ماكس فيبر (1864 - 1920)

غازي الصوراني
cdideology@hotmail.com

2021 / 2 / 16



فيلسوف وعالم ألماني في الاقتصاد والسياسة، وأحد مؤسسي علم الاجتماع  الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة، وهو من أتى بتعريف  البيروقراطية([1])، وعمله الأكثر شهرة هو كتاب" الأخلاق البروتستانتية" و"روح الرأسمالية" و "السياسة كمهنة" حيث عَرَّف الدولة: بأنها الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة الطبيعية, وأصبح هذا التعريف محورياً في دراسة علم السياسة.
درس فيبر جميع الأديان وكان يرى أن الأخلاق البروستنتانتية أخلاق مثالية، ومنها استقى النمودج المثالي للبيروقراطية والذي يتميز بالعقلانية والرشادة.
الفكرة المُوَحَّدَة لديه، كانت التركيز على العلاقة المتبادله بين التشكيلات القانونية والسياسية والثقافيه في جانب، والنشاط الاقتصادي في الجانب الآخر، فالمشروع الاقتصادي مثلاً يكون رشيداً عندما تُضْبَط الدولة بواسطة البيروقراطية، بل إن المجتمع بكامله يتجه نحو التنظيم البيروقراطي، وحتى العلم نفسه يعد من وجهة نظر فيبر مظهر العملية العقلية التي تميز المجتمع الحديث.
فلسفة العلم والأنماط المثالية:
رأى فيبر أن ثمة فرقاً أساسياً بين الوقائع والقيم، بين ما هو موجود وما يجب أن يكون، وبوصفنا علماء –كما يقول – "لا يمكننا أن نعلق إلا على الوقائع وليس على القيم، ولا شك في أنه يمكننا أن نبحث في القيم التي يقبلها الشعب، تلك مسألة تجربية عملية، كذلك يمكننا أن ننخرط في الشؤون السياسية والأخلاقية، غير أن مصدر ذلك الانخراط هو وضعنا كمواطنين، وليس كعلماء، لذا علينا أن لا نخلط بين هاتين المنطقتين كإنشاء دعاية سياسية بمظهر العلم، ولا ريب في أن العلم يمكنه أن يفيدنا شيئاً عن الوسائل الملائمة لتحقيق هدف معين، يمكنه ان يخبرنا شيئاً عن "تكلفة" الوصول إلى ذلك الهدف، غير أنه حالما تقدم مثل تلك الوقائع، فعلى الإنسان أن يقوم باختيار شخصي، تلك كانت أطروحة فيبر عن استقلالية العلم عن القيم، أي إن العلم من حيث هو علم لا يستطيع أن يقول شيئاً إلا عما هو موجود وليس عما يجب أن يكون. ففي العلم نحن نطلب الحقيقة التي يعتبرها كل واحد صحيحة"([2]).
أكد فيبر "وجوب استعمال العلوم الاجتماعية، منهج الفهم، فليس من المصادفة أن يكون علم الاجتماع والاقتصاد والمجتمع لديه، عنوان فرعي هو أساس سوسيولوجيا الفهم، فيجب أن لا ينحصر عمل السوسيولوجيا في إيجاد القواعد العامة التي تحكم العمل الاجتماعي، بل السعي إلى فهم نوايا ودوافع الفاعل الذاتية، التي يمكن اعتبارها في مرحلة لاحقة أسباباً للعمل الاجتماعي، ويمكن تطويرها إلى شرح سوسيولوجي بالأسباب، وهذا يطابق تعريف فيبر للسوسيولوجيا، إذ قال: "السوسيولوجيا (بالمعنى الغامض جداً لهذه الكلمة) علم يحاول الوصول إلى فهم تفسيري للعمل الاجتماعي بغية الوصول إلى شرح بالأسباب لمجراه ونتائجه"([3]).
أنماط الفعل وأشكال المشروعية:
أرسى فيبر علمه السوسيولوجي على أربعة انماط فعل "صافية" (أنماط مثالية)([4]):
1.    قد يكون الفعل ذا توجه عقلاني نحو هدف معين (الفعل العقلاني الهدف).
2.    وقد يكون الفعل ذا توجه عقلاني نحو قيمة مطلقة (الفعل العقلاني القيمة).
3.    وقد يتحدد الفعل بحالات عاطفية عند الفاعل (الفعل العاطفي أو الشعوري).
4.    وقد يكون الفعل محدداً بالتقاليد والعادات العميقة الجذور (الفعل الموجه بالتقاليد).
في نمطي الأفعال الأول والثاني كان الفعلان عقليين، ويدل المصطلح "عقلي" على معايير معينة تميز هذين النمطين من الأفعال عن النمطين الآخرين، فنمط الفعل الأول هو عقلي لأنه موجه نحو هدف مصاغ صياغة واضحة وواعية ولأنه يتبنى اعتماداً على المعرفة المتاحة التي ستؤدي إلى تحقيق الهدف، لذا يمكن وصف العقلانية – الهدفية بأنها عقلانية الوسيلة – الموصلة- إلى غاية .
النمط الثاني من الأفعال هو عقلاني لأنه محدد بمعتقد الفاعل الأخلاقي أو الديني، وهو شكل من الفعل له قيمة مطلقة مستقلة عن النتيجة، فقبطان السفينة الذي يغرق نفسه وسفينته لمقتضيات الشرف أو الواجب يفعل ذلك طبقاً للعقلانية – القيمية.
فالأفعال القائمة على "أخلاق الواجب الاخلاقي" هي أفعال ذات عقلانية قيمية، وفي معظم الأحوال، والأمثلة تبين أن ما قد يكون "عقلانياً" عند فاعل قد يكون "لاعقلانياً" عند فاعل آخر.
ويمكننا أن نذكر أيضاً أن "العقلانية" تعرف استناداً إلى هدف الفاعل وقيمه ومعرفته، وليس على أساس ما يعده العالم الاجتماعي أهدافاً وقيماً ومعرفة ذات صلة بموضوع البحث.
لا يصف فيبر نمط الفعل الثالث بأنه نمط عقلاني، فهو نتيجة مباشرة لحالة الفاعل العاطفية، فيمكن القول إن الفعل العصابي، أو رد الفعل الجامح لمثير غير عادي هو فعل عاطفي، ويقع مثل هذا الفعل على الحد الفاصل بين الفعل ذي المعنى والسلوك الذي ليس له معنى، يضم نمط الفعل الرابع كل ما نفعله "بطريقة غير واعية" بعامل التقليد والعادة (أو المعايير) التي لا نعيها، ويصف هذا النمط من الأفعال أيضاً السلوك الذي غالباً ما يزيد على ما يعد فعلاً ذا معنى.
وتقترب الأفعال التقليدية من الأفعال الموجهة قيمياً إذا كان هناك وعي للصلة بما هو "عميق الجذور"، وعندما نكون على وعي بالتقاليد فإن أفعالنا تكون ذات عقلانية قيمية"([5]).
المعنى عند فيبر وثيق الصلة بالعقلانية، فالأفعال ذات المعنى ذات صلة بعقلانية الهدف وعقلانية القيمة.
أما الأفعال التقليدية والعاطفية فهي حالات الحدود الفاصلة، فبوصفهما "سوسيولوجيا فهم" نقول إن مشروع فيبر قام على فكرة الفعل العقلاني.
لقد "مكنت أنماط الفعل الأربعة تلك –كما يقول مؤلفا تاريخ الفكر الغربي- من تعريف معنى العقلنة والتحديث عن كثب في تطور الثقافة الأوروبية، فرأى فيبر أنه يمكن وصف عملية العقلنة الغربية بأنها التطور الذي فيه تحلل الفعل العقلاني الهادف عدداً متزايداً من ميادين الفعل. فأفعال في نطاق الاقتصاد والقانون والإدارة مثلا قريبة إلى النمط المثالي الذي ندعوه "الفعل العقلاني الهادف". وإذا اعتبرنا العقلانية الهادفة قيمة ثقافية أساسية يمكننا أن نتكلم على "التقدم" داخل كل منطقة من تلك المناطق، أي نتكلم على التحول إلى العقلنة والتحديث في اتجاه عقلانية هادفة متزايدة. غير أننا إذا اعتبرنا، من جهة أخرى، "أخلاق الأخوة" الدينية قيمة ثقافية أساسية، فعلينا أن ندرك، ولو كنا مكرهين، أن أخلاق الاخوة تلك في عالم صار علمانياً ستضمحل تدريجياً في عدد متزايد من الميادين. إذاً، هناك أنواع من المسائل المركزية في تشخيص فيبر للحداثة"([6]).
وتوضح نظرية الفعل الفيبرية أيضاً ظاهرة مثل ظاهرة التحول البيروقراطي، أي: جلبت الحياة الاجتماعية الحديثة معها تحولاً متنامياً نحو البيروقراطية، ويرتبط ذلك "بالواقعة التي تفيد أن مؤسسات الأعمال والمجتمع عموماً يتطلبان بشكل متزايد تخطيطاً أفضل وتنظيماً أدق. أصبح العلم جزءاً من الإدارة، فدخل المجتمع كله، فصيرت تلك العملية الأفعال أكثر من عقلانية هادفة، لأننا بذلك سنحصل على المزيد من الأمن، وتقل خسائرنا نتيجة للعوامل الطارئة وغير المنظورة. وكانت النتيجة أن صار لدينا، في الوقت ذاته، تعميم للبيروقراطية وللعلم، وتزايد في العقلنة.
مَثَّلَ ذلك التطور لفيبر "اغتراباً وتزايداً في العقلانية الهادفة، فهو لم يعتقد بوجود تغير نوعي في هذه المنطقة. والمزيد من الديمقراطية معناه، في الوقت نفسه، تزايداً في البيروقراطية. وهنا نرى فرقاً واضحاً بين فيبر وماركس، أي: لم يكن فيبر يتصور حدوث تغير حاسم في بنية المجتمع. كذلك ليست الاشتراكية بالتحسن النوعي، فقد اعتقد فيبر أن إلغاء اقتصاد السوق سيؤدي إلى تعزيز البيروقراطية"([7]).
لقد "أنشأ فيبر ثلاثة أنماط مثالية لشرعنة سلطة الدولة، وهي: السلطة التقليدية، وسلطة القائد الكاريزمي، والسلطة القانونية. وقد ترافق تغير شرعنة الدولة مع ذيوع البيروقراطية – أو نقول بخلاف ذلك، أي إن تغيرات أشكال الشرعنة أدت إلى انتشار ظاهرة البيروقراطية، أي: في المجتمعات التقليدية والساكنة نسبياً لا وجود لشك سلطة الدولة إطلاقاً. فسلطة الدولة تقوم على التقليد، غير أن هذا النمط من السلطة يضعف مع ضعف التقليد (دخول العلم والعقلنة والديمقراطية). والشرعنة البديلة هي ما يدعوه فيبر الكاريزما، أي : تكون شرعية السلطة بفضل روابط المواطنين العاطفية بالحاكم كشخص (انظر الفعل العاطفي). ويطاع القادة الكاريزميون لصفاتهم الشخصية، وليس بفضل القانون أو التقليد: "لقد سمعتم.. أنه قيل للقدماء.. واما أنا فأقول لكم". أما في المجتمع الحديث فإن العقلنة البيروقراطية هي التي تشرعن سلطة الدولة، أي: إن ما يحصل هو عقلاني ومطابق للقانون وللعدالة، وأفعال الدولة عقلانية وشفافة. فالحكم الذي يصدر مثلاً لا يكون صادراً عن نزوات، بل على أساس قوانين كلية وثابتة. لذا تكلم فيبر على السلطة القانونية"([8]).
البروتستانتية والرأسمالية:
العقلانية والعقلنة هما الخيطان العامان المشتركان في بحث فيبر السوسيولوجي– التاريخي، ففي هذا العمل التجريبي الواسع حاول فيبر أن يشرح تطور العقلانية الخاصة بالغرب.
لذا "بحث فيبر في سمات الغرب الاجتماعية والثقافية المتميزة عن صفات الحضارات الأخرى، فرأى أن العلم لم ينشأ إلا في الغرب، وهو العلم الذي يعتبر اليوم أنه صحيح عند كل إنسان، أما المعرفة التجريبية والحكمة الفلسفية واللاهوتية فهما موجودتان في الثقافات الأخرى، مثل ثقافة الهند والصين وبلاد فارس، غير أن المعرفة المكتسبة في تلك الثقافات افتقرت إلى أساس من الرياضيات والبراهين العقلية، كما إنها لم تكن مُشَادة على تجارب علمية، وفي الفن نشاهد ما يشبه ذلك: الموسيقى موجودة عند جميع الشعوب، لكن في الغرب وحده نشأت موسيقى متناغمة وعقلية، وحصل خلال عصر النهضة عقلنة داخل الفنون الجميلة مع إدخال نظرات خطية ومكانية.
إذن – كما يقول ماكس فيبر- "ليس إلا في الغرب جرى الاعتراف "بالدولة" مؤسسة سياسية لها دستور عقلي وأساسي وقوانين عقلية وأساسية، كما رأى فيبر أن الخبراء ذوي الاختصاص العلمي والتكنوقراطيين ذوي المراتب العالية غير موجودين إلا في الثقافة الغربية، ويصح القول ذاته على ما يسميه فيبر "أعظم قوة مميتة في حياتنا الحديثة، نعني الرأسمالية، فالبحث عن المنفعة الاقتصادية معروف في جميع العصور، وعند جميع الأمم في العالم. غير أننا لا نجد إلا في الغرب تنظيماً رأسمالياً عقلياً قائماً على قوة العمل الحر (بشكل رسمي)، فالرأسمالية الغربية الحديثة تعتمد على الواقعة التي تفيد أن جميع العوامل الاقتصادية يمكن حسابها، وصار ذلك ممكناً بفضل العلم العقلي. كذلك تتطلب الرأسمالية الحديثة نظاماً قانونياً وبيروقراطية حكومية لخلق ميدان فعل يمكن التنبؤ به. ولا يستطيع سوى الغرب أن يقدم ذلك لمؤسسات الأعمال"([9]).
لماذا لم ينشأ مثل تلك العمليات العقلانية خارج الغرب؟ ولماذا نشات الرأسمالية الحديثة في اوروبا أولاً ؟ رأى فيبر أن "المواطن" يشخص نمطاً فريداً من الفعل، وهو الفعل ذو الهدف العقلاني فيكون السؤال الحاسم هو: لماذا كان هذا النمط من الأفعال عاماً في الغرب؟
لقد رأينا أن فيبر أشار إلى أحوال خارجية عديدة كانت وراء انتصار الرأسمالية في الغرب (مثل العلم والتشريع .. إلخ). غير أنه "كان مهتماً أيضاً بما يمكن أن نسميه الأسباب الداخلية، ففي كتابه "الأخلاق البروتستانتية" و"روح الرأسمالية" (1904) حاول فيبر أن يحدد العوامل الخاصة التي كانت في زمن حركة الإصلاح الديني التي حطمت المحظورات ومكنت من نشوء المجتمع الحديث"([10]).
كما رأى فيبر أن حركة الإصلاح الديني أدت إلى تغيير جذري في الأفكار الأخلاقية التقليدية الخاصة بالواجب، ومهدت الطريق لأخلاق شرعنت أسلوب حياة عقلاني جديد. لذا فإن الأخلاق البروتستانتية بررت أخلاق العمل المجهولة سابقاً، وموقفاً عقلانياً جديداً من الحياة، وقد نظر فيبر إلى أخلاق العمل تلك على أنها فرض ديني، هكذا. والواقع هو أن العمل المنتج كان له مغزى ديني مهم عند البروتستانت، وصار بمثابة دعوة، وفسر النجاح في الأعمال على أنه علاقة "المختارين" من البشر، لذا ليس الربح في ذاته لا أخلاقياً.
لم يَدَّعِ فيبر أن لوثر وكالفن قصدا بناء الشروط العقلية لنشوء الرأسمالية، كما لو تنشأ أخلاق الرأسمالية لذلك الهدف، فما قاله فيبر "هو أن نشوء الرأسمالية في الغرب كان نتيجة غير مقصودة للمواقف الدينية – الأخلاقية التي نشأت وتطورت في الطوائف البروتستانتية. اما أسلوب الحياة البورجوازية والروح الرأسمالية فقد ظهرا للعيان من وراء المشاهد.
نوقشت نظرية فيبر بكثافة خلال القرن العشرين، "وغالباً ما كان ينظر إليها على أنها بديل للمفهوم الماركسي للعلاقة بين القاعدة (الاقتصاد) والبنية الفوقية (الأيديولوجيا والدين). وفي هذا المجال، من المهم أن نعي ما لم يقله فيبر. فهو لم يقل إن الأخلاق البروتستانتية كانت الشرط الضروري والكافي لنشوء الرأسمالية، وفيبر كان يرفض نماذج الشرح الوحيدة السبب (الشروح المشادة على سبب واحد)، وأكد وجود أسباب عديدة لنشوء الرأسمالية في الغرب، لذا فإن البروتستانتية شرط ضروري، وليست شرطاً كافياً لنشوء الرأسمالية"([11]).
" لقد امتازت الرؤية السوسيولوجية لفيبر بانتباهها إلى قيمة المكون الديني ودوره في عملية التغيير والتحول، الأمر الذي جعله في تقابل وخلاف مع الأطروحة الماركسية على نحو ضدي، لأنها كانت تجعل الدين وغيره من المكونات الثقافية بناء علوياً تابعاً ومشروطاً بالبنية الاقتصادية التي تشكل الأساس التحتي للمجتمع.
ولهذا "كان اسم ماكس فيبر دائماً يحضر في النقاشات السوسيولوجية- وخاصة خلال منتصف القرن العشرين - حيث كانت الأطروحة الماركسية مهيمنة على المناخ الثقافي وفارضة نفسها كمنظور منهجي يفسر صيرورة الانتقال إلى الرأسمالية وفق قانون جدلي مادي يرتكز على تقسيم المجتمع إلى بنية علوية (الثقافة) وبنية تحتية (الاقتصاد)، جاعلاً من البنية التحتية المحدِّد الحتمي.
إن الأطروحة الماركسية جعلت المحدد المادي هو منطلق التغيير وفاعله، لكن ماكس فيبر سيقدم تفسيراً مخالفاً لهذا التصور المادي، حيث سيفسر الانتقال إلى الرأسمالية بالمعتقد الديني، وذلك في كتابه "الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية"([12]).
إن هذه الرؤية إلى نشأة الحداثة الأوروبية عند فيبر ترتبط بطبيعة رؤيته إلى الإنسان ذاته،"فهو يرى أن الكائن الإنساني لا تحركه دوافع مادية فحسب، بل ثمة دوافع ثقافية أيضا لها بالغ التأثير في وعيه وسلوكه في الحياة. لهذا سيهتم فيبر، في دراسته للتحول المجتمعي الأوروبي من النمط الإقطاعي إلى النمط الرأسمالي، بتحديد الدوافع والمؤثرات الثقافية الفاعلة في إنجاز هذا التحول، فانتهى إلى أهمية العامل الديني، حيث استحضر تلك الملحوظة التاريخية المتمثلة في كون الرأسمالية نشأت أول مرة في الشق الأوروبي البروتستانتي، فكان لا بد أن يستفهم عن سبب اختصاص الدول الأوروبية البروتستانتية بظهور الرأسمالية فيها قبل غيرها. 
لتفسير ذلك، "يبحث فيبر عن الروح والوعي الرأسمالي، فيجده ثانوياً في النزعة البروتستانتية الكالفينية، فالنزعة الطهرية الكالفينية خالفت الكاثوليكية في تقديرها للفقر، حيث حَفَزَتْ الإنسان على العمل وجعلته طقساً تعبدياً واجباً، إلى درجة أنها شَرَّطت الفوز في الآخرة بالنجاح الاقتصادي في الدنيا، كما أن الكالفينية كان لها اجتهادات فقهية (خاصة في قبولها بالفائدة) يسرت الطريق أمام نمو وانتعاش التعاملات المالية، ونمو رأس المال وتسييده على باقي القوى الاجتماعية، وهذا المرجع التصوري الكالفيني شكل الدعامة النظرية لتشكيل وتطور الوعي الرأسمالي وانطلاقه الفعلي في القرن السادس عشر حسب فيبر"([13]).
 بعد الحرب العالمية الأولى  سيطر التشاؤم على نظرته إلى المستقبل، وليس إلا بوجود موقف بطولي نحو الحياة يمكن للإنسان الحديث أن يتعلم مواجهة "العالم كما هو حقيقة في رتابته اليومية"، هذا ما رآه فيبر، الذي اعتبر أن كل تفاؤل وهماً، وقال: "ليس أمامنا صيف مزهر، بل ليل قطبي كله ظلام جليدي وقساوة، فليس المهم هو من يربح، خارجياً، الآن، فحيث لا يوجد شيء لن يكون القيصر خاسراً حقوقه، وإنما البروليتاري أيضاً".
 
 


([1]) فإن كلمة بيروقراطية تعني وببساطة البناء الاجتماعي المتسلسل لإدارة التنظيمات الضخمة بطريقة سليمة وبكفاءة وفعالية وبطريقة غير شخصية. وهو يشير إلى التغيرات التي تحدث في المنظمات الرسمية أو الأهلية بطريقة صحيحة لصنع القرارات لتحقيق الكفاءة والفعالية وتحقيق الأهداف.  ونظراً للزيادة الكبيرة والتعقيدات في حجم المنظمات فإنها تكون في حاجة إلى تنسيق لتحقيق مزيد من الفاعلية والتي تصل إلى أقصى درجاتها عندما يكون هناك سيطرة تامة للإدارة والأدوار محددة وواضحة وكذا الحقوق والواجبات. وتعتبر إسهامات ماكس فيبر في هذا المجال كبيرة حيث أنه استطاع أن يصوغ نظرية محددة للبيروقراطية تعتبر من النظريات الكبرى حيث كان فيبر مهتماً في دراسته للبيروقراطية بتحليل التغير الذي طرأ على التنظيم الاجتماعي في المجتمع الحديث فضلاً عن توضيح الخصائص أو المقومات النموذجية للتنظيمات الرسمية التي أصبحت تمثل أكثر أشكال التنظيم شيوعاً في المجتمع .
([2]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – تاريخ الفكر الغربي .. من اليونان القديمة إلى القرن العشرين – ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى ، بيروت، نيسان (ابريل) 2012 - ص 825
([3]) المرجع نفسه - ص 828
([4]) المرجع نفسه - ص 830
([5]) المرجع نفسه - ص 831
([6]) المرجع نفسه - ص 832
([7]) المرجع نفسه - ص 834
([8]) المرجع نفسه - ص 835
([9]) المرجع نفسه - ص 835
([10]) المرجع نفسه - ص  837
([11]) المرجع نفسه - ص 838
([12]) الطيب بوعزة – الحداثة من منظور ماكس فيبر – موقع: مؤمنون بلا حدود -  14 مايو 2013.
([13]) المرجع نفسه.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن