قصتي مع نوال السعداوي

محمود يوسف بكير

2021 / 3 / 25

طوبى ‏لكل المناضلين من أجل الضعفاء والمظلومين، طوبى لكل من يجتهد لتنوير البصائر وفتح العقول المغلقة، طوبى لكل من يطالب بالعقلانية وتحرير الناس من الأوهام والمعتقدات التي انتهت صلاحيتها منذ مئات السنين، طوبى لمن يصوبون الأخطاء وينتقدون الأفكار البالية وطوبى لمن يعرضون أنفسهم للمخاطر والاضطهاد لمجرد سعيهم لتحرير الناس من عبودية الماضي وتقديس الاصنام.
‏التاريخ يحفظ لكل هؤلاء ومنهم د. نوال السعداوي مكانة عالية في سجلاته المخصصة للخالدين.

‏وهبت نوال السعداوي حياتها لقضية واحدة وهي الدفاع عن المرأة المسلمة في عالمنا العربي البائس حيث المرأه نصف الرجل وناقصة عقل ودين ومكانها البيت في الفراش وللخدمة فقط، وإذا ما اشتكت من التهميش والاحساس بالدونية فإنه يمكن اسكاتها للأبد بورقة صغيرة ويمين الطلاق. المرأة في الغرب وصلت إلى منصب الرئاسة في كل المجالات وعندنا ‏لازالت توعد بالجنة شرط أن تكون جارية ولا تقول إلا نعم يا سيدي.

حكايتي ‏مع السعداوي بدأت عندما كنت طالبا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة حيث كانت لي زميلة في قسم الاقتصاد أسمها منى حلمي تتسم برقة الطبع ولكنها في ذات الوقت قوية الشخصية وكان واضح من خلال حواراتي معها أنها قارئة جيدة. وفي أحد هذه ‏الحوارات علمت منها أنها ابنة الدكتورة نوال السعداوي، وقتها أدركت السبب في أنها مختلفة عن بقية البنات في دفعتنا بالكلية لأنني كنت أقرأ لأمها وأعرف تأثير كتاباتها وآراءها على الآخرين.

‏بعد التخرج باعدت بيننا الأيام حيث تركت مصر للعمل والدراسة بالخارج، ولكنني لم أنقطع أبدا عن زيارة مصر عدة مرات كل عام للقاء أمي وأبي وأخوتي وأصدقائي وأحبتي وفي أحد زيارتي تعرفت على المستشار محمد سعيد العشماوي القاضي والكاتب الموسوعي المعروف ‏وله مؤلفات ومقالات تنويرية لا حصر لها لعل من اشهرها كتابه عن الخلافة الإسلامية وهو كتاب رائع يوضح فيه كيف تحولت هذه الخلافة إلى ملك عضوض وبذخ وتحلل وخيانات واغتيالات وفتن وحروب انتهت بكوارث عديدة لازلنا نعاني من آثارها حتى الآن.
‏والحديث مع الرجل كان ممتعا ومفيدا في ذات الوقت لأنه كان بين جيلين مختلفين وكنت احرص على زيارته في معظم رحلاتي العابرة للقاهرة في شقته الجميلة التي تشبه المتحف بحي الزمالك الراقي وقتها، وكان الرجل يسعد بهذه الزيارات ومناقشاتي معه وما أحضره من كتب يطلبها من لندن. كان وحيدا وشبه معزول عن العالم إلا من شرطي من الداخلية مخصص لحراسته تحت منزله بسسب التهديد باغتياله ‏لاصداره بعض الأحكام ضد عدد من منتسبي جماعة الإخوان المسلمين.
وفي ‏أحد المناقشات تطرق حديثنا إلى ‏قضية المرأة في مصر، وعادة لا يخلو أي حديث في هذا الموضوع من اسم نوال السعداوي كرائدة في الدفاع عن حقوق المرأة،‏ وما أن ذكرت اسمها وإنني أقرأ لها حتى قال إنه يعرفها شخصيا وعلى تواصل معها فقلت له إنني كنت زميلا لإبنتها منى في الجامعة. ‏فقال إنه لم يتصل بها منذ فترة فطلبها على التليفون والمايكرفون مفتوح حتى اسمع حوارهما، قال لها إن لديه ضيفا وذكر اسمي وإنني كنت زميلا لإبنتها منى حلمي، فطلبت أن تتحدث معي وكانت ودودة للغاية واعطتني رقم تيلفون منى ودعتني إلى زيارتها ‏وأحضار العشماوي معي، فقلت لها سوف أحاول في زيارتي القادمة للقاهرة.
‏وأصبح من عاداتي في رحلات الترانزيت للقاهرة أن أسلم على نوال تلفونيا كلما زرت صديقي العشماوي، وقالت في أحد المرات أنها قرأت بعض مقالاتي التي كانت تنشر في مصر قبل التضييق الذي تعرضت له أيام مبارك والآن حذر كامل للنشر لأسباب لا أعلمها. وكانت أيضا فخورة بكتابات إبنتها منى وهي كاتبة موهوبة ومشهورة بمقالاتها الغامضة واشعارها الرقيقة التي تنشر في مجلة روز اليوسف.
‏المهم أن قصر زيارتي المكوكية لمصر لم تمكنني أبدا من لقاء نوال وجها لوجه. وبعد وفاة صديقي العزيز المستشار العشماوي لم أعد أتواصل معها حتى تليفونيا، ولكنني لم انقطع عن القراءة لها وكانت آخر مرة شاهدتها على شاشة التلفزيون أو الكمبيوتر منذ سنوات طويلة ‏كانت في لقاء حواري عنيف مع الدكتور محمد عمارة الداعية الإسلامي المشهور والمعروف بنظرته الدونية للمرأة وهوأيضا توفي منذ عدة أعوام. في هذا الحوار الذي لم يكن الغرض منه حسبما رأيت سوى الاغتيال المعنوي لنوال وجرها إلى منطقة خطرة تمهيدا لتكفيرها واستباحة دمها، والمؤسف أن عمارة اتبع كل أساليب الإرهاب الفكري بصوته العالي مع نوال لإخافتها وإحراجها أمام المشاهدين، ولذلك ‏كنت مستغربا في البداية فكرة قبولها للحوار معه وحسبت أنها وقعت في فخ رغم ذكائها الشديد، ولكنني فوجئت بقوة هذه المرأة وثباتها ورجاحة عقلها ومنطقها، والمدهش أنها هي التي أحرجت الشيخ عمارة.
‏كم كانت رائعة وشجاعة هذه السيدة وهي تقبل أن تدخل في حوار توقع الجميع مسبقا أنها ستخسره مع محاور داهية وذكي ومتطرف مثل محمد عمارة.

رحم ‏الله هذه المناضلة الخالدة وعزائي لزميلتي منى وتحياتي وشكرى وتقديري لإدارة الحوار المتمدن على بثها لخبر وفاة نوال السعداوي والشكر موصول أيضا لكل الزملاء الكتاب الذين قاموا بنعيها والكتابة عن سيرتها العطرة. ‏ومن باب الفكاهة كنت أعتب دائما على نوال أنها تكتب عن اضطهاد وظلم المرأة فقط وتتناسى أن الرجل في عالمنا العربي ليس أحسن حالا من المرأة، بل إنه أسوأ ويتعرض لكل أنواع القهر والظلم والقيود وقطع الرزق، البعض يقول إنه الإسلام والبعض الآخر يقول إنه الإستبداد والقهر ودولة الصوت الواحد ونظم الحكم الفاسدة. المهم أنه ما دام رجال الدين مصممون على حمل سلمهم بالعرض فأن النتيجة واحدة وهي فشل مشروع بناء الدولة الحديثة في عالمنا العربي.
وأخيرا وهو رجاء خاص لكل الكتاب والمعلقين والقراء خاصة المقيمين منهم في مصر أن يطمئنوننا ‏على زميلنا العزيز والمفكر الكبير الاستاذ محمد البدري الذي أدعو له بكل الخير وأن نسمع منه قريبا.

‏‏‏محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن