل ذكر عن ما عاناه الأفراد العاديين من بنى الوطن ؟
فقد كان مستوى المعيشة وقت حكم هؤلاء الفراعنة غاية فى الصعوبة على عامة الناس ،إذ كان المجتمع المصري مجتمعًا طبقيًّا بدرجة عالية، وكانت الفئة الاجتماعية عنصر مهم في تحديد كيان وشخصية المرء، حيث إحتل المزارعون النصيب الأكبر من السكان في ذلك الوقت، ورغم ذلك كانت المنتجات والأراضي الزراعية كلها مملوكة من قبل الدولة أو المعبد، و في بعض الأحيان كانت مملوكة لأحد الأسر النبيلة، ومع ذلك خضع المزارعون لضريبة العمل مما زاد فى ضيق حالهم ، كما كان البعض منهم يعملون في مشاريع البناء أو الري بنظام سخرة السُخرة، أما الفنانون والكتاب والكهان والحرفيون، فقد كانوا بمركز أعلى وأرقى من فئة المزارعين، إلا أنهم كانوا أيضاً تحت سيطرة الدولة المباشرة، حيث كانوا يعملون في معابد الدولة، ويتلقون رواتبهم مباشرةً من خزينتها، و قد صور الأدب والفن و بشكل واضح وضع الطبقة العليا فقط وسماتها ، كما كان الفنانون يعكسون على الجدران كل مزايا ومآثر الحاكم الإله ، فإن مات او قتل إنقلبوا على أعقابهم فمدحوا الحاكم الجديد ودونوا كتاباتهم فوق نفس الجدران التى كانت شاهدة على نفاقهم للحاكم السابق ؟بينما بالطبع تم تجاهل آلام ومعاناة الغالبية الساحقة من الشعب ولم تتحدث فنونهم عما كان يتعرض له هؤلاء الفقراء من ممارسات إستعبادية ؟ لذا فقد حظت تلك النخبة بنصيبٍ وافرٍ من الثروة والنفوذ على حساب بقية خلق الله من عموم الناس ؟ والجدير بالذكر أن مصر قد عرفت أيضا العبوديةحيث كانت هناك أعداد كبيرة تمثل طائفة العبيد فاقدى أى حق مدنى ؟
فالملك وحاشيته كانوا يحتكرون الثروة والسلطة والنفوذ والأمن والرفاهية ، فيما عموم الشعب هم الذين كانوا يزرعون ويحصدون ويوردون الخيرات لأسيادهم؟
وبالتأكيد و فى ظل مجتمع كهذا لا تتحدث عن عدالة أو علم أو نزاهة ، فقد إنطوي العقاب في الجرائم البسيطة جدا إما على فرض الغرامات ( الإتاوات) أو الضرب،أو التشويه في الوجه؟ أو النفي خارج البلاد ، وهذا طبعا كان يتوقف على شدة الجريمة أوإنتماء المجرم الطبقى؟ أما الجرائم الخطيرة مثل القتل وسرقة المقابر ؟ فكانت عقوبتها الإعدام فورا، إما بقطع الرأس، أو الإغراق فى الماء ، أو وضع الجاني على عمود( خازوق) ليخترق جسمه، وقد تمتد العقوبة لتشمل عائلة الجاني وكل من ينتمى إليه إذا كان من عامة الشعب، وكل تلك العقوبات كان يمكن قبولها باعتبارها تطبيقا للعدالة ولو بشكل تجاوزى يتناسب مع فترته الزمنية ، لكن الكارثة كانت تكمن فى عمليات التحقيق لإثبات التهمة أو للبحث عن مرتكبيها تمهيدا لتوقيع العقوبة، فقد لعب ما يسمى " الأوراكل" (أشخاص على اتصال بالإله) دوراً رئيسياً في النظام القانوني وتطبيق العدالة في القضايا المدنية والجنائية. حيث كان الأوراكل يقوم بسؤال الإله سؤالا يكون جوابه "نعم" أو "لا" بشأن صحة وحقيقة قضيةً ما، ثم يصدر الإله الحكم، ويسلمه إلى عدد من الكهنة مكتوبا على قصاصة من ورق البردي أو منحوتا فوق قطعة حجر تمثل إجابة الإله؟ وكان يترتب على تلك الإجابة تطبيق العقوبات بشكل لا نقض فيه ولا مراجعة ، ومن يعترض يتم عقابه لإهانته الإجراءات الإلهية ؟
و لم تروى قصة واحدة على الجدران تفيد بأى رواية عن نصرة أحد الفلاحين او العبيد عندما إشتكى من كاهن، أو من جندى، أو من أحد أبناء الأسر الحاكمة ،
حتى على مستوى الهوية القومية والممانعة الوطنية، فقد سقط أجدادنا الفراعنة بالثلث، لإنهم صمتوا على كافة الإحتلالات الأجنبية دونما مقاومة أو ردود أفعال ؟ وعلى سبيل المثال فقد إستمر إحتلال الهكسوس لبلادنا مايزيد عن مائة عام ولم يتحرك أحد ضدهم إلا بعد أن دب فيهم الفناء، وإنكشف ضعفهم، كما إنكشف سليمان عندما نخر السوس عصاته التى كانت تتوكأ عليها موميائه ؟
بل حتى أحمس الأول هذا الذى تم تقديمه بإعتباره بطل التحرير لموقعة الهكسوس لم يخترع العجلة الحربية التى كانت سببا أساسيا فى انتصاراته كما يشاع لكنها كانت مجرد إستنساخ وتقليد لمعدات وأسلحة الهكسوس أنفسهم ،ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن المكون الرئيسى لغالبية جيش أحمس الثانى الذى جاء فى سلسلة خلفاء أحمس الأول هذا الجيش كان قوامه الرئيسى من المرتزقة الأجانب( اليونانيون)
،وعلى مستوى الولاء والإخلاص سنجد أن بعض قادة الملك أحمس الثانى قد خانوه وتعاونوا مع المحتل الأجنبى مما ساهم فى الهزيمة ووقوع مصر تحت الإحتلال مجددا ولكنها كانت من الفرس هذه المرة،وفى إطار الخيانة الفرعونية التاريخية أيضا ينبغى أن نشير إلى إستعانة كليوباترا بجيش روما الأجنبى لإحتلال بلادها وتغيير نظام الحكم بالقوة عام 41 ق.م ، مما مهد الطريق أمام الرومان لاحتلال مصر قرابة سبعمائة عام ؟

ثم بأى اجداد نتباهى وهؤلاء الأجداد كانوا ما ان يضعف مستعمر لهم ويستعد للمغادرة حتى يحضر غيره ؟ فما إن خرج الكنعانيون الذين دخلوا مصر عام 1800 ق.م حتى دخل الهكسوس عام 1650 ق.م ، وما أن خرج الهكسوس عام 1550 ق.م ، حتى دخل الفرس 525 ق.م ، وما ان خرج الفرس عام 330 ق.م حتى دخل اليونان والبطالمة فى نفس العام 330 ق.م و ظلوا حتى عام 31 ق.م، وما ان خرج البطالمة 31 ق.م حتى دخل الرومان عام 30 ق.م ؟ وكان الخضوع أمام كل أولئك المحتلين تاما وذليلا ، بل أننا لم نستفد من إنجازات وتقدم البعض من هؤلاءالمحتلين ،وعلى سبيل المثال فإن الحضارة الإغريقية اليونانية فى الإسكندرية والتى جسدها حكم البطالمة، قد أقامت جسرا مهما بين الحضارة الإغريقية وبين الحضارة الفرعونية، وكان على رأس أدوات ذلك الجسر المعرفى هو جامعة الإسكندرية و مكتبة الاسكندرية إلخ ، لكن مع ذلك ظل التخلف الفرعونى سيد موقفه المتجمد الصامت على المحتل والعاجز عن الإستفادة من مزاياه إن وجدت ؟ لدرجة إنه بعدما انهارت الحضارة الإغريقية اليونانية جاء التغيير الكارثى على أيدى الرومان وتابعيهم ، فأنهى وقضى على كل ما يمت للحضارة الفرعونية بصلة، ودمر أيضا البقية الباقية من آثار الحضارة الإغريقية فى الإسكندرية دونما أية مقاومةاو رفض،و قد تم القضاء على اللغة الهيروغليفية بجرة قلم عندما صدر مرسوم بإعتبار لغة الكتاب المقدس هى اللغة الرسمية التى يجب التعامل الرسمى بها،كما أغلقت المعابد الضخمة،وأحرقت مكتبة الإسكندرية وطورد كهان المعابد وعائلات الفراعين ، وتحولت مصر بعدها إلى مجرد حامية زراعية تابعة للرومان تحت حكم ثيوقراطى ذو طابع محلى كان كل ما يعنيه هو تغيير شكل دور العبادة وتحويل وجهتها ،مع جمع الأموال عنوة من الفلاحين لإرسال الجزية للرومان كل عام ؟ وظل الأمر هكذا لما يزيد عن الأربعمائة عام، فإنتهت الحقبة الفرعونية وإنقطع المصريون عن أى صلة حضارية مع العالم الخارجى ، وأضحت مصر الرسمية البديلة عن الفراعنة غارقة فقط فى آتون خلافات لاهوتية حول طبيعة الرب ،ولا تهدأ الا بعد أن تأتيها الإجابات من الباب العالى فى روما عبر المجمعات اللاهوتية، بينما لا انشاءات ولا طرق ولا مشروعات رى ولا دور رعاية طبية ولا علم دنيوى ؟
وقد ظلت تلك المأساة التى تسببت فيها أنظمة الحكم الفرعونية الكارثية التى لم تبنى مناعة شعبية ، ولا إنتماءا قوميا يجمع الناس على حب الوطن والدفاع عنه وحوصرت العدالة وإنعدمت المساواة وتحكمت الخرافات ،حيث كان كل ما يهم النخبة الحاكمة هو الإخلاص والتفانى لخدمة الحاكم الإله ، وإذلال وقمع وتغييب العامة بالخرافات حتى عبدوا القطط والذئاب والكلاب والعجول لدرجة أن قمبيز قائد الفرس وضع مجموعات من القطط والكلاب فى مقدمة قواته حتى يجعل القوات المصرية تخشى مهاجمة العدو حرصا على تلك الحيوانات الإلهية ؟
فباتت عقيدة المصريين خاوية عقيمة مخرفة، لا مناعة لها ، و كلما إستعبدهم عدو جديد خروا له ساجدين مستسلمين ؟
ولقد ظلت تلك المأساة مستمرة وساهمت فى المزيد من التجهيل والتصغير لحجم مصر ، حتى جاء الفتح العربى الإسلامى على يد عمرو بن العاص 641 ميلادية ، فإنتهت الثقافة الرومانية بكل روافدها ، وحلت محلها الثقافة العربية وتبدل دينها الرسمى إلى الإسلام الذى إحتوى غالبية المصريين ،ووحد شعبها الذى كاد أن يلفه النسيان مع غروب مايسمى بالحضارة الفرعونية وقساوة وتبلد الحقبة الرومانية ، فقد جاء الإسلام ومصر قد فقدت كل ما كان يميزها كأمة ، فلا لغة بقيت ، ولا فنون ، ولا طب ، ولا علم ، ولا جنود ، ولا نظام حكم مدنى حتى ولو بواسطة أسرة حاكمة ، جاء الإسلام فوجد رجال دين يحكمون كوكلاء للأجنبى الذى كان فى تلك الفترة يستذلهم لخلاف حول الطبيعة الإلهية وعلى قيمة الجزية الواجب سدادها ! وما كاد الإسلام يدخل ويستقر حتى تحولت مصر إلى دولة جديدة عظيمة تتبوأ المكانة التى تستحقها وتقود الاقليم وتهزم قوى عالمية كبرى كالتتار والصليبيين والفرنسيين ، ثم وصلت بجيوشها حتى حدود روسيا وتركيا وبلغاريا ؟ ثم تصدت مصر أيضا للصهاينة بعدما حاولوا تكرار تجارب الغزاة ؟ ولم يتمكن أى محتل من أن يقيم فوق ارضها لمدة طويلة نسبيا بعد دخول أهلها فى الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، بإستثناء الإحتلال البريطانى الذى كانت فترة مكوثه لا تقارن مع أى مدة قضاها احتلال آخر أيام الفراعنة؟ وبإعتبار أن فترة الخلافة العثمانية لا تعد إحتلالا ، فهى فى نظر الكثيرين تشبه الوحدة الأوروبية الحالية مع إختلاف الظرف الزمنى بالطبع ،
ومع ذلك يستمر بعض المرتزقة من مزيفى ومزورى التاريخ فى ترديد المزاعم عن عظمة الأجداد ( يقصدون الحكام ) كما يهرطقون فى ذات الوقت بخرافة إعتبار دخول الإسلام إلى مصر هو الذى قضى على ثقافتها وحضارتها الفرعونية وعظمة أجدادنا ؟
فبأى أجداد تفخرون ؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن