من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ ‎10

عدنان إبراهيم
saidnosi8@gmail.com

2021 / 2 / 21

رسالة الشفاء

الحمد لله الهادى من أحبه للصراط المستقيم، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ‏القريب ممن تقرب إليه بالسمع والطاعة لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، المجيب لمن استجاب له سبحانه بالعمل ‏بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي قدر الذنوب وقدر التوبة، وأنزل التوابين منزلة أهل محبته، فكان ‏تقدير الذنوب على المؤمنين الذين سبقت لهم الحسنى سببا في رفعة مقامهم عند الله تعالى، وعلو ‏منزلتهم لديه سبحانه، قال جل جلاله: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) والتواب هو المذنب ‏الذي رجع بالإخلاص إلى الله تعالى، والمتطهر هو المتنجس الذي تطهر من حظه وهو اه ورأيه، ‏مفردا قصده متجردا بحول الله وقوته مما يحجبه عن شهود جمال الله تعالى، وكفى بأهل الذنوب ‏التائبين منها شرفاً أن الله تعالى يحبهم، لأن أعلى مقامات السالكين محبة الله إياهم. ‏
والصلاة والسلام على الحريص على العالم أجمع الرءوف الرحيم بالمؤنين، من هوأولى ‏بالمؤمنين من أنفسهم، سيدنا ومولانا محمد وآله.‏
وبعد، فمن خديم الفقراء محمد ماضى أبى العزائم لأحبابى في الله ورسوله، وإخوانى في ‏الأخذ بالعزائم بقدر الاستطاعة، وأولادى في مجاهدة النفس وتطهيرها من نزوعها إلى البدع ‏المضلة، وميولها إلى فطرها المهملة، أيدنى الله وإياهم بروح منه، وامدنا بروحانية رسول الله (صلى ‏الله عليه وآله وسلم).‏
السلام على أهل الوفا والصفا، من أبنائى المخلصين في عبادة الله، الصادقين في معاملة ‏الله، القائمين شهداء لله ولوعلى أنفسهم، أدام الله لنا الاستقامة والكرامة والعناية، أنه مجيب ‏الدعاء.‏
إعلموا إخوانى – أيدنى الله وإياكم بروحانية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - إن السالك في طريق ‏الله تعالى له مائة منزلة، لكل منزلة ثلاثة مقامات، ولكل منزلة من تلك المنازل علوم وذوق ‏وكشف وشهود، ووجود وفناء وبقاء.‏
ولما كانت تلك المنازل، لا ينزلها السالك إلا بالمرشد المعلم، العالم الربانى، الوارث المحمدى، الحى ‏بالله بعد الموت بالفناء فيه سبحانه، القائم بالله لله، العامل بظاهر الشريعة وباطنها، الممثل لحضرة ‏رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكمل تمثيل، الممنوح روحانية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن الله جل جلاله، لم يشأ أن ‏يجعل مخلوقا يتصف بصفة من صفاته بذاته، بل بتعليم من غيره، ولذلك فقد جعل للملائكة ‏معلما وهو آدم، وجعل للرسل معلما وهو جبريل، وجعل للسالكين معلما بعد رسول الله (صلى ‏الله عليه وآله وسلم)، وهو المرشد الحى بالله القائم بالله لله، الدال على الله الحى القيوم جل ‏جلاله.‏
ولما كانت تلك المنازل، لا يحصل فيها الأمن والهداية للسالك، إلا بعد أن يحل في كل ‏منزلة حتى يتمها، ولديها يكون ممن قال الله تعالى فيهم: (أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) لأنه ‏آمن إيمانا لم يلبس إيمانه بشرك، ولأنه قبل أن يحل في تلك المنازل يكون إيمانه ممزوجا بشرك، وكم ‏من ولى ورع زاهد عابد وهو مشرك، إلا أنه يخفى عليه شركه.‏
وإنما صحبة المرشد للتجريد من هذا الشرك الظاهر أو الخفى والأخفى، فإن فرعون قال: ‏أنا ربكم الأعلى، للمصريين، وهذا العابد الزاهد قد يرى عباداته تنفعه، أو يرى أنه فعل العبادة ‏‏– غير ملاحظ التوحيد الخالص من غير شوب- أو يظن أنه نفع المريدين بحاله وعلمه وكراماته، ‏أو يعتقد أنه قام بعمل لرسول الله ولله، أو يقصد بعمله غير وجه الله العظيم، وكل ذلك في طريقنا ‏من الشرك، قال الله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ).‏
ولما كانت أمراض النفوس لا تحصى ولا تحصر، كان من الواجب على السالك أن يكون ‏كالميت بين يدى الأستاذ حتى يحيا، فإذا أحيى كان كالطفل في حضانة الأستاذ حتى يشب، ‏فإذا صار شابا كان ولدا للأستاذ، فإذا بلغ سن الصبا كان للأستاذ خادما أو وزيرا، حتى يبلغ ‏أشده، فإذا بلغ أشده منح أمانته، فشكر الله تعالى على ما وهبه من النعم، وشكر الأستاذ على ‏ما أجراه الله له على يده، وهذا الشكر فريضة فرضها الله تعالى، قال الله تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي ‏وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ولزمه أن يتأدب للأستاذ، فينسب إليه تربيته وعلومه وأسراره واحواله أدبا ‏مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يدلّس (1) فإن من دلّس في طريقنا كفر.‏
والتدليس في الطريق كِبْرُ الواصل إلى الله عن أن ينسب فضل الله الواصل إليه على يد ‏الأستاذ الذي أجراه الله له على يديه، كما تنسب الحرارة والضوء إلى الشمس، ومن تكبر على ‏الشمس وأغمض عينيه وقال أنا أمشى من غير نور الشمس، هوى في هاوية الكبر، أعوذ بالله.‏
لا تظن أن رجلا صحب رجلا، ورأى مرشدا كاملا دالا على الله فتبعه قد أساء، ولكنه ‏أحسن إلى نفسه، ولكن الإساءة أن يصحب المرشد الكامل فينزله في أول منزلة من منازل ‏الطريق فيذوق بها حلاوة الإقبال، ولذة التوبة، وبهجة العمل الصالح، والأنس بذكر الله، والغيرة لله ‏بالقول والعمل والبذل لله، فيتجمل بحال التوابين ومقام النبيين، فيغتر بما تفضل الله عليه على يد ‏المرشد، وخصوصا إذا أطلق الله لسانه بفضائل المرشد ومحاسنه، ومواهب الله التى تفضل بها ‏سبحانه عليه، فيقبل الله عليه بوجوه الخلق، فيظن المسكين أنه اتصل ووصل، فيقبل على الناس ‏ويلتفت عن المرشد، جاهلا بطريق الله، وهى أو ل عقبة في طريقنا سعد – والله – من اقتحمها، ‏وأول غل في عنق السالك، فاز – والله – من فك رقبته منه. قال الله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * ‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ).‏
ولما كان علاج تلك الأمراض هو كعلاج الأجسام، إما يتعاطى الأدوية المرة الحريفة، أو ‏بترك الأطعمة اللذيذ المألوفة، فكذلك علاج تلك الأمراض يجب أن يكون بتكليف المريد ‏بأعمال شاقة مؤلمة، وبتجريده من حظوظ وشهوات مرغوب فيها، فإذا أبى المريض أن يتعاطى ‏الأدوية المرة ويترك الأطعمة الشهية اللذيذة هلك، وكذلك السالك إذا تكبر أن يقوم بالأعمال ‏التى يأمر بها المرشد، وتكبر عن ترك عوائده وحظوظه التى ينهاه عنها المرشد هلك، ولا يضر إلا ‏نفسه.‏
لذلك أحببت أن أبين لإخوانى – عصمنى الله وإياهم من النزوع إلى الحظ الوبى، والشرك ‏الخفى، والظلم الجلى – وأبين لهم أن كل خير نالوه وكل فضل أوتوه، وكل نعمة وصلت إليهم، ‏هى ولا شك بتقدير من الله وفضله، إلا أن الله جل جلاله وتقدست صفاته، لا يدركه جل جلاله إلا هو، وكل ‏من سواه يُرى آياته سبحانه في غيره. فمن الشرك الخفى والكفر الجلى أن يكفر المرء برسول الله ‏‏(صلى الله عليه وآله وسلم) كما فعل أهل الغواية فقالوا: ما وجدناه في كتاب الله عملنا به وما لم نجده في كتاب الله ‏تركناه، كبرا على رسول الله (2) وقد أعطى الله رسوله القرآن وأكثر من القرآن، وفرض سبحانه ‏علينا طاعته وطاعة ورسوله، فطاعته سبحانه وتعالى فيما أنزل في كتابه، وطاعة رسوله فيما سنه ‏‏(صلى الله عليه وآله وسلم) لنا.‏
وتلك النفوس – نعوذ بالله منها – تصحب الرجل لعلة خفية، وحظ خفى، فإذا نالت ‏غايتها ألفتت الناس إليها، وسعت في تنقيص المرشد، وهذه النفوس تفعل كذلك مع رسول الله، ‏فتترك سنته (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعمل برأيها، وتعمل ذلك مع الله، فتترك أحكامه وتعمل بما يوافق حظها، ‏وكم من مفارق الكتاب والسنة وله شيعة يعتقدون أنه أكبر أولياء الله، وهو يعلم حق العلم أنه ما ‏عمل هذا العمل إلا للذته وحظه، أعاذنا الله من مرض لا يعتنى من قام به بمعالجته حتى يهلكه.‏
لذلك كله أحببت أن أنبه إخواننى إلى المسارعة إلى الطبيب الروحانى، عند الشعور بأعراض ‏المرض خوفا من الهلاك الأكبر أعاذنى الله وإياهم من الفتن المضلة والأهواء المضلة، وكم أهلك ‏إبليس اللعين رجالا افتتحوا سيرهم بالإخلاص والصدق.‏
‏ واعلموا يا إخوانى أن السالك يجب عليه أن يجتهد في تفريد قصده حتى لا يقصد غير الله تعالى، ‏فقد يبتدى سيره بالإخلاص موحدا قصده، فيكون المرشد قصده في بدايته، ليوصله إلى الله تعالى ‏ويبين له طريق الوصول إليه، ويوضح له سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم﴾، ويناوله من شراب المحبة أرواه ‏ومن العلوم أنفعها، ومن الحوال أعلاها، ومن الشوق إلى الله أصفاه، فينزله في أعلى مراتب قلبه ‏كما قال السالك لأستاذه:‏
أحبك حبا لو يفض يسيره
على الناس مات الناس من شدة الحب
وما أنا موف بالذى أنت أهله
لأنك في أعلى المراتب من قلبى

وكما قال ابن حمدون لإمامه سيف الدولة:‏
‏ فليت الذي بينى وبينك عامر ‏
‏ وبيني وبين العالمين خراب
وليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
إذا صح منك الوصل فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
ولا عجب، فإن المرشد في عين السالك كدليل لسائر في صحراء، لا نجاة له من هولها إلا ‏بالسمع والطاعة له.‏
والسالك يهلك إن لم يتعود على السمع والطاعة للمرشد، من بدايته إلى نهايته، في ‏الرخاء والشدة، والكسل والنشاط، وما علم وما لم يعلم، ما دام المرشد عاملا بكتاب الله وبسنة ‏رسول الله حالا ومقالا، فإذا رأى منه ما يجهل حكمته، أسرع إلى المرشد فعرض ما ورد عليه ‏ليبين له ما يطمئن به قلبه، فإن للطريق غوامض أسرار تخفى على كبار العلماء، بل وعلى أكمل ‏المريدين.‏
الفناء: هوتجريد عن لوازم البشرية، ومقتضيات الآدمية ونوازع الإبليسية، وميول النباتية، ‏ودواعى الجمادية، ‏
مسارعة إلى الزهد في الدنيا، والمجاهدة لتلك النفوس بتحمل فادح الآلام صبرا وعزيمة، تشبها ‏بالعالم الروحانى، اقتداء برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبأئمة الهدى، حتى يكون ممن أثنى الله عليهم ‏بقوله:(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْو مُعْرِضُونَ * ‏وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ ‏أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ ‏وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أو لَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ ‏الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وممن مدحهم الله تعالى بقوله: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء ‏عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم ‏مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) من الخشوع في الصلاة، وإعراضهم عن اللغو، والمسارعة إلى تزكية النفس ‏وحفظ الفرج، ورعاية الأمانة والعهد، والمحافظة على الصلوات في الأية الأولى، ومن الشدة على ‏اعداء الله والحمة بالإخوان، ودوام الركوع والسجود ابتغاء فضل الله ورضوانه، وصبغة الله التى ‏تظهر الخشوع على الوجه، إلى آخر معانى الآية الثانية. ‏

بذلك يكون السالك فانيا حقا:‏
عن نفسه التى تدعوه إلى الشرور، وعن أكثر ضرورياته وكماليته، وفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تشبها ‏بأكمل المعانى المحمدية، وفي الله تفريدا له سبحانه بالأولوهية والربوبية.‏
وأما الفناء عن الكمالات المحمدية وعن تنزيه الإله في الألوهية والربوبية، إلى الرذائل الإبليسية ‏والإباحة البهيمية، والقبائح البشرية والحظوظ الآدمية حتى يخلد إلى الأرض – وهو مطالب بأن ‏يشهد ملكوت السموات والأرض – هذا ليس فناء عندهم، ولكنه بلاء على من يحرفون الكلم ‏عن مواضعه من رضا بالحياة الدنيا واطمئنانا بها. والله تعالى أسأل أن يمنحنى وإخوانى المسلمين ‏جميعا التوبة والإنابة إلى الحق، فإنه هو التواب الرحيم ويحب سبحانه التوابين. ‏

العناية والمحبة:‏
العناية أزلا، بها نيل الولاية أبدا، وإلا فمن آدم في البداية ؟ ومن إبليس في النهاية ؟ وقد ‏فعل آدم ما نهاه عنه مولاه، وخالف إبليس أمر الله، فتاب على آدم واجتابه، ولعن إبليس ‏وأقصاه، ومن سبقت له منه سبحانه الحسنى فقه عن الله المعنى، فاسألوا الله العناية ليمنحكم ‏الولاية. ‏

"دستور آداب السلوك إلى ملك الملوك‎"
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم


‏______________________‏_______________
‏(1)‏ التدليس مصطلح في علم الحديث، وهو الرواية مع إسقاط الراوي الذي سمع منه.‏
‏(2)‏ كما يفعل من يسمون أنفسهم بالقرآنيين، وهم ليسوا قرآنيين ولكنهم يخالفون القرآن وحقائقه الروحانية التي يعلمنا إياها الإمام الوارث، قال ‏تعالى: (وما آاتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).‏



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن