أكملت اليوم 74 عامًا؛ وماذا بعد؟

محمد عبد المجيد
Taeralshmal@gmail.com

2021 / 2 / 14

عبقريةُ الحياة هي قدرتها على الانتقال من الصب إلى الصاب، ومن الشهد إلى العلقم؛ فيتجرع الموت وهو يتمسك بالحياة ويستمتع بالحياة ولو كان يلفظ الروح.
تنتقص سنوات العمر بقدر اللوم والتثريب؛ وكلما عاتبت ماضيك، خسرت شغفك بأوجه الجمال فيه، فيبهت مستقبلك ولو بقيتْ فيه أيام معدودات أو سنوات قلائل أو عُمرٌ غير مديد.
لو كان لي أن أستعيد طفولتي وشبابي وكهولتي حتى أقوم بترتيبها من جديد، وأعيشها كـَرَّةً أخرى لما غيرت فيها يوما واحدا، حتى أسوأها، وأقتمها، وأحزنها، وأوجعها، فكتلة الحياة تؤخذ كما هي؛ وإذا استغنيت عن شطر منها تداعى له الكل بالسهر والحُمّى !
كان والدي، رحمه الله، يقول لي: أسامحك في كل أخطائك؛ لكنني لن أسامحك إذا عرفت أن ابني جبان، أو خائف من أي شخص ولو كان الرئيس جمال عبد الناصر!
كان والدي عبقريا في التربية وعندما جاءته شقيقتي الأصغر وقالت إنها ستتحجب، قال لها: أنتِ على حق! وجاءت شقيقتنا الكبرى وقالت له: أنا لن أرتدي الحجاب؛ فقال لها: أنتِ على حق!
بعد سنوات طويلة فهمت عبقريتَه، رحمه الله!
حتى أخطائي، وذنوبي، وآثامي، وضعفي لا أرسم لها صورة جديدة كأنني فنان يخلق الخَلـْـق من جديد، فقد قُدّر لي ما عشته من سعادة، وما تجشمته من عناء، ولا أريد أن أستبدل بالمعلوم مجهولا، فسنوات عُمري تعود كما هي لبارئها!
النجاح والفشل مرتبطان بالأثر الذي يتركه المرءُ قبل رحيله على كل المستويات، فإذا رحل وقد مرّغ في الوحل الأمانة التي تلقاها من الله؛ فسيسلمه مَلــْكُ الموت إلى حفّار القبور وهو ينظر إلى الأرض خجلا!
لا أستطيع أن أختصر أربعة وسبعين عاما في عدة سطور؛ فالشطر الأعظم غلبه النسيان رغم سعادتي بذاكرة حديدية تلتقط أدق التفاصيل، وتعيد تركيبها من جديد!
إذا جمعت الزمن الجميل لألقي عليه النظرة الأخيرة فأنا راضٍ تماما عن حياتي، وإذا أضفت إليه نقيضه فسيختفي القبيح خلف الجميل، فقد أُعْطيت سؤلي و.. يزيد.
مئات التمنيات التي غمرتني بتحقيقها الحياة في رحلة طويلة غادرت فيها وطني الأم مصر في سن السادسة والعشرين، وقضيت 48 عاما متنقلا من لندن ثم أربع سنوات في جنيف وتقريبا 44 عاما في أوسلو. زواج وأبناء ثلاثة، وفَقّهم الله، وأحفاد ستة مصنوعون برعاية سماوية!
تمنياتي كلها تقريبا تؤكد لي بهجة الحياة، حتى هذه اللحظة، فأنا أمشي، وآكل، وأشرب، وأقرأ، وأكتب، وأخاصم كل صور الظلم، وأقارع طغاة في كتابات لم تترك لي إلا قلة قليلة من الأصدقاء!
كتابات كلما تربصتْ بي جهة لتصفيتي، أمسك وحيٌ خفي بيدي ليدلني على الطريق الآمن؛ فخمسة من طغاة عالمنا العربي كدت أسمعهم يُقسمون أن نهايتي ستكون على أيدي أجهزتهم الأمنية!
لم أبتعد يوما واحدا في حياتي الغربية عن هموم عالمي العربي؛ فعشت الحياتين كأنهما توأمان سياميان، لغة وثقافة وكتاب واهتمامات ومتابعات!
في الطريق سقط أصدقاء كثيرون؛ فانحازوا إلى الجبناء والطغاة وأجهزة الرعب والنفاق، وابتعدوا عني مُفضّلين أحضانا دافئة لدىَ السلطة!
أولى كتاباتي كانت عام 1969، أي في عُمر الثانية والعشرين وعرضتها على الشيخ محمد الغزالي في مكتبه بالقاهرة فاستحسنها، وانخرطت في الهموم السياسية بداية من مقال شديد عن الإعلام المصري في عهد السادات في مجلة المستقبل الباريسية عام 1977، ومنذ ذلك التاريخ ومع آلاف المقالات وعشرين كتابا، لم أجد في الإعلاميين المصريين من الأصدقاء إلا قلة قليلة جدا،( أظن أنهم يعرفون الآن أنني أعنيهم فهم في حنايا القلب)، فأنا والإعلاميون المصريون على خطين متنافرين لا يلتقيان، حتى أنني في الملتقيات الإعلامية كان زملاء المهنة، الصحفيون المصريون، يعتبرونني جربا أو نجسا ينبغي الابتعاد عنه، فأنا أناهض الديكتاتور والفساد والنفاق والتملق والحرام الإعلامي.
جاء حين من الوقت لم أكن قادرا على السفر لثلثي عالمي العربي بسبب كتاباتي، وأحد عشر عاما من المترقب وصولهم إلى بلدي الأم؛ وقمت بزيارة الوطن بعد نجاح شباب يناير في الاطاحة بالديكتاتور الحرامي. وعدت مرة أخرى إلى موقعي المناهض بعد عامين من الاطاحة بحُكم الدراويش فظننت أن العسكر تعلــّــموا من درس 25 يناير 2011، لكن اليونيفورم والجلباب لا يتعلمان حقوق الشعوب الحُرة.
يسألونني عن موعد عودتي إلى مصر، وهو سؤال يُبكي أكثر مما يُضحك؛ فكيف أضع نفسي في نهايات عُمري بين أنياب الذئب؟
أنا أدفع الثمن طواعية فقد اخترت الحرية والكتابة ومناهضة الحُكام الجبابرة وأجهزة الأمن، وحُرمت من الأهل والأحباب وشمس أرض الكنانة، وزيارة قبر والدي وقبر والدتي، رحمهما الله، والأصدقاء وأماكن شهدت طفولتي، ولا أستطيع أن أضرب غُطسا في بحر الأنفوشي أو أتجول في سوق الأزبكية أو في معرض الكتاب الدولي أو أصلي في مساجد الاسكندرية وأقوم بزيارة كنائسها.
أربعة وسبعون عاما وهو موعد استقبال الضيوف الثقلاء، أي الأمراض بكافة أنواعها والتي لا تكترث إن أخرجت لها لساني؛ فتهاجمني بطُرق مختلفة وأردّ عليها بمزيد من الاستمتاع بالحياة، الزواج والعائلة والأبناء والأحفاد والكُتُب والسفر والتسامح والكتابة وفي المقدمة مطاردة الظلم وعرض هموم المهضومة حقوقهم، وحقوق المرأة والطفل والمعتقلين الأبرياء.
وتوطنت في جسدي أربعة أمراض مزمنة وخطيرة، تساعدها أمراض جانبية فكانت المستشفيات هي بيتي الثاني.
قليلا ما أكتب عن الأمراض لئلا أستدر الشفقة؛ فأنا أريد التهنئة، وأكره العزاء في الأفراح!
أمارس حياتي كأن الأمراض تمر بجواري دون أن تلمسني؛ فمعاركي لم تنته بعد، وأفراحي تطاردني حتى تخجل الأمراض فتغادرني، لكن أربعة وسبعين عاما ترحب بها.
أطبائي أكثر من أصدقائي عددًا، ورائحة أقسام المستشفيات تتسلل إلى أنفي، وأبتلع 12 دواءً في كل يوم، وتخترق جسدي حقنتان أسبوعيا، وأمارس حياتي أمام الناس كأنني مخلوق من حديد صُلب، ومن بهجة لا تكل و.. لا تبرك!
أحلم كل يوم بالقراءة والكتابة والسفر والعبادة وبأن تكون كتاباتي سببا في الإفراج عن مظلوم من سجون ديكتاتور في أي بلد!
تعلمت أن الإنسان قبل الأديان، وأن الشجاعة الأدبية هي أسمى عقيدة، وأنه لا يوجد رحم امرأة أفضل من رحم امرأة أخرى؛ فتسعة أشهر تنطلق بعدها صرخة هوية إنسانية و.. ليست هوية دينية.
تعلمت أن الجُبن مرادف للحيوانية!
يتعجبون من ثقتي أن مكانا غير الجنة لا يليق بي؛ فثقتي بالله لا حدود لها، ولو كانت ذنوبي وآثامي ملءَ الأرض.
العد التنازلي قد يبطيء وقد يُسرع، والحمد لله أن فيروس كورونا لم يتعرف عليَ بعد، فهو الأقتل إن زارني ووجد أربعة أمراض خطيرة ترحب به.
من يقرأ هذه الكلمات يتصور أنني في حالة ضعف ورعب، والحقيقة أنني أجلس على مقعد مريح بجوار مكتبتي وأنا أتأمل عناوين كنوزها، وعدت لتوي مع زوجتي من الخارج، وننتظر اتصالات هاتفية للتهنئة بعيد ميلادي، 14 فبراير وهو عيد الحب، ولا أدري أهو عيد ميلادي الأخير أم أن صاحبنا سيقوم بتأجيل زيارته المكتوبة لكل مِنّا.
يسألونني: هل ستتوب؟ قلت: معاذ الله أن أتوب عن المقارعة، والمشاكسة، ومواجعة الاستبداد، والتفكير في المظلومين! يبتسمون قائلين: التوبة إلى الله! أقول: يتوب من يظلم، ويضطهد، ويسرق، ويُفسد، ويتملق، وينافق، ويشي بغيره ويساند كلاب القصر، ويطيع كلاب المنبر من الذين قزّموا، وحجّموا، وشوهوا صورة خالق الكون العظيم.
إذا مدّ الله في عُمري، فسأكون أشدَّ، وأحَدّ،َ وأغلظ في كتاباتي الإنسانية ضد كل المستبدين، والطائفيين، والعنصريين!
لا أمارس مع السماء لعبة التوبة في الجولة الأخيرة من العُمر، فذكرياتي على الأرض تفتح لي كل أبواب الجنة، ربما بدون حساب!
تعلمتُ أنني لست أفضل من غيري في أي شيء!
كتاباتي لن تموت بإذن الله، وسيقرأها جيل وراء جيل، غثها وسمينها، رخيصها وثمينها، جميلها وقبيحها؛ لأنها تلخص حالة حب مع الحياة!
عشرات المرات من الشكر الجزيل لملائكة لم أنس فضل أي منهم: اللواء شرطة الذي أبلغني عن طريق غير مباشر أن اسمي في المترقب وصولهم لمنافذ مصر كلها( من عام 2000 إلى 2011 بعد ثورة الأنبياء الصغار)!
الدبلوماسي المصري الذي حذرني من عملية اختطاف أعدتها لي استخبارات العقيد معمر القذافي.
التحذير من تصفية استخبارات صدام حسين لي في نهاية مايو 1990، فاعتذرت عن السفر إلى بغداد.
حماية الملك سلمان لي( وكان أميرا لمنطقة الرياض) بعدما ظهرت أنياب المضيفين!
تهديد عربي من النرويج( سنقتلك أمام بيتك كالكلاب، كما قتلنا السادات!).
هذا غير مرات كثيرة قد لا أعرفها، لكن يد الله كانت ترعاني.
قد أحتفل بعيد ميلادي الخامس والسبعين بعد عام، وقد يتذكرني أحباب لي عندما أغيب، وأرحل قبل عام من الآن!
لقد أحببت الحياة فأهدتني بكرمها أربعة وسبعين عاما، وربما تُخفي وراء ظهرها وقتا إضافيا رغم الأمراض القاتلة و.. وصيفاتها!
شكرا لله فقد أعطاني أكثر مما أستحق، ورعاني في أصعب لحظات عُمري، وأبهجني بالسعادة، وفتح لي أبواب قلوب كثيرة فدخلتها دون أن أستأذن.
شكرا لله فقد كنت أتحدث مع أحد أطبائى عن تأثير كل تلك الأمراض على العقل والذاكرة والقراءة والكتابة، فأكد بالنفي، وترك الأمر لله، الرحمن الرحيم.
من يُشفق علي فقد آلمني، ومن يهنئني بمقال لم أكتبه بعد فقد أسعدني!

طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 14 فبراير 2021



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن