مقاربة الاتجاه البلشفي لبناء الدولة القومية (4)

عبدالله تركماني
abdtourkmani@yahoo.it

2021 / 1 / 25

قبل الانتقال إلى التعرّف على كيفية تكوّن وتطور الاتحاد السوفياتي واقعياً، ينبغي أن نتوقف عند التطور الذي سجله الفكر اللينيني بصدد مبدأ " الاتحادية القومية " (28). فقد كان لينين نصيراً متحمّساً لمبدأ المركزية، وخصماً لدوداً لمبدأ الاتحادية. وكان يردّد " إنّ البروليتاريا لا تستطيع أن تستخدم سوى شكل الجمهورية الواحدة غير القابلة للانقسام ". وكان قد أكد، منذ عام 1903، أنّ مطلب الاشتراكيين – الديمقراطيين يجب أن يكون الجمهورية الديمقراطية لا الجمهورية الاتحادية، لأنّ المبدأ الاتحادي، حسب تعبيره، ضارٌّ وبمثابة تكريس للخصوصية القومية.
بل أنّ حق الأمم في تقرير مصيرها كان هو نفسه " استثناء للمركزية "، تمليه وتفرضه الشوفينية الروسية – الكبيرة الرجعية. ولهذا عارض، حتى قيام الثورة الروسية في سنة 1917، كل دعوة اتحادية، لا على صعيد تنظيم الحزب البلشفي فحسب، بل أيضاً على صعيد تنظيم الدولة، وافترض أنّ المركزية الديمقراطية توفّر خير الشروط للتطور الرأسمالي قبل الثورة، والتطور الاشتراكي بعد الثورة.
بيد أنّ الظروف التي استجدّت، بعد ثورة أكتوبر، جعلت لينين يعدل عن عدائه لمبدأ الاتحادية. ولعلَّ السبب الرئيسي في ذلك أنّ السياسة الشوفينية، سياسة الأمة الروسية الكبيرة التي انتهجتها الحكومة المؤقتة، بين فبراير/شباط و أكتوبر/تشرين الأول 1917، دفعت ببعض القوميات، التي ارتضت البقاء ضمن نطاق الدولة الواحدة، إلى المطالبة بضمانات لحقوقها. ومن المفيد، بصدد التعرّف على أسباب تبدّل مواقف لينين، الإحاطة بنموذج من الكتابات " التلفيقية " التي سادت مرحلة الركود البريجنيفية (29). إذ ذكر كوليتشينكو: إنّ مواقف لينين والحزب، في هذه المسألة، اجتازت طريقاً معقداً لتطورها، من إنكار الفيدرالية في مرحلة الثورة البورجوازية الديمقراطية، ومن خلال الاعتراف بإمكانية إقامتها في ربيع وصيف عام 1917، حتى اتخاذ القرار، في الأشهر الأولى من الثورة، في إقامة دولة على أساس الفيدرالية الاشتراكية (30).
وهكذا، حسب النموذج السابق، فإنّ أسباب إعادة نظر لينين في مواقفه من الفيدرالية هي: أولاً، أنه عاين بدقة، عشية ثورة أكتوبر، النزعة نحو تعزيز دور المحتوى الاشتراكي في حركة التحرر الوطني. وثانياً، لقد ناضل كادحو أطراف روسيا القومية من أجل تحررهم الاجتماعي، وهم يتحالفون مع الطبقة العاملة الروسية وكافة شغيلة الأمة الروسية. وثالثاً، لقد عبّرت الجمهوريات السوفياتية الأولى، التي تشكلت في أطراف روسيا، عن إرادتها الحازمة بالحفاظ على وحدتها مع جمهورية روسيا السوفياتية. ورابعاً، لقد أصبح من الممكن، في ظروف نشوء النظام الاشتراكي، الوصول إلى أن لا تتعارض الفيدرالية والحكم الذاتي القائمان على المبادئ الاشتراكية السوفياتية، مع المركزية الديمقراطية في حياة المجتمع الاقتصادية والسياسية. وخامساً، بدت الفيدرالية الاشتراكية وسيلة من أكثر الوسائل ملاءمة للحفاظ على وحدة الكادحين في المركز والأطراف، في ظروف كانت القوى القومية المتعصبة البورجوازية المعادية للثورة، بتحالفها مع الإمبريالية الأجنبية، تحاول أن تفصل هذه الأطراف عن روسيا السوفياتية، لتحافظ هناك على سلطة الرأسماليين والملاكين العقاريين.
وفي الواقع، إنّ تبدّل موقف لينين قد بدأ منذ وضع كتابه " الدولة والثورة "، حيث نظر إلى الدولة كأداة للهيمنة الطبقية، ورأى ضرورة تحطيمها واستبدالها. ويبدو أنّ موقف بليخانوف، الذي رأى في سنة 1917 أنّ روسيا مقبلة على ثورة سياسية ديمقراطية بورجوازية، لا بروليتارية، كان محقاً. فروسيا كانت متخلفة، واقتصادها فلاحي مجزأ، وصناعتها بدائية، وطبقتها العاملة ضئيلة العدد. وبالتالي، فإنّ بلداً بهذه المواصفات كان لا يمكن أن يعطي سوى دولة أوتوقراطية استبدادية، حتى لو ارتدت رداء بلشفياً.
كما أنّ الطابع العملي لنشاطات لينين في العام 1917، قد أملت عليه سرعة المعالجة، وطابعها المختزل، لكن ينبغي أن نضيف شرطاً آخر هاماً هو تخلّف روسيا " إنّ جردة تطور المؤسسات الحديثة مثل أجهزة القضاء، النقابات، اتحادات المصارف، البرلمان، الدستور، الصحافة، فصل السلطات، وغير ذلك من معالم الحيـــاة في الدولة الرأسمالية الحديثة، كان غائباً نسبياً " (31).
إنّ حاجات التطور العملي لم تكن تتفق مع المبادئ النظرية التي طرحها لينين حول المسألة القومية، خاصة منها حق الأمم في تقرير مصيرها، وبناء الدولة الحديثة. كما أنّ تلهف لينين إلى الثورة البروليتارية في الغرب، قد جعلته في الفترة ما بين 1918-1923 يعطي قيمة كبيرة لألمانيا، التي امتُهنت قومياً في معاهدة فرساي، بحيث بدا مهتماً بالمسألة القومية ليس في الشرق فقط، بل في أوروبا أيضاً.
لقد جاء تشكيل الأممية الثالثة " الكومنترن "، التي عقدت مؤتمرها التأسيسي الأول يوم 2مارس/آذار1919، ليوضح أكثر فاكثر تطور الموقف البلشفي من المسألة القومية. ففي المؤتمر الثاني للأممية، الذي انعقد في صيف عام 1920، قدم لينين موضوعات حول المسألة القومية ومسألة المستعمرات، ومما جاء فيها " إنّ أساس كامل سياسة الأممية الشيوعية حول المسألة القومية ومسألة المستعمرات ينبغي أن يتجه إلى إيجاد تقارب بين البروليتاريين والجماهير الكادحة في جميع الأمم والبلدان، لأجل النضال الثوري المشترك ... ولأنّ هذا التقارب هو الأمر الوحيد الذي يضمن الانتصار على الرأسمالية، وبدون هذا الانتصار يستحيل القضاء على الظلم القومي وعدم المساواة القومية ".
وفي موضوعة أخرى، جرى التأكيد على " أنّ الاتحاد الفيدرالي هو شكل الانتقال إلى الوحدة الكاملة بين شغيلة الأمم المختلفة ". وفي الموضوعة الثانية عشرة ورد " أنّ ظلم الدول الإمبريالية للشعوب المستعمَرة والمستضعَفة ترك في نفوس الجماهير الكادحة لا النقمة فحسب، بل الحذر وعدم الثقة حيال الأمم الظالمة بوجه عام بما في ذلك بروليتاريا هذه الأمم. إنّ الخيانة السافلة التي اقترفتها حيال الاشتراكية أكثرية الزعماء الرسميين لهذه البروليتاريا في سنوات 1914-1918، عندما جعلت من " الدفاع عن الوطن " ستاراً اشتراكياً شوفينياً للدفاع عن " حق " بورجوازيتـ"ها" في ظلم المستعمرات ونهب البلدان التابعة مالياً – هذه الخديعة كان لا بدَّ لها من أن تشدد هذه الريبة المشروعة تماماً "(32).
كما ناظر لينين الشيوعي الهندي مانا بندرا نات روي، الذي كانت أفكاره تمثّل الشكل الآسيوي الشرقي لأفكار الماركسية اليسارية " الاقتصادية الإمبريالية "، فقد مَحْوَرَ روي الثورة العالمية على قارة آسيا، على الشرق، ورفض أي نوع من التحالفات مع البورجوازية الوطنية في بلدان الشرق. كما كان موقف روي أقرب إلى مواقف العدمية القومية، حيث اعتبر أنّ الحركة القومية " ليست شعبية ".
لقد شهد اجتماع اللجنة المختصة بالمسألة القومية ومسألة الاستعمار، في المؤتمر الثاني للأممية الثالثة " الكومنترن "، مواجهة مباشرة بين لينين وروي. وممــا قاله روي " إنّ الجماهير الشعبية الهندية ليست مشبعة بالروح القومية. فهي تهتم بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية حصراً ". وتابع قائلاً "..إنّ الحركة الثورية في الهند، بقدر ما هي حركة الجماهير الشعبية الواسعة، إلاّ أنه ليس من شيء مشترك بينها وبين حركة التحرر القومي (حزب المؤتمر الهندي) ". وكانت الخلافات بينهما حادة، بوجه خاص، حول الموقف من غاندي، فقد رأى لينين أنّ غاندي، باعتباره قائد الحركة القومية الهندية المعادية للاستعمار، يلعب موضوعياً دوراً ثورياً.
ودافع روي عن الفكرة القائلة أنّ مصير الحركة الثورية في أوروبا يتوقف كلياً على سير تطور الثورة في الشرق " إنّ الرأسمالية الدولية تستجرُّ مواردها ومداخيلها الرئيسية من المستعمرات، وخاصة من المستعمرات الآسيوية. ويمكن للرأسماليين الأوروبيين، إذا لزم الأمر في النهاية، أن يعطوا العمال فائض القيمة برمته، فيجرّونهم في النتيجة إلى جانبهم ويقتلون تطلعاتهم الثورية. ويمكن لهؤلاء الرأسماليين بالذات أن يستمروا باستغلال آسيا بدعم من البروليتاريا وبمساعدتها، وأنّ مساراً كهذا بالغ النفع بالنسبة للرأسماليين ".
وقام لينين بدحض أفكار روي، وركز دحضه خاصة في نقطتين " على الشيوعيين الهنود دعم الحركة البورجوازية الديمقراطية دون أن يذوبوا فيها ". وأنّ روي " يغالي عندما يؤكد أنّ مصير الغرب يتوقف حصراً على درجة نمو الحركة الثورية في البلدان الشرقية وقواها " (33).
وهكذا، فإنّ الفرضيات الأساسية التي طرحها روي يمكن تحديدها كما يلي:
(أ)- الرأسمالية الأوروبية تستمد قوتها، في المقام الأول، ليس من الدول الصناعية الأوروبية، بقدر ما تستمدها من ممتلكاتها في المستعمرات.
(ب)- لن تنجح طبقة العمال الأوروبيين في الإطاحة بالرأسمالية الأوروبية حتى يتم استئصال عائدات المستعمرات.
(ج)- إنّ الاستعمار قد أعاق التطور الاقتصادي والاجتماعي للدول المستعمَرة التابعة، وحرمها من الوصول إلى مستوى أوروبا وأمريكا.
(د)- إنّ الحركة القومية في البلدان المستعمَرة ليست شعبية بما فيه الكفاية، مما جعله يرفض التحالف مع البورجوازية الوطنية.
وفي مقالته الأخيرة، قبل وفاته، التي وردت تحت عنوان " من الأفضل أقل، شرط أن يكون أحسن "، والذي أملاها في شهر فبراير/شباط1923، حيث كانت الثورات في الغرب قد تحطمت، والنظام الرأسمالي كان يبدو أنه قد وطّد مواقعه في أوروبا لمرحلة لا يمكن تقدير مداها، استخلص لينين أنّ مصير الثورة الروسية إنما يتوقف على التطور الثوري في الشرق " إنّ الشرق قد دخل نهائياً، من جراء هذه الحرب الإمبريالية الأولى، في الحركة الثورية العالمية ". وإنّ مستقبل الثورة العالمية " يتوقف – في النهاية – على كون روسيا والهند والصين، الخ، تشكل الأغلبية الكبيرة من سكان الكرة الأرضية. وهذه الأغلبية بعينها قد انخرطت وانجرفت بسرعة لا تصدق في النضال لأجل تحررها ".
وختم مقالته بالقول: إنّ الانتصار النهائي للاشتراكية هو أمر مؤكد ومضمون " بصورة مطلقة "، ولكن " إنّ ما نُعنى به هو التكتيك الذي ينبغي لنا اتباعه...لكي نمنع الدول الغربية المعادية للثورة من سحقنا. فلكي نتمكن من البقاء حتى النزاع العسكري المقبل بين الغرب الإمبريالي المعادي للثورة وبين الشرق الثوري والقومي، بين الدول الأرفع حضارة في العالم وبين البلدان المتأخرة، كالبلدان الشرقية التي تشكل مع ذلك الأغلبية – لكي نتمكن من البقاء ينبغي لهذه الأغلبية أن تتمدن وتتحضر. نحن أيضاً نفتقر إلى مدنية وحضارة تؤهلنا للانتقال مباشرة إلى الاشتراكية، مع أننا نملك مقدماتها السياسية " (34).
الهوامش
28 - طرابيشي، جورج: الماركسية...، المرجع السابق، ص 302.
29- كوليتشينكو: الأمم والتقدم الاجتماعي، موسكو - دار التقدم - 1984، ص 178.
30 - في صيف العام 1917، أصدر لينين كتيبه المشهور" الدولة والثورة "، وثمة نقطتان رئيسيتان، فيما يتعلق بموضوع الدولة الاتحادية، أبرزهما: الأولى، أنّ مبدأ الاتحادية " ينبع من تصورات الفوضوية البورجوازية الصغيرة ". والثانية، أنه لا يجوز الخلط بين " المركزية البروليتارية الديمقراطية الواعية "، وبين " المركزية البورجوازية العسكرية البيروقراطية ". وخلص إلى القول " إنّ الجمهورية المركزية الديمقراطية حقاً توفر من الحرية أكثر مما توفره الجمهورية الاتحادية ".
31 - د. عبد الجبار، فالح: (ماركس والدولة...)، المرجع السابق، ص 434-435.
32- لينين، فلاديميير إيليتش: المؤلفات الكاملة، المجلد (41)، ص ص 163-168.
33 - نقلاً عن: شرام، ستيوارت ودنكوس، هيلين كارير الماركسية-اللينينية...، المرجع السابق، ص ص 178-180.
34 - لينين، فلاديميير إيليتش: المؤلفات الكاملة، المجلد (40)، ص ص 402-404.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن