ظل آخر للمدينة29

محمود شقير
shukair@hotmail.com

2021 / 3 / 5

إنه فصل الخريف. أشياء كثيرة تمضي نحو التلاشي والذبول.
أوراق الشجر تتساقط على الأرض، تذروها رياح ساخنة، محملة بكدر وغبار، وتبدو الأرض مكفهرة شاحبة، ولا أجد عزائي إلا في أشجار الزيتون.
أثناء غيابي، قطع أبي كل أشجار التين التي كانت تملأ أرضنا التي نملكها في "وادي ذياب" غير بعيد عن بيتنا، ولم يُبق إلا على تينتنا "الزرقية" التي ما زالت حتى اليوم تجود علينا بثمرها اللذيذ. وقد قطع أيضاً أشجار العنب التي لم تكن تعطينا سوى العنب "الجندلي"، ذي القطوف الضامرة، الذي لا يساوي شيئاً إذا ما قورن بالعنب "الدبوقي" ذي القطوف الوافرة، فلم يعد أبي قادراً على احتمال ذلك. زرع أرض الوادي أشتال زيتون، ظل يعتني بها ويسقيها الماء عدة سنوات حتى استوت شجراً له حضوره، وله خضرته التي تملأ الأبصار.
حينما عدت إلى الوطن، وجدت أبي في حالة صحية لا تسمح له بمواصلة الاهتمام بالأرض. ذهب معي ذات صباح إلى حي الشيخ سعد. وقفنا هناك في أرضنا التي تسمى "الديارة"، كنت أرقبه خفية وهو يمشي بوهن فوق التربة التي زرعها قمحاً وشعيراً لسنوات طويلة، وأقدّر أنه لم يعد له سوى القليل من السنوات يحياها فوق هذه الأرض. كان هو الآخر يقدّر أن النهاية تقترب، ولذلك، فهو معني بتسليم الأمانة لمن سيحملها من بعده.
نمشي، ونتبادل كلاماً يبدو عادياً في الظاهر، لكنه مشحون بطبقات من العواطف الخفية والإشارات الغامضة لخلافات عائلية سابقة. كان معنياً بأن لا تتشظى الأسرة من بعده. حاولت تقديم كل ما يلزم من تطمينات إزاء هذا الأمر، وكنت أرقبه وأنا أتذكر كم تهيبت منه في سنوات يفاعتي وشبابي، لكنني حاولت غير مرة التمرد عليه. مرة، بعد هزيمة حزيران مباشرة، اشتبكت معه بسبب شأن عائلي، واحتدم الخلاف بيننا، فلم أكلمه طوال أسبوع، ثم تصالحت معه. بدا متألماً لهذه المقاطعة التي لم يكن يتوقعها، غير أنه لم يشأ أن يصعّد الموقف، ولم يكتف بذلك، بل إنه أصبح حذراً في التعامل معي. الآن، لم يعد هذا الرجل يطلب سوى تسليم الأمانة دون تدخلات أو اشتراطات. كنا نمشي معاً مثل صديقين.
وها هو ذا الخريف يقترب.
أمضي إلى أرضنا في "وادي ذياب"، أنهمك مع بقية أفراد الأسرة في قطف الزيتون. يتساقط الغبار الذي يغطي أوراق الشجر فوق رأسي وعلى ملابسي، ولا أبالي به، أواصل دوري مثل أي رجل لم يقطع علاقته بالزراعة، أقبض على أغصان الشجرة، وأقوم بجرد ما عليها من حبات زيتون، تتهاوى فوق بساط النايلون الذي فرشناه على الأرض لهذه الغاية، تمهيداً لنقل الزيتون المقطوف إلى المعصرة، التي تحوله إلى زيت له نكهة محببة، فأشم فيه رائحة التعب، ورائحة الأرض والجذور، وأجد فيه المتعة التي تتمثل في الاقتراب من سر الشجر الخالد، الذي يحفظ سيرة الفلسطيني في وطنه، ما يدلل على تواصل الأبناء مع الآباء في مسيرة لا تنتهي، عبّر عنها في حكمة بالغة، درس القراءة الذي تلقيناه على مقاعد الدراسة: غرسوا فأكلنا، ونغرس فيأكلون.
يتبع..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن