جون ديوي (1859 – 1952 )

غازي الصوراني
cdideology@hotmail.com

2021 / 2 / 10


فيلسوف البرجماتيه الفلسفية والتربوية الأمريكية الحديثة، استلفت ديوي أنظار العالم لأول مرة اثناء تدريسه في جامعة شيكاجو عام 1948، حيث كشف عن أفكاره في السنوات التي قضاها هناك، إلى افتتاح صف تجريبي قائم على مبادئ مذهبه باعتباره أحد أهم منظري الفلسفة البراغماتية. وقد عرض مبادئه التربوية، التي نبذت كلياً المناهج والأهداف التقليدية للتعليم، في قانون الإيمان التربوي والمدرسة والمجتمع. ويتلخص هدف التربية، في نظره، في تنشئه الناس وتدريبهم على "التكيف" مع وسطهم وعلى إعادة بناء هذا الوسط بحيث يتناسب إلى أبعد ما يمكن مع رغباتهم وحاجاتهم.
يرى جون ديوي "أن المعرفة لا تبقى حقيقة مطلقة وإنما يسعى بها العارف إلى تحقيق نجاح ما، وأن العقل ليس سوى أداة عملية يستخدمها الناس في مختلف الأغراض والمجالات، وأن التعليم لا هدف له سوى "تحسين" البيئة والحياة الاجتماعية وأن المعرفة قوة، لا تساعد الإنسان فقط على مواجهة البيئة والسيطرة عليها، وإنما تساعد الإنسان على التكيف مع الحياة الاجتماعية من المولد حتى الممات"([1]).
ولعل أعظم كتاب له –كما يقول جون لويس- هو "الديمقراطية والتعليم" حيث جمع فيه خطوط فلسفته وركزها حول مهمة النهوض بجيل افضل، لقد اعترف بزعامته جميع الاساتذة والمعلمين، وتأثرت بنفوذه معظم المدارس والجامعات الأمريكية، ولذلك يقول جون لويس "إن جون ديوي الفيلسوف الوحيد في عصرنا هذا الذي وصلت أفكاره إلى الرجل العادي من خلال تاثيرها في التربية ودعمها المتواصل لموقف من الحياة علمي معادٍ للخوارق العلوية"([2]).
يقول المفكر الراحل جورج طرابيشي "عندما أصدر ديوي، في عام 1916، بحثه الأكثر إنجازاً "الديمقراطية والتربية"، كانت حركة التربية التدرجية قد انطلقت بصورة نهائية. وكان الفيلسوف قد كتب في عام 1903 دراسات حول النظرية المنطقية؛ وكان هذا الكتاب وراء المنطق: نظرية البحث الصادر عام 1938، وكذلك، وعلى الأخص، وراء الكتاب المنشور عام 1920 تحت عنوان "إعادة البناء في الفلسفة"؛ وقد أدان الكتاب الأخير الميتافيزيقا التقليدية بل أدان أيضاً ممارسة التأمل والنظر العقلي المجانيين، معتبراً إياهما ترفاً لا طائل فيه، ترفاً برسم الطبقات الغنية والعاطلة عن العمل.
والدليل على صواب فكرة من الأفكار وعلى قيمتها يكمن، في نظر ديوي، في الجواب عن السؤال التالي : "هل تسير سيراً حسناً؟ هل هي "نافعة"؟ والواقع أن الأجوبة التي يقدمها ديوي عن مسألة المنفعة هذه، الأساسية في الأخلاق الكلاسيكية، غير مرضية تماماً. فـ"النافع" في نظره هو ما يعين "النمو"، "التقدم"، "الترقي"، "التطور" .. ونلمس في أساس هذه المفاهيم العقلانية المبهمة ضرباً من الكره الغريزي لكل ما هو ثابت، ساكن عادم الحركة : فنحن بصدد تقليد أميركي نموذجي يسلم قبلياً بان الجمود شر بحد ذاته، وبأن الحركة والتغيير خير. لكن تجدر الإشارة مع ذلك إلى أن فلسفة ديوي لاقت استقبالاً حماسياً لا في أميركا فحسب، وإنما أيضاً في الأقطار التي بدت فيها الحاجة إلى التغيير ملحة"([3]).
مارس "ديوي" نشاطاً فائقاً وجهوداً كبيرة في تجديد المدارس في أنحاء مختلفة في العالم، وأمضى سنتين في الصين حاضَرَ فيها امام المعلمين حول اصلاح التعليم، وقدم تقريراً إلى الحكومة التركية حول تجديد تنظيم المدارس الوطنية في تركيا"([4]).
سبق للفيلسوف "سبنسر" أن طالبَ بزيادة تدريس العلوم واقلال دراسة الآداب في برامج التعليم، فجاء ديوي وأضاف على ذلك وجوب تدريس العلوم بطريقة عملية تأتي عن طريق الممارسة الحقيقية النافعة للحرف والمهن، لا طريق تعليم الكتب.
يقول ديوي: "ينبغي أن تكون المدارس في مجتمع صناعي أشبه شيء بالمصنع الصغير، وتقوم بتعليم طلابها بطريقة عملية، يتدرب فيها التلاميذ باقامة التجارب العلمية والاستفادة من أخطاء هذه التجارب، أو بعبارة أوضح تطبيق نظرية التجربة والخطأ، وتدريس الفنون والنظم اللازمة بالنسبة إلى النظام الاقتصادي والاجتماعي أن ينظر إلى التعليم لا على أساس كونه مجرد اعداد للنضوج بل نمو ونهوض مستمر للعقل، وتنوير مستمر للحياة، إذ المدارس لا تقدم لنا سوى وسائل النمو العقلي، والبقية تعتمد على مدى استيعابنا وتفسيرنا لتجاربنا، والتعليم الحقيقي يأتي بعد تخرجنا من المدارس ويجب أن يستمر معنا طيلة حياتنا، وفي هذا الجانب يقول روبرت هوروتز "تكمن الحماية الصحيحة الوحيدة من سوء الحكم الآن، وفي المستقبل، في تطوير المواطنة التي تكون ديمقراطية تماماً في كل ناحية، ومن الأدوات الأكثر أهمية لإيجاد أشخاص ديمقراطيين، كما يبرهن ديوى من بداية عمله بالفعل، نظام مدرسة مخطط لهذا الغرض، ففي المدارس، لابد أن يتشكل مواطنو المستقبل حتى إن المجتمع الذي يؤسسونه بوصفهم كباراً يكون، إلى حد ما، أفضل من مجتمع آبائهم، ويكرر كل جيل، بدوره، العملية، ويكرر بالتالي "النمو" المتوالد، المتواصل"([5]).
"إن مهمة المدارس ليست ببساطة، بالتالي، أن تقيد أذهان الأجيال، بل أن تشكل "شخصيات " عن طريق التنظيم، أو المنهج بالإضافة إلى مضمون التعليم، وتقوم بذلك لكي تعد لتقدم المجتمع وتحيمه، وإن ما تحتاج إليه الديمقراطية هو أشخاص تكون طبائعهم ديمقراطية حتى إنهم يستطيعون أن يتسامحوا، ولا نقول يستيطعون أن يستفيدوا من الديمقراطية، ومن ثم لا تكون الديمقراطية السياسية، راسخة إلا من حيث إنها تقوم على أسس يكفلها بناء ديمقراطي جديد في الفلسفة، وفي كل جانب في الحياة"([6]).
إن النجاح الكبير، الذي أحرزته أفكار ديوي في الولايات المتحدة، يعود، كما يبدو، إلى أن صاحبها قد استطاع أن يستخدم، بلباقة، فكرتين ثريتين للغاية من قلوب معظم الأمريكيين: العلم والديمقراطية.
لقد "كان ديوي يطمح إلى وضع فلسفة علمية لمجتمع ديمقراطي، فلسفة تعارض الأيديولوجية الماركسية بأيديولوجية برجوازية مثاليه، قريبة بروحها من "التقليد الأمريكي"، كذلك "أُنيطت بفلسفة ديوي مهمة إعاقة انتشار الماركسية في الولايات المتحدة، واستطاعت، إلى حد ما، أن تنجح في تحقيق هدفها هذا، وقد امتدح أنصار ديوي فيه أنه وضع "منطق العلم"، أو نظرية البحث العلمي، واستخدم المنهج العلمي في كافة ميادين الحياة الاجتماعية، غير أن ديوي كان بعيداً جداً عن اعتبار العلم والمنهج العلمي أداة لمعرفة العالم الواقعي، فهو يرى فيهما مجرد أداة، تكفل للإنسان النجاح في تصرفاته وسلوكه في هذا العالم، الذي يتعذر تكوين أية معرفة موضوعية عنه، كما أن أحد المتطلبات الأساسية لـ"المنهج العلمي"، عند ديوي، هو رفض الاعتراف بالواقع الموضوعي مادة للمعرفة، وهو يزعم أننا، في عملية المعرفة، لا نتعامل مع "واقع مضى"، أي مع واقع موجود قبل أن تنصب جهودنا المعرفية عليه"([7]).
لقد "كان ديوي محقاً في نقده لأولئك الفلاسفة، الذين قصروا المعرفة على التأمل السلبي للواقع الخارجي، وفي تأكيده على أن المعرفة تتطلب تدخلاً نشيطاً من قبل الذات في الظواهر المدروسة، كما تتطلب التجريب الواسع، الذي يؤدي إلى تحويل مادة (موضوع) المعرفة في الاتجاه المناسب.
إن العلم، في نظر ديوي، ليس إلا صندوقاً مليئاً بالأدوات Insturments (المفاهيم، النظريات) ينتقي الإنسان منها، على نحوٍ تجريبي بحت، ما هو أكثر نفعاً في هذا الموقف أو ذاك، هذه الطريقة التجريبية، طريقة التجربة والخطأ، يعلنها ديوي منهجا للعلم الحديث"([8]).
كما يستخدم ديوي "المنهج العلمي" – "منطق الموقف" – في محاولة لتبرير "نمط الحياة الأمريكي" والدفاع عنه، فالطريقة الأداتية تتطلب، في رأيه، بحثاً حراً، لا تقيده العقائد الجامدة، وتجربة، تتسع وتتطور باستمرار، وفي وضع هذه التجربة موضع التنفيذ يرى ديوي جوهر الديمقراطية الأمريكية، التي تضمن، على حد زعمه، فرصة التجريب الواسع النطاق، وللبحث عن السبل المؤدية إلى تحسين التجربة الاجتماعية.
لمدة تزيد على القرن – وإلى يومنا هذا- "أمكن للفلسفة البراغماتية أن تهيمن على الحياة الروحية للمجتمع الأمريكي، فقد أسرت عقول العلماء والفلاسفة، ورجال السياسة والمجتمع، كما تسربت أفكارها إلى نفوس قسم، لا يستهان به، من الطبقة العاملة الأمريكية"([9]).
آراؤه([10]) :
يرى جون ديوي أن كل المعرفة مستمدة من التجربة، والأفكار استباقات للإدراكات الحسية، والأشياء هي كما تدركها الحواس فقط. والأفكار تُوَلِّدها الظروف، ويمكن إجمال رؤيته حول الأفكار كما يلي:
أ ـ التفكير لا يبدأ إلا حيث توجد مشكلة، أو اختلاط أو شك، ويُراد حلها، فالتفكير ليس مجرد عملية احتراق تلقائي: إنه لا يوجد إلا حيث تكون هناك حاجة ومناسبة تدعو إليه.
ب ـ الحاجة إلى حل مشكلة هي العامل المرشد دائماً في عملية التفكير، وما يساعدنا على التفكير ليس هو الهدوء والسكون، بل التحرك نحو هدف، وتركيز العقل على موضوع يشبه التحكم في السفينة كي تتخذ طريقاً معيناً، وهذا يقتضي تغييراً مستمراً للوضع مع وحدة التوجيه.
ج ـ الوظيفة الأولى للتفكير هي حل المشكلة التي نواجهها، وإيضاح الغموض والاختلاف، والإجابة عن السؤال الماثل في ذهننا، ونحن نتوقف عن التفكير إذا ما حلت هذه المشكلة. ولن نفكر بعد أو نستأنف التفكير إلا إذا عرضت مشكلة جديدة، أو ظهر موقف محير جديد.
إن الرجل المتوحش قد يكون قادراً على تكوين صورة عن الأعمدة والأسلاك، ولكن إذا لم يعرف شيئا عن التلغراف أو الهاتف، فلن تكون لديه فكرة صحيحة، والفكرة إذا تلعثمت في معالجة موقف أو مشكلة، توصف بأنها فَرَضْ، إنها تتردد بين (إذا) و(ربما). إنها مجرد اقتراح أو حزر  لكنها تتحول إلى (حقيقة واقعية )إذا توقفت عن التردد والأرجحة وصارت فعالة.
 
نسبية المعرفة وسيلان الحقيقة عند جون ديوي:
الأفكار -عنده- تدور مع المشاكل والمواقف والظروف الاجتماعية، ولهذا فإن "معايير المعقولية تتوقف على الأحوال الاجتماعية للعصر الذي تقال فيه الأفكار، إذ هي تمثل أنجح التجارب في التفكير إبان عصر أو فترة، ولقد تطورت الأفكار وتغيرت لأنها عملت وفعلت، وسلطانها هو في قابليتها على أن تكون أدوات تساعد على حل المشاكل الطارئة، في ذلك العصر، وربما لو تغيرت الظروف والمواقف لصارت عديمة الجدوى أو قليلة الفاعلية يتوجب تجاوزها.
صحيح أن بعض الماضي لا يزال حياً، لكن ما لا يزال حياً من الماضي هو فقط ما يقبل التطبيق اليوم، وصلاح أمور في الماضي لا يبرر صلاحها في الوقت الحاضر.
ومن حقنا وحدنا نحن أبناء اليوم أن نحكم على صلاحها بالنسبة إلينا، ويجب علينا ألا نتردد في نبذ كل ما نراه غير صالح لنا اليوم مما ورثناه عن الماضي([11])"، هذا هو جوهر الفلسفة البرجماتية، ولهذا –يقول ديوي- "ينبغي علينا أن نعمل على تجديد النظريات والمعتقدات وجعلها متلائمة مع مطالب العصر، لتجديدها وصقلها وتنظيفها باستمرار لتصير نافعة وإلا كانت ويلاً على أصحابها".
في كتابه (الطبيعة الإنسانية والسلوك 1922) "ينقد ديوي أخلاق الماضي لأنها تقوم في مجموعها على التحريم والتقييد، لهذا لم يؤمن بها إلا القليلون، والغالبية لم تطبقها أو اكتفت بالإشادة بها دون تنفيذها، يقول: إن الحياة الأخلاقية تجري في عالم هو طبيعة ومجتمع معاً. والطبيعة الإنسانية متصلة بسائر الطبيعة، ونتيجة لهذا، فإن علم الأخلاق وثيق الصلة بالعلوم الاجتماعية والطبيعية والاقتصاد، أما العادات السيئة هي ميول للفعل تسيطر علينا، ولكننا في الغالب اكتسبناها دون وعي وقصدٍ واع، ولما كانت تأمر فهي إرادة، وصاحبها سيفعل ما يريد، ومن يكتسب عادة سيئة ليس هو الشخص الذي يُخْفِق في عمل الشيء الصالح فقط، بل هو شخص تكونت لديه عادة فعل الأمور السيئة"([12]).
الفلسفة الأداتية:
إن ما يميز ديوي –كما يقول ديورانت- "هو قبوله لنظرية التطور قبولاً تاماً سافراً لا غموض فيه ولا تستر، والعقل والجسم في رأيه عضوان تطورا في التنازع على البقاء إلى شكلهما الحالي من أشكال أحَطْ مرتبة، لقد كانت بدايته لكل موضوع بداية تطورية دارونية، فقد كان ديوي صريحاً في اتجاهه الطبيعي، واستنكر طريقة التفكير في هذا العالم بأسره بشكل واسع، واعتبر هذا الطراز من التفكير اعترافاً منا بعجزنا على السيطرة على مجرى الأشياء التي تهمنا بشكل خاص، وأظهر شكه وعدم ثقته بارادة شوبنهور والدافع الحيوي الذي تحدت عنه برجسون، وقال إنها قد تكون موجودة، ولكن لا حاجة بنا إلى عبادتها وتقديسها، والإله موجود في نفوسنا وليس في هذه القوى الكونية المحايدة، ويجب أن نُخْلِص لهذه الأرض التي نعيش عليها"([13]).
لقد رفض ديوي الميتافيزيقا واعتبرها صدى لعلم اللاهوت المختفي وراءها، وهو في هذا يحذو حذو بيكون وهوبز وسبنسر ومل، ويعتقد أن مشكلة الفلسفة دائماً اختلاط أبحاثها بالأبحاث الدينية، وهو يقول "عندما كنت اقرأ أفلاطون بدأت الفلسفة تسير سيراً ضرورياً على أساس سياسي يستهدف تنظيم مجتمع عادل، ولكنها سرعان ما ضلت في أحلام العالم الآخر كما أدى اهتمام الفلسفة الالمانية بالمسائل الدينية إلى انحراف مجرى تطور الفلسفة، أما الفلسفة الإنجليزية فقد رجحت المصالح الاجتماعية على أبحاث ما فوق الطبيعة.
لقد "دارت رحى الحرب طيلة قرنين بين المذهب المثالي الذي يمثل الدين والارستقراطية الإقطاعية وبين المذهب الحسي الذي يعبر عن الإيمان بالحرية في الديمقراطية التقدمية، ولا زالت هذه الحرب دائرة ولم تنته بعد، وهذا يعني أننا لم نخرج تماماً من العصور الوسطى، ولن يبدأ العصر الحديث إلا إذا تبنى وجهة النظر الطبيعية في كل ميدان، إن هذا لا يعني الهبوط بالعقل إلى المادة، ولكنه يعني أن لا نفهم الحياة والعقل بالطريقة اللاهوتية الدينية، ولكن بالطريقة البيولوجية، كعضو أو كائن حي في بيئة تؤثر عليه ويقاومها، يجب ألا ندرس حالات الإدراك بل ندرس طرائق التلبية"([14]).
العلم والسياسة:
إن النمو أو التطور في نظر ديوي أعظم الأشياء وأفضلها وأجدرها بالاحترام والتبجيل، وقد جعل من النمو والتطور مقياسه الاخلاقي، فالنمو في نظره هو المقياس الاخلاقي وليس الخير المطلق، والكمال ليس هدفاً نهائياً، والهدف في الحياة هو عملية مستمرة نحو الكمال والنضوج والتصفية والتنقية.
فالانسان السيء مهما كان طيباً وخيراً في الماضي هو الإنسان الذي بدأ في الانحطاط والفساد وقل نمو فضله، والانسان الفاضل أو الطيب مهما كانت اخلاقه ضعيفة من قبل يتجه في طريقه لتحسين نفسه، "إن مثل هذه النظرية تجعل الإنسان شديداً في الحكم على نفسه وانسانياً في الحكم على الآخرين، ولكي تكون فاضلاً لا يعني أن تكون طَيِّعاً وأنيساً، إذ الفضل بغير مقدرة فضل أعرج، ولن تنفعنا فضائل العالم كلها اذا كان ينقصنا الذكاء والعقل. وليس الجهل نعمة وسعادة بل فقداناً للشعور واستعباداً ورقاً، فالعقل وحده هو الذي يمكننا من الاشتراك في تكوين مصيرنا، وحرية الإرادة هي استضاءة السلوك بالمعرفة، فالطبيب أو المهندس يكون حراً في أفكاره أو أعماله بمقدار معرفته بعلمه وعمله، قد نجد هنا المفتاح لكل حرية، ينبغي أن نضع ثقتنا في الفكر لا في الغريزة، إذ كيف يمكن للغريزة التوفيق بيننا وبين البيئة المصطنعة التي أوجدتها الصناعة حولنا، والمشاكل المعقدة التي تُربِكنا وتُحيِّرنا.
لقد قَبِلَ ديوي الديمقراطية مخالفاً بذلك معظم الفلاسفة على الرغم من معرفته لأخطائها، إذ أن هدف النظام السياسي ان يساعد الفرد على التطور والنهوض بنفسه تطوراً تاماً، ولن نصل إلى هذا إلا إذا اشترك كل فرد على قدر وسعه في تقرير سياسة جماعته ومصيرها، والارستقراطية والملكية أكثر مقدرة وكفاءة من الديمقراطية، ولكنها في الوقت ذاته اكثر خطورة منها.
إن "ديوي لا يثق بالدولة ويُفَضِّل نظاماً متعدداً، يقوم فيه بعمل المجتمع بقدر المستطاع جمعيات طوعية اختيارية، ويرى أن في تعدد المنظمات والأحزاب والشركات والنقابات وغيرها توفيقاً بين الفردية والعمل العام المشترك، ويجب أن نقابل كل مشكلة من مشاكلنا عن طريق الافتراضات الخاصة لا النظريات العامة الشاملة"([15]).
كما أن تقدم الحياة المثمر "ينبغي أن يعتمد على التجربة والخطا، لان الوسائل التجريبية تعتمد على الابحاث والتحليلات المفصلة بدلاً من النظريات العامة، وتعتمد عل التحقيقات الخاصة لا على الاعتقادات العاطفية، على الحقائق الجزئية لا على الآراء التي يتناسب حجمها مع غموضها، لقد انشغلت العلوم الطبيعية في الماضي بمثل هذه الآراء العامة التي كان تأثيرها العاطفي يتناقض مع وضوحها العقلي، ولكن بفضل تقدم الوسائل التجريبية أصبحت الطريقة إجراء التجربة على الموضوع وبحثه قطعة فقطعة للوصول إلى حل غموضه، ويجب على الفلسفة كأي شيء آخر أن تتناول في بحثها الامور الدنيوية وتبقى على هذه الأرض وتفوز ببقائها باضاءة الحياة وإنارتها، إن ما يريد أن يعرفه أصحاب العقول الراجحة الجدية الذي لا يعملون في الحقل الفلسفي هي ماهية التعديلات التي يمكن ادخالها على التراث الفكري والتي تحتاجها الحركات الصناعية والسياسية والعلمية"([16]).
أخيراً، يزعم جون ديوي أن مهمة الفلسفة البرجماتيه، هي توضيح آراء الناس (في النظام الرأسمالي بالطبع) بالنسبة إلى الكفاح الإجتماعي والاخلاقي في الوقت الذي يعيشون فيه، وأن تكون مهمتها إنسانية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وأداة لتناول هذه المنازعات والمشاكل، وحلها في إطار النظام الرأسمالي، فالفلسفة هي التوفيق بين العوامل المتصارعة في الحياة بعيداً عن الصراع الطبقي!!، إن مثل هذه الفلسفة –كما يزعم جون ديوي- "قد تنجب للعالم اخيراً فلاسفة جديرين بالحكم".
قالوا عنه([17]):
-     "من المسلم به إجمالاً أن جون ديوي هو الفيلسوف الحي القائد للفلسفة في أميركا. وأنا أتفق في الرأي تماماً مع هذا التقدير. فإن له نفوذاً عميقاً، ليس فقط بين الفلاسفة، وإنما أيضاً بين طلاب التربية والجمال والنظرية السياسية. وهو رجل على أسمى خلق، تحرري في نظرته، كريم وعطوف في علاقاته الشخصية، لا يتعب في العمل. وكم أتوق إلى أن أوافقه موافقة تامة على آرائه، ولكني مضطر مع الأسف أن أختلف معه في أكثر نظرياته الفلسفية تمييزاً، أعني الاستعاضة بـ"التحقيق" عن "الحقيقة" كتصور أساسي للمنطق ولنظرية المعرفة". (برتراند راسل)
 
 


([1])سامى خشبة – مفكرون من عصرنا – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة - 2008 – ص 406
([2]) جون لويس – ترجمة: انور عبد الملك - مدخل إلى الفلسفة –  دار الحقيقة – بيروت -  الطبعة الثانية – 1973 - ص 227
([3])  جورج طرابيشي – معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط1 – أيار (مايو) 1987.– ص 312-313
([4]) ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م-  ص625
([5]) روبرت هوروتز – مقال بعنوان: جون ديوي -  تاريخ الفلسفة السياسية (مجموعة مؤلفين)- ترجمة: محمود سيد أحمد – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – الجزء الثاني – 2005 – ص552
([6]) المرجع نفسه– ص 553
([7])موجز تاريخ الفلسفة – جماعة من الأساتذة السوفيات – تعريب: توفيق ابراهيم سلوم – دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص 959
([8]) المرجع نفسه - ص 690
([9]) المرجع نفسه - ص 962
([10]) موسوعة الفلسفة: الجزء الأول -الدكتور عبد الرحمن بدوي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر -  الطبعة الأولى 1984 - صفحة 499 وما بعدها.
([11]) المرجع نفسه - صفحة 499 وما بعدها.
([12]) المرجع نفسه - صفحة 499 وما بعدها.
([13])ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص627
([14])المرجع نفسه - ص628
([15])المرجع نفسه - ص629 / 630
([16])المرجع نفسه - ص630
([17]) جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره – معجم الفلاسفة – ص 312-313



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن