بيلي وايلدر.. الإنسان والقناع

محمد الفقي
m.a.elfeki@gmail.com

2021 / 3 / 30

تتمحور أفلام المخرج الكبير بيلي وايلدر حول أخلاق المكر: الخداع، والاحتيال، والكذب. فالإنسان عنده هو كائن محتال ومخادع، والقناع موجود في أفلامه على الدوام؛ فالتنكر هو الوسيلة التي يمارس من خلالها الإنسان احتياله وكذبه. قد يرتدي بطل وايلدر القناع بغية تحقيق منفعة مادية، وقد يرتديه مضطراً من أجل النجاة بحياته في موقف تنتفي في الاختيارات؛ فإما الكذب، أو الموت، كما ورد مرة في افتتاحية فيلم (الواشي، 1962) لجان بيير ملفيل: "على الإنسان أن يكذب، أو يلقى حتفه." وفي بعض الأحيان، يجتمع الأمران معاً؛ فالإنسان المخادع المحتال، قد يجد نفسه في موقف مصيري لا ينجو منه إلا ببراعته في الكذب والاحتيال.

في فيلم (الرائد والقاصرة، 1942): ترتدي سوزان قناع الطفلة الصغيرة لأنها مفلسة ولا تملك أجرة القطار، وفي النهاية، يقع الرائد فيليب في حبها.

وفي (علاقة أجنبية، 1948): يكذب الكابتن جوني بخصوص علاقته بالمغنية الألمانية، أثناء تحريات عضوة الكونجرس الأمريكية التي تشك في وجود علاقة بين المغنية وبين الحزب النازي المنحل، بل ويرتدي أيضاً قناع المحب لعضوة الكونجرس.

وفي (شارع الغروب، 1950): يكذب كاتب السيناريو المفلس جو على الممثلة المعتزلة نورما، ويرتدي قناع الحبيب، حتى يعيش على نفقتها. بينما المحب الحقيقي لنورما؛ المخرج والزوج السابق لها، يرتدي قناع الخادم. ونورما نفسها ترتدي قناعاً على الدوام، وحياتها كلها عبارة عن دائرة مفرغة تدور حول هذا القناع الذي تؤمن به بوصفها لا تزال هي نجمة السينما الأولى.

وفي (كنز في الحفرة، 1951): يتلاعب صحفي طموح بحياة أحد العمال المحبوسين تحت أنقاض منجم، من أجل إطالة فترة عملية إنقاذه، لتحقيق سبق صحفي، على حساب حياة الرجل الذي يموت في النهاية. إن وايلدر هنا يرسم صورة قاسية عن اقتصاد بلدة بأكملها قائم على الكذب والخداع، حتى أن كل الأنظمة الإدارية، والاقتصادية، والجنائية، والسياسية في البلدة، قائمة على هذه الخدعة وتتغذى عليها.

وفي (سابرينا، 1954): يرتدي الأخ الكبير (همفري بوجارت) قناع المحب لسابرينا، لكي يحافظ على زيجة أخيه الأصغر من ابنة أحد شركائه في العمل.

وفي (الحب بعد الظهيرة، 1957): تخفي ابنة المحقق الخاص حقيقة شخصيتها عن زير النساء الذي تحبه، والتي لا يعرف هو عنها شيئاً، ولا حتى اسمها.

وفي (البعض يفضلونها ساخنة، 1959): يشهد اثنان من الموسيقيين عملية قتل، فيضطران للتخفي كامرأتين، هرباً من العصابة التي تطاردهما. وأثناء ذلك، يتنكر أحدهما، من جديد، في زي مليونير، لكي يفوز بقلب المغنية التي وقع في حبها.

وفي (واحد، اثنين، ثلاثة، 1961): يجبر مدير إقليمي لفرع شركة كوكا كولا، زوج ابنة مدير الشركة؛ الشيوعي، بالتنكر كأحد كبار الرأسماليين الأرستقراطيين.

وفي (إيرما لا دوس، 1963): بعد طرده من البوليس، يتنكر نستور في هيئة رجل إنجليزي غني، ليستحوذ لنفسه على كل وقت إيرما وتتفرغ له.

ولكن وايلدر لا يذهب إلى حد إدانة هذا الخداع، كما ينحو الفنانون الأخلاقيون، بل بوصفه الطبيعة الأولى في الإنسان، والتي تأتي طبيعته الثانية؛ أي الخير والنبل والصدق، كاستثناء فقط وفي حالات نادرة. بل إن معظم أفلام وايلدر ُتصدِّر لنا رؤيته الخاصة عن أن الإنسان يعثر على السعادة بالاحتيال والمكر والكذب وارتداء الأقنعة. وتكمن المفارقة في أن هذه الرؤية التشاؤمية بخصوص الطبيعة الإنسانية، تأتي في أعظم الأفلام الكوميدية في حقبة هوليود الذهبية في ما بعد الحرب العالمية الثانية.

الخبرة
إن الأصالة في الكوميديا العظيمة لا تنبع إلا من الحياة الواقعية والخبرة المعاشة للفنان. إن المادة الخام للكوميديا هي حياة الفنان نفسه. كتب فالتر بنيامين مرة: "إن علاقة الفنان بمادته، أي بالحياة الإنسانية، هي علاقة صانع ماهر، مهمته هي صوغ المادة الخام للخبرة، خبرته هو وخبرة الآخرين، بطريقة صلبه ومفيدة ومميزة." وبهذا الوصف، يقف بيلي وايلدر في صف واحد مع كبار فناني السينما، فهو يرجع إلى الوراء، إلى عمر كامل يضم خبرته الخاصة، كي يترك فتيلة حياته تستنفدها الشعلة اللطيفة لأفلامه.

وقد تكون أعمال بيلي وايلدر، بشكل ضمني، وثيقة فنية لبعض جوانب الحياة الاجتماعية والسياق الاقتصادي والثقافي في أمريكا الأربعينيات والخمسينيات، ولكنها بقدر أكبر وأشمل وثيقة فنية لرحلته الذاتية، وتجربته في الحياة. إنها مرآة (محدبة ومقعرة، وليست مستوية) لتجربته هو قبل أن تكون مرآة للمجتمع.

وخبرته تقوم على رأي عملي في الحياة، نتيجة تجارب طويلة، أكثر مما تقوم على فلسفة ذهنية أو تأملية مجردة. إن وايلدر يصنع الكوميديا بنفس الطريقة التي يفكر بها. إنها تصوير فني لمسيرته في العالم، وكأنه يعيد قراءة تجربته في الحياة من خلال إعادة كتابتها. وإعادة بناء الماضي لا تتم إلا بواسطة الخيال. واستدعاء الخبرة السابقة والانتقاء منها ليس اعتباطياً، وإنما لتسريب موقف ومعنى تم اكتسابه من التجربة.

وخبرة وايلدر هي تجسيد للفنان القديم الذي كان رحالاً ومسافراً قادراً على جمع الحكي (الخبرة). وما أفاده، ليس فقط تنقله بين عدة بلدان أوروبية قبل استقراره في أمريكا، ولكن بين عدة وظائف كذلك. عمل وايلدر: مراسلاً، وصحفياً كاتب مقالات رياضية وتحقيقات جنائية، وجيجولو، وكاتب سيناريو، ومخرجاً، ومنتجاً، وفي فترة من حياته عمل منادياً للسيارات، وظل طيلة حياته من أكبر جامعي المقتنيات في أمريكا.

إننا نلمس التاريخ الشخصي لبيلي وايلدر مجسداً في كل أفلامه، ومخزون الخبرة واضح منذ أعماله المبكرة. وربما لهذا السبب نجحت أفلامه نجاحاً شعبياً واسعاً. ففيلمه (كنز في الحفرة) هو نتاج لخبرة عمله في صدر شبابه كمراسل صحفي في صحف برلين. واستفاد في فيلم (كعكة الحظ، 1966) من خبرته في كتابة المقالات الرياضية في الفترة البرلينية أيضاً. حتى أن تمكنه في فيلم (شاهد إثبات) يرجع إلى جزء منه إلى فترة عمله ككاتب في صفحات الجرائم والتحقيقات في صحف برلين أيضاً. وكذلك فيلمه (الصفحة الأولى، 1974) الذي تدور أحداثه في مكاتب إحدى الصحف.

لقد ظل وايلدر يدعي دائماً أنه اضطر في فترة من حياته في أوروبا، وفي مراحل حياته المبكرة في أمريكا، للحياة كـ "جيجولو"؛ يغوي النساء، ويعيش على نفقتهن. إن تلك الخبرة ملموسة في (البعض يفضلونها ساخنة) في شخصية توني كيرتس، عازف الساكسفون. والأخ الأصغر في (سابرينا). وفي زير النساء في (الحب بعد الظهيرة). والضابط في (علاقة خارجية)، ومحرر الكتب في (هرشة السنوات السبع).

أما خبرته في العمل في كواليس السينما، ومع النجوم، فتظهر جلية في أفلام: (شارع الغروب)، و(قبلني يا أحمق، 1964)، و(فيدورا، 1978).

وخبرته في العمل مع كتاب السيناريو، والاحتكاك بكتاب المسرح والرواية، تظهر في أفلام: (عطلة نهاية الأسبوع الضائعة، 1945)، و(شارع الغروب)، و(هرشة السنوات السبع).

وخبرة عيشه في أوروبا، والأجواء الأوروبية التي خبرها، تظهر في عدد كبير من أفلامه، من قبيل: (فالس الإمبراطور، 1947)، و(سابرينا)، و(الحب بعد الظهيرة)، و(إرما لادوس، 1963)، و(فيدورا). حتى أن فيلم (علاقة خارجية) وما فيه من أجواء السوق السوداء والدمار في ألمانيا، هو نتاج لخبرته للحياة في ألمانيا، عندما عاد إليها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، للعمل كمسؤول في مكتب الدعاية للحكومة الأمريكية في برلين.

وخبرته في حياة الفقر، وبالأخص في فترة بدايات الوصول لأمريكا، أيام كان يعاني من البطالة، والفاقة، واضحة في أفلام مثل: (شارع الغروب)، و(البعض يفضلونها ساخنة)، على سبيل المثال.

إن وايلدر لا يذهب إلى أي مكان دون أن يعود إلى نفسه.

الأسلوب
يمكن وصف أسلوب وايلدر في صنع الأفلام بـ "الثورية" في الكتابة، و"المحافظة" في الإخراج. لقد كره وايلدر أساليب هيتشكوك وأورسون ويلز في الاستعراض الإخراجي؛ تلك الأساليب التي تطالب بالانتباه لنفسها. كان يرى أن الأسلوب الأفضل في الإخراج هو عدم لفت النظر إلى الإخراج، وعدم تشتيت انتباه المتفرج عن القصة. لا يمكنك في أفلام وايلدر أن تشعر بالكاميرا، ولا بالمخرج الذي يقف خلفها.

لكن هذه المحافظة في الأسلوب الإخراجي، رافقتها جرأة كبيرة في توسيع مجالات الحرية في الموضوعات، والحوار، في هوليود الأربعينيات والخمسينيات. لذلك كان لوايلدر، دائماً، مشاكل مع الرقابة في هوليود، لتخطيه "كود هيز الأخلاقي". للدرجة التي كان نقاد السينما في أمريكا يلومونه على جرأة حوارات أفلامه الزائدة عن الحد، والتي كانت تتعدى الحدود المألوفة في هوليود في تلك الفترة.

طريقة عمله مع الممثلين كانت مميزة وفريدة. لم يكن من المؤلفين-المخرجين الذين يفرضون السيناريو على الممثل، بل على العكس، كان حين يستقر على بذرة فكرة فيلمه القادم، يعمل مع الممثلين الذين يختارهم على تطوير الأدوار، والحوار، لكي يتناسب مع شخصياتهم، والأهم، لكي يتناسب مع قدراتهم. كان وايلدر يرى أن قدرات الممثلين محدودة في النهاية، مهما كانت الموهبة، أو الحرفية في التمثيل. أدت هذه الاستراتيجية في العمل مع النجوم، وهو لم يكن يعمل إلا مع النجوم، إلى أداءات تمثيلية لا تنسى. على سبيل المثال: جاذبية مارلين مونرو وبراءتها الطفولية في آن واحد في (البعض يفضلونها ساخنة)، ورومانسية همفري بوجارت في (سابرينا)، والأداء الكوميدي النادر لجيمس كاجني في (واحد، اثنان، ثلاثة)، فضلاً عن الأداء المبهرللثنائي جاك ليمون ووالتر ماتاو اللذان رافقاه في العديد من أفلامه.

هذه الثنائية، وذلك التناقض، بين الثورية في الكتابة والحوار، والمحافظة الشديدة في الإخراج، ليست هي الملمح الوحيد في أسلوب المفارقات التي يميز أعمال وايلدر. فطالما كان أساس عمل وايلدر في أفلامه هو: المفارقة القائمة على التناقض الصارخ، الذي ينتج من الجمع بين الأضداد: في الشخصية، والأفعال، والأفكار، والمشاعر، وهو ما يؤدي إلى سوء التفاهم والمواقف الكوميدية التي يتولد عنها الضحك. وفي كثير من الأحيان، يستخدم "القناع" كحيلة درامية فعالة لتوليد المفارقات الساخرة، فيعكس التناقض بين الشكل والجوهر. ثم يضاعف من هذه التناقضات بحيلة "القناع داخل القناع".

ولنأخذ فيلم (البعض يفضلونها ساخنة) كمثال على أسلوب وايلدر في المفارقات. يفتتح وايلدر الفيلم بسيارة لنقل الموتى، تتحول فوراً إلى سيارة للعصابة. والتابوت في السيارة هو صندوق لتهريب الخمور. ومحل التوابيت هو ملهى ليلي لبيع الخمور الممنوعة من التداول في فترة حظر الخمور في أمريكا. والخمور في المحل يسمونها: "القهوة". وأفراد العصابة المرافقون لزعيم العصابة هم في الحقيقة محامون خريجو جامعة هارفارد. ومارلين مونرو تحسد دافني (جاك ليمون) على قوامها الممشوق. وجيري (جاك ليمون) يرتدي قناعاً ويتحول إلى دافني. وجو (توني كيرتس) يرتدي قناعاً ويتحول إلى جوزفين في البداية، ثم يرتدي قناعاً آخر ويتحول إلى شيل جونيور، ثم يرتدي قناعاً ثالثاً فوق القناع الأخير: قناع البرود العاطفي. ويستمر التنكر وارتداء الأقنعة المختلفة أثناء المطاردات الأخيرة مع العصابة في أروقة الفندق. وقارب المليونير يرجع إلى الخلف عوضاً عن السير إلى الأمام، ويقول شيل جونيور إنه يبدو أن الوقود قد نفد منه، فتعلق مارلين مونرو: غريب أن ينفد الوقود من قارب ملك البترول!

القناع، والتنكر، والخداع، هم من ينقذون البطلين من براثن أفراد العصابة. حتى أن هناك مشهداً يهربان فيه من العصابة، فيقابلان بعض أفرادها في المصعد، وبدلاً من أن تفتك بهما العصابة، يرفع أفرادها القبعات احتراماً للسيدتين. والقناع، والكذب، والخداع، هو الذي يؤدي إلى وقوع توني كيرتس في حب شوجر كين. والقناع هو الذي ينقذ الموسيقيان الفقيران من الفاقة، والبطالة، بل و من الموت أيضاً.

ومن أجمل مشاهد السينما العالمية، مشهد النهاية في الفيلم. يكشف جاك ليمون للمليونير أوزجود، الذي وقع في حب القناع الذي يرتديه (دافني)، ويصر على الزواج منه، يصارحه ويكشف له أخيراً عن أنه رجل مثله، وينزع الباروكة ويريه وجهه الحقيقي، ويقول له: "بصراحة، أنا رجل!"، فيرد عليه أوزجود، متمسكاً بالزيف: "لا يوجد أحد كامل".

البطل
"أبطال" وايلدر دائماً من المخادعين والكذابين والماكرين. مخادعون من الدرجة الثانية، التي لا تصل إلى حد المجرمين المحترفين أو العصابات، فهذا هو حال البشرية جمعاء عنده. ورغم الخبث والمكر والخداع، لا يزدري أبطال وايلدر أنفسهم، كما أنهم لا يندمون على خداع الآخرين والكذب عليهم. ورغم أن نظرة أبطال وايلدر للحياة هي نظرة واقعية تشاؤمية، ويدركون اهتراء القيم الإنسانية، إلا أنهم مع ذلك متفتحون للحياة، متحمسون، عمليون، وأبعد ما يكونون عن الدين. إن قصص وايلدر دائماً هي بين الماكرين والأكثر مكراً. والأكثر مكراً عنده هم الضعفاء. والضعفاء عنده يغلبون الأقوياء.

تحكي شوجر كين في (البعض يفضلونها ساخنة) عن خداع وغدر كل الرجال الذين أحبتهم، من عازفي الساكسفون، وعلى نحو متكرر ونمطي: يستعيرون منها النقود لينفقوها على سيدات أخريات وعلى رهانات الخيول، ويهجرونها في النهاية، مخلفين وارءهم جورب قديم وأنبوب معجون أسنان فارغ.

وبسبب خداعه ومكره، يرتدي بطل وايلدر دائماً قناعاً، سواء حرفياً أو ضمنياً. وفي أحيان كثيرة يرتدي حتى أكثر من قناع واحد، قناع على قناع. إن كل تنكر هو مضحك، لأنه يبتعد عن طبيعة الأشياء ويبرز التناقض والشذوذ. إننا لا نضحك على الجمال، بل نضحك على التشويه والشذوذ والأقنعة والعماوة والمفارقات التي يدركها عقلنا.

وكوميديا وايلدر هي أقرب إلى كوميديا الأنماط، أو كوميديا الطباع. الدنجوان النصاب، الابنة المخادعة، الموظف الوصولي، الرأسمالي الفاسق، الصحفي الأفاق، وهلم جرا. وهذا النوع من الكوميديا لا يحتاج إلى جهد كبير في رسم الشخصيات الدرامية، لأنه الجمهور يتعرفها، في نفسه أو في نفس المحيطين به، بمجرد ظهورها في الفيلم. ومن ثم يكون التفرغ والجهد الأكبر المبذول هو في حبك البناء، وصقل الحوار، وتوليد الضحك من المواقف الفجائية التي تنعكس عليها طبائع تلك الشخصيات وسمات البيئة التي أفرزتها.

حتى أن الطيبة أو النبل أو التحضر عند أبطال وايلدر هي أقنعة يرتديها البشر لإخفاء حقيقتهم. يقول بطل (هرشة السنوات السبع): "خلف هذا القناع من التحضر، كلنا متوحشون، رجالاً ونساءً، ونحن في حالة انحدار شديد، ولا يمكننا التوقف ولا الهرب من هذه الحقيقة."

إنها كوميديا "حرب الجميع ضد الجميع"، التي تعرض صراع القوى غير الشريفة في المجتمع الأمريكي. وبطل وايلدر هو إنسان المجتمع الأمريكي، المنغمس في القيم والممارسات الرأسمالية، ووحشيتها. ونشاهده في كيفية تفاعله مع إكراهات المجتمع الرأسمالي، وهو يجاري هذا المجتمع في فساده.

فعلى سبيل المثال: فيلم (كعكة الحظ) هو استعارة ومجاز للمجتمع الرأسمالي وثقافته المهووسة بالغنى عن طريق المكسب السهل وضربة الحظ. وفي (تعويض مزدوج، 1944) نرى مدى قدرة موظفي شركات التأمين على الفساد والشر. وفي (الشقة) نرى نصف أمريكا وهو يحاول خداع النصف الآخر. إن جاك ليمون؛ الذي يعير شقته لرؤوسائه لكي يلتقوا فيها بعشيقاتهم مقابل منافع وترقيات وظيفية، هو نموذج للأخلاقيات السائدة في مجتمع الشركات الرأسمالية الكبرى. وفي (شارع الغروب) تظهر وحشية نظام النجومية وهوس مطالبة النجوم بالإعجاب، والذي سيستفحل فيما بعد في صورة المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوبرز، ويكشف أيضاً الكذب والخداع الموجودان تحت سطح الهالة البراقة لصناعة السينما في هوليود، بل والمجتمع الأمريكي كله. إن الفيلم هو مظهر من مظاهر الوعد الأمريكي الذي ينتهي إلى الإخفاق والإحباط، تماماً مثل (المواطن كين، 1941) لأورسون ويلز.

و(كنز في الحفرة) يظهر تلاعب الإعلام الأمريكي بالحقيقة. وهو فيلم ليس فقط عن قسوة الصحفيين وأساليبهم الغير شريفة ولا إنسانيتهم، وفساد الإدارة وتهافتها، ولكنه أيضاً فيلم عن همجية الجماهير الأمريكية التي تتدافع للفرجة على مأساة شخص يموت تحت الأنقاض. ونرى في فيلمي (سابرينا)، و(هرشة السنوات السبع) هوس المجتمع الأمريكي بالاستهلاك المادي. وفي (الحب بعد الظهيرة) صورة لكبار رجال الرأسمالية الأمريكية.

أما في الكوميديا السياسية الهجائية (واحد، اثنان، ثلاثة) فيسخر وايلدر فيها من الحرب الباردة، ولا يوفر أحداً عن سخرياته اللاذعة: الرأسماليون، والشيوعيون، والألمان، ورجال الإدارة في الشركات الكبرى، والسياسيون الأمريكيون، والثقافة الأمريكية، وهم جرا.

اللغة والحوار
- كيف هي الأحوال في موسكو؟

- ممتازة، المحاكمات الجماعية الأخيرة كانت ناجحة للغاية، سيصبح لدينا الآن عدد أقل من الروس، ولكن روساً أفضل!

منذ فيلم (نينوتشكا، 1939) الذي شارك بيلي وايلدر في كتابته لإرنست لوبيتش، وأسلوبه في الحوار لا يمكن للأذن أن تخطئه. ذلك الحوار الذكي، الساخر، المصقول، الحاد، اللاذع، القارس، الأنيق، عرف فيما بعد باسم "السخرية الوايلدرية". كانت لدى وايلدر أذن شديدة الحساسية لأشكال وإيقاعات الخطاب في الثقافة الشعبية الأميركية. وربما كان ذلك نتاج غرامه الطويل، ومنذ الصغر، بوسيقى وأغنيات الجاز الأمريكية.

ونحب التمييز هنا بين الضحك الذي تعبر عنه اللغة، كما عند وايلدر، وبين الضحك الذي تخلقه اللغة، كما في المساخر. الأول يميز الكوميديا الذكية، والثاني يصم الهزليات. الأول يعبر عن المفارقات التي تعتري التجربة الإنسانية، والثاني ما هو إلا مجرد زلات لسان ومزالق في الكلام. الأول يمكن ترجمته من لغة إلى لغة، لأن التجربة الإنسانية متشابهة. والثاني غير قابل للترجمة لأنه مدين لاختيار المفردات في اللغة المحلية المعنية. ولذلك تحظى أفلام وايلدر بإعجاب كل الثقافات، وتنتزع الضحك حتى بعد ترجمتها إلى اللغات المختلفة.

في (البعض يفضلونها ساخنة) يلقي زعيم العصابة "ليتل بونابرت"، والذي يشبه الزعيم الإيطالي الفاشي موسوليني، خطبة في أعضاء العصابة، يقول فيها:

- لقد مضت عشر سنوات منذ أن انتخبت نفسي رئيساً لهذه المنظمة. وأقول لكم الآن أنكم قد أحسنتم الاختيار. لقد حققنا في العام الماضي 112 مليون دولار أرباحاً قبل خصم الضرائب.

وذلك الرد الأيقوني الذي ردت به نورما في (شارع الغروب) على ملاحظة الكاتب الشاب، حين قال لها وهو يتفرج على أفلامها القديمة:

- لقد كنتِ ممثلة كبيرة!

- أنا كبيرة، الأفلام هي التي صغرت.

بيلي وايلدر، تلميذ لوبيتش في الحوار السريع، الأشبه بكرة البنج بونجح في سرعتها ورشاقتها وذهابها وإيابها، قد عانى كثيراً في تعاونه في كتابة السيناريو والحوار مع تشارلز براكت، ذلك التعاون الذي استمر طيلة فترة الأربعينيات. تشارلز براكت المحافظ، الجمهوري، خريج مدرسة هارفارد في القانون، كان النقيض التام لوايلدر اللبرالي، الديمقراطي، الحاد اللسان، والذي كان دائماً ما يدخل في معارك ومناقشات عاصفة في شريكه في كتابة السيناريو.

لكنه وجد ضالته أخيراً مع كاتب السيناريو إيزي دايموند، الصحفي السابق ذو الأصول الرومانية، واللبرالي والديمقراطي مثله. وتعاونهما المشترك، الذي استمر منذ بدايات الخمسينيات، وطيلة 25 عاماً، أسفر عن الروائع الكوميدية التي صنعها وايلدر.

حوار وايلدر يتميز أيضاً بالثقافة الواسعة، وموقف اجتماعي وسياسي ساخر، وروح مشبعة بالتهكم اللاذع على الموقف الإنساني برمته، تصل حد فقدان الأمل.

ولقد عانى وايلدر كثيراً مع الرقابة ومع "كود هيز الأخلاقي" في هوليود في تلك الفترة. قيل على أسلوبه في الحوار: سوقي ومبتذل. وكان المهاجمون من النقاد هم المحافظون المنتمون للحزب الجمهوري. لا يستطيع أمثال هؤلاء تحمل فيلم مثل جوهرته الهستيرية في الهجاء السياسي لسياسات الحرب الباردة (واحد، اثنان، ثلاثة)، أو درره الأخرى مثل: (الشقة)، و(البعض يفضلونها ساخنة)، و(قبلني يا أحمق)، و(كنز في الحفرة)، و(كعكة الحظ)، التي تدين ثقافة المجتمع الاستهلاكي، وتكشف زيف الحلم الأمريكي.

النهايات
ينتصر في النهاية البطل-الضعيف، ويحقق حلمه عن طريق التمسك بالأقنعة وبالخداع.

الكذب والخداع في (الرائد والقاصرة) يؤدي إلى نجاح علاقة الحب بينهما. وفي (علاقة أجنبية) تتحقق قصة الحب الملفقة والكاذبة بين الكابتن وعضوة الكونجرس. وفي (سابرينا) يقع همفري بوجارت في حب أودري هيبرن، وهو الذي كان يكذب بشأن حبه لها في البداية. وفي (الحب بعد الظهيرة) يقع زير النساء في النهاية في حب أودري هيبرن بعد أن تكذب عليه. وفي (قبلني يا أحمق) يقع عازف البيانو أورفيل في حب النادلة التي يدعي كذباً أنها زوجته أمام المغني المشهور دينو. وفي (واحد، اثنان، ثلاثة) يخلق الكذب الحقيقة هنا أيضاً، فيتحول الشيوعي البلشفي المتحمس، بعد محاولة إلباسه القناع، إلى رأسمالي حقيقي، ويتولى وظيفة قيادية في شركة كوكا كولا، بل ويقدم اقتراحات تؤدي إلى زيادة أرباح الشركة الرأسمالية. وفي (شارع الغروب) يتحقق حلم نورما دزموند، فتتسلط عليها أضواء الشهرة من جديد أثناء اعتقال الشرطة لها، وهي تنزل على السلالم أمام عدسات المصورين، بينما يشرف المخرج-الخادم ماكس على أطقم التصوير. وفي (شاهد إثبات) ينتصر المجرم على المحامي الذكي، بل ويصبح المحامي ألعوبة في أيدي المتنكرين الكاذبين؛ المجرم والممثلة السابقة. وفي (إرما لادوس) يؤدي تخلص نستور من قناع التنكر للورد الإنجليزي إلى دخوله السجن وتهديده بالمتاعب، ولا يجد وسيلة للإفلات من هذه المتاعب إلا بإحياء التنكر وارتداء قناع اللورد مرة أخرى.

وفي (البعض يفضلونها ساخنة) يقع جو عازف الساكسفون في حب المغنية شوجر كين، بعد أن يرتدي قناعاً زائفاً كعازفة ساكسفون أنثى. تقول شوجر كين: "لقد سئمت من الحصول دائماً على بواقي المصاصة المأكولة". ويبدو أن هذا هو نفس تفكير كل أبطال وايلدر. نفس دافعهم من أجل الربح، ومن أجل الحصول، أخيراً، على المصاصة كاملة. وتتحقق رغبتهم في النهاية، ويحققون فوزهم، بالطريقة الوحيدة المتاحة للضعيف في مجتمع الاستهلاك الرأسمالي: بالخداع، والكذب، والأقنعة.

يصبح القناع هو الحقيقة في النهاية، بل ويصبح واقعياً أكثر حتى من الواقع نفسه. وبمصطلحات جان بودريارد: "يصبح المصطنع أكثر واقعية من الواقع الإنساني، ويتم القضاء على الأصل نفسه لصالح الصورة المزيفة، أي يتم اغتيال الواقع لصالح القناع. وينفصل المصطنع-القناع عن الواقع، فلا يصبح صورة منعكسة للواقع، ولكن صورة أصيلة مختلفة ومغايرة، وأكثر واقعية من الواقع الرث، الذي يتم تجاهله لأنه أقل جاذبية وربحاً من المصطنع."

يقول المليونير أوزجود في نهاية (البعض يفضلونها ساخنه): "لا أحد كامل!" وهو قول ينسحب على جميع البشر. إن أفلام وايلدر تقدم لنا الجنس البشري بوصفه مفتقداً للأحكام الأخلاقية، في ظل فلسفة "الحياة كمطاردة بين الفريسة والصياد" في مجتمع الغابة البشرية. وكوميدياته هو نوع من السخرية من هذا الوضع، ويحق لنا وصفها بـ "الكوميديا الديستوبية." وفي كوميديا المخادعين تلك، لا يوجد الأمل إلا في ظل أخلاقيات الخداع والمكر والأقنعة.

فيلموجرافيا
ولد صامويل وايلدر (1906-2002) في إحدى المقاطعات البولندية، التي كانت تتبع الإمبراطورية النمساوية-المجرية في زمانها. أطلقت عليه أمه اسم "بيلي" تحبباً، وظل ملازماً له طيلة حياته. عشق موسيقى الجاز منذ الطفولة. وفي صدر شبابه أجرى مقابلة من الموسيقى الأمريكي بول وايتمان، ثم رافقه في رحلته الفنية إلى برلين، حيث عمل مراسلاً صحفياً وكاتب مقالات في الصحف الألمانية. ودخل، بفضل علاقاته الواسعة، في مجال السينما، حيث شارك في كتابة عدة سيناريوهات لأفلام ألمانية في ذلك الوقت. وعقب وصول النازيين الألمان إلى الحكم، هاجر إلى باريس، حيث أخرج فيلماً روائياً هناك. وفي عام 1934، هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بغية العمل في ستوديوهات هوليود. ونجح في العمل ككاتب سيناريو بالاشتراك مع الكاتب تشارلز براكت، في عدة أفلام أمريكية لصالح إرنست لوبيتش وهواد هوكس، حتى العام 1942. من أبرز تلك الأفلام: (نينوتشكا، 1939) للوبيتش، و(كرة النار، 1941) لهوكس.

تأثر كثيراً بأسلوب لوبيتش في الكوميديا، خاصة في بناء السيناريو، وكتابة الحوار. منحته شركة "باراماونت" الفرصة لإخراج أول أفلامه (الرائد والقاصرة، 1942)، الذي حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً. وتلاحقت بعد ذلك أعماله السينمائية. شاركه السيناريست إيزي دايموند في كتابة درره الكوميدية، منذ بداية الخمسينيات، ولمدة 25 عاماً.

يعد وايلدر أهم صانعي السينما في هوليود في فترة الخمسينيات والستينيات. ومثل حالة خاصة، جمعت بين العمل وفقاً لنظام الستوديو في هوليود، وبين صانع السينما المستقل إخراجياً وإنتاجياً. يلقب في هوليود بـ "سيد الإيقاع والتخفي"، وتعد أفلامه الكوميدية من أعظم ما صُنع في السينما العالمية. تأثر به الكثيرون من كبار صناع السينما في جميع أنحاء العالم، خاصة في: المواضيع، والحبكات، وطرق توليد الضحك، وصنع المواقف الكوميدية.

صنع بيلي وايلدر 26 فيلماً روائياً طويلاً في الفترة من 1933 وإلى 1981. أبرزها:
- الرائد والقاصرة، 1942
- تعويض مزدوج، 1944
- عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة، 1945
- علاقة خارجية، 1948
- شارع الغروب، 1950
- كنز في الحفرة، 1951
- سابرينا، 1954
- هرشة السنوات السبع، 1955
- الحب بعد الظهيرة، 1957
- شاهد إثبات، 1958
- البعض يفضلونها ساخنة، 1959
- الشقة، 1960
- واحد، اثنان ثلاثة، 1961
- إرما لا دوس، 1963
- قبلني يا أحمق، 1964
- كعكة الحظ، 1966
- الحياة الخاصة لشرلوك هولمز، 1970
- الصفحة الأولى، 1974
- فيدورا، 1978



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن