الهاجس السردي وجمالية اللغة في (أحزان صائغ الطين) -للشاعر جبار الكواز

طالب عمران المعموري
algreebali@yahoo.com

2020 / 12 / 30

عنوان خارجي يتربع فوق صفحة الغلاف الأمامي للكتاب ، بتسمية بارزة خطاً وكتابةً وتلويناً ودلالة حرفية قائمة على التضمين و الإيحاء وهو من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، 2018 . وغالبا ما يكون هذا العنوان مجاورا لعتبة المؤلف، على غلاف الكتاب عنوان آيقوني بصري في شكل صورة مشهدية سيميائية قائمة على الترميز والتدليل لأيدي تصنع بحرفية كوزا أو جرّة من طين . وبهذا يؤدي العنوان الخارجي إلى جانب العنوان البصري دلالات سيميائية ، والإقبال عليه قراءة وإنتاجاً ، والوظيفة الدلالية التي تتمثل في أن العنوان يلخص مضمون نصوص المجموعة
ويوجد تحت العنوان الغلاف الخارجي مفردة (نصوص) ما يسمى بالعنوان التعييني أو التجنيسي، والذي يحدد جنس العمل الأدبي.
تحتوي المجموعة على ثلاثة وثلاثين نصاً تفاوتت العنونة الداخلية للنصوص بين الرمزية والواقعية استهل مجموعته ب(أحزان صائغ الذهب) وانتهى بقصيدة (هي) احزانه الممتدة تناولها بسرد نثري، فهو من المهتمين بقصيدة النثر حيث يقول الشاعر(قصيدة النثر ثورة رؤيوية فنية قائمة على فهم الوجود والإبداع وفقا" لمبدأ الإبتكار الحداثوي والتجاوز في فنون القول الشعري).
لم يكن حزن الشاعر شخصيا فحسب وإنما لجميع الانسانية, وأن هموم الشاعر متأثرة بالهم الاجتماعي واحساسه بما موجود كحالة انعكاسية(سيكولوجية النص) لما يعانيه ويعيشه هو والمجتمع الذي ينتمي اليه ولّدت لديه تلك الارهاصات الشعرية التي اضفت صبغتها على النص.
حيث ولد الشاعر في أسرة تعيش الأدب تراثا وتزهو به وعلامة فارقة في مدينة بابل الأثرية (الحلة) والعراق، فقد عاش الأدب منذ طفولته وهو يرافق جده الشاعر الشعبي، وأبيه وإخوته الكبار إلى المجالس الأدبية الاجتماعية والمحافل الأدبية والدينية التي تقام في المناسبات الدينية. وكان يستمع وهو طفل صغير إلى عيون الشعر العربي والعراقي بخاصة، وهو يتلى من قبل الخطباء والمنشدين، مما أولد لديه ميلاً كبيرا للدخول إلى هذا العالم المتخم بالإدهاش والأسرار والفخار. كان له الأثر الكبير في غرس البدايات الشعرية . يقول الشاعر( الشعر قرين حياتي وبه ولأجله ضحيت بالكثير، حين آمنت وأنا شاب أنه قدري في هذه الحياة فأنا أعيش الشعر في كل تصرفاتي اليومية، سواء كنت يقظا أو نائما، أسير وأنا افتح عيني على عالم يحيطني وأحاول أن أسائله واكتشفه، وأسعى لبنائه كواقع ثان مواز للواقع الأول) .
خصائص الاسلوب الشعري، والقيم الجمالية في شعر الكواز التي تجلت وأنعكست في نصوصه خصوصية اللغة على مستوى (اللغة الشعرية، الصور، الجمال، الموضوع)
استخدام تقنية (علامات الترقيم) لتكون دالات ارشادية لمعرفة ترتيب وتسلسل الفكرة والتي تستخدم لتنظيم الكلام والجمل والكتابة, فهي رموز تضاف الى اللغة العربية بغرض تنظيمها والسهولة في فهمها حيث تكون علامات الترقيم عبارة عن الواصل والوقف والفصل والتعجب والاستفهام والاقواس والشرط وعلامات التنصيص ,فهي تحدد نبرة الكلام عند قراءة الجمل وايضا لها دور في الكلام المسموع فهي لغة بحد ذاتها, واظهار معني الكلام وفن العرض فهي ليس بحروف او ارقام منطقية .استخدم الشاعر الخط المائل بشكل ملفت في الفصل بين الجمل الشعرية وكأنه يقطعها عروضيا، فالخط المائل: ويسمى الخط الفكري (/) , وهو من علامات الترقيم ويكون مائل ناحية اليمين, حيث يفصل بين العناصر او الاختيارات المتعددة او التواريخ والتقويم والفصول والشهر والتواريخ الميلادية .
من أساليب الشاعر الاسلوب الانشائي من (النداء ،الاستفهام، التعجب ) وهي من الاساليب الذي يدخل ضمن دائرة علم المعاني وبهذه الاساليب تتنامى حركية النص وتنشط دلالته .
نرى ذلك جليا من خلال فلسفة النص التي يتبناها الشاعر وطرح قضية تصورية نابعة من ذاته الشعرية ورؤيته الفلسفية الأسئلة التي يطلقها بقوة معرفية ويعيد صناعة المعنى والدلالة ومن تساؤلاته في نصوصه ص12:
فمن يدخل فردوسي بلا خوف؟
ومن يلم شظايا مراياتي؟
ومن يحصي
(طيور ذهب/ طواويس فضة /يمام عاج ايائل ابنوس/ فراشات لؤلؤ/صبايا عاريات من زبرجد/ مباخر مرجان/ قلائد يسر/ وياقوت وكهرمان)؟
وفي نص آخر ص 19 :
هل رأى الموت غيره في الطريق؟
واستحى من زحام البشر؟!
ونصوص أخرى ص21 :
فمن دجّن ألوانه بالكذب؟!
وحطّه بين السماء والريح؟!
وفي هذه الاساليب أسر ذهن المتلقي وشد انتباهه لما يحمله الاستفهام من ترقب وحيرة ففي نصه القصير الرائع الذي يحمل العنونة (اذا قال الرب)
سلاما ادخلها بأمان
أي الابواب هي الآن؟
كيف دخولي منها؟
والافق بقايا ريح في كأس
والكأس سراج
ومتاع ذئاب في جب الاحزان
يقول د. محمد صبار عبيد (ان فلسفة التناص تتمظهر بالقدرة على ادراك قيمة الاخذ والاستعارة والاستدعاء والتضمين) التوظيف والاقتباس ليس وظيفة ديكورية بقدر ماهي وظيفة فاعلة مشاركة في انتاج دلالي ذات معاني تثري النص.
يرسم لنا الشاعر بلغة ابداعية نابعة من هواجس نفسية ترسم لنا صورة او صور متعددة أمام المتلقي صورة لغوية تجديدية تعطي للقصيدة دلالاتها بعيدا عن السطحية المملة.
ففي قصيدته (الجمل على التل) الى/ الطغرائي شاعرا ، المتوفي 1126م بما تميز ا شعره بالجودة والرقة والابداع في كثير من جوانبه وما يسمى (شهيد العقيدة) .
صاحب البيت الشهير على الالسن :
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ربما شاعرنا الكواز قد تأثر بشعره لما يمتاز هذا الشاعر بمكانه رفيعة ومكانه سامية بين معاصريه بما لديه من الفصاحة والبلاغة وكانت قصائده تسير بها الركبان وتتناقلها الرواة.
قصيدة (الجمل على التل) قصيدة النثر السردية التي تتضمن اسلوب الاستفهام :
فكيف أعيذك بالورق الاصفر؟
وأغرس خلفك ماء السواس؟
وأحاور فردوسَك بجناح الباب؟
أنت رام / وأنا رميم
ولقوسك أنةٌ حزن في جب
أكان الزاما أن أخلطك الآن
بترابي
وفي نفس القصيدة نصه الجميل ص35 يقول:
فمن علّم الجمل النوم على التل؟
وهو الذي لم تقصم ظهره قشة أحلام
ومن علمه النوم في الأسئلة؟
وهو المفرد في غابة الحروف
اللغة مادته التي يصوغ بها منتجه الإبداعي .. فلابد لهذه اللغة أن تكون قادرة على احتواء فلسفة الشاعر فهي لصيقة بالشاعر ومعبرة عن هوية كتابته.
المجموعة زاخرة في المعاني والمجاز بما تفيض تجربته الشعرية على كم معرفي هائل (موسوعة معرفية) يعيد انتاجه شعريا يحمل أرثاً عريقاً يمزج الماضي الثقافي مع الحاضر مكثفاً موظفاً الرمز الذي يعد الرمز من الوسائل الفنية المهمة في الشعر يعمد الشاعر فيه الى الايحاء والتلميح بدلا من اللجوء الى المباشرة ، فالشعراء يعبرون عن افكارهم ومشاعرهم في مواقف معينة . رموزا تأريخيه، وفنية، ودينية ، مثيولوجية، مدن، أمكنة، صحاري ، أحجار كريمة، حيوانات ، طيور شخصيات / كلكامش / اوروك/ أنكيدو/ سنمار سنمار مهندس بيزنطي ينسب له بناء قصر الخورنق الشهير. يضرب به المثل "جزاء سنمار" حيث انه عند انتهائه من بناء القصر قال لصاحب القصر الذي هو الملك النعمان ان هناك آجرة لو زالت لسقط القصر كله، وأنه لا يعلم مكانها غيره، وأنه يستطيع بناء قصر أفضل من الخورنق، فما كان من صاحب القصر إلا أن ألقاه من أعلى القصر، كي لا يخبر أحدا عن تلك الآجرة ويعتقد ان هذا السبب في ضرب المثل / بروكرست شخصية من المثيلوجيا اليونانية، حيث كان حداداً وقاطع طريق من أتيكا، كان يهاجم الناس ويقوم بمط اجسداهم أو قطع ارجلهم لتتانسب اطوال اجسامهم مع سريره حديدي. يطلق لفظ البروكرستية اي نزعة إلى "فرض قوالب" على الاشياء (الاشخاص أو الافكار..) أو لي الحقائق أو تشويه المعطيات لكي تتناسب قسراً مع مخطط ذهني مسبق.
/ زرياب / الحجاج / بلقيس/ديدبا / الحجاج/ كسرى/ بما تحمله من تأمل وصور مفعمة بالرؤى والدهشة وبلغة انزياحيه والمفارقة اللفظية تحمل عمقا دلاليا نراه جليا من خلال عنونة نصوصه:
احزان قوس قزح / اسمي المتدارك/ الغابات العرجاء/المزامير هاجرت في الفراغ /ثمة من يفترش الفضاء/قفص مردوخ / نكاية بعين ميم / في مروج التراب
أما على مستوى النصوص ففيها من الجمال والصور الشعرية مليئة بالإنزياحات اللغوية ومن استعارة ومجاز واضداد وأنسنه للأشياء والامكنة ومفارقات لفظية تبهر المتلقي، فعلا سبيل المثال لا الحصر فأن ذلك يتطلب دراسات عميقة ومهما تعددت القراءات فأنه قطرة في بحر زاخر لشاعر متمكن من أدواته ،ففي قصيدته ( الغابة العرجاء) استخدم المفردات : غرسوا الدخان فوق بابه/ صار كفه وكرا/ وساقه وليمة/ورأسه عصا/ يمسح ظلها الرصيف/ انهمر المدى عيون / رجالها دموع/التهمت ضفافه الحقول/ أسرجت ألوانه جسرا تنير فيه عالم الظلام/ حكمة الجنون/ زئيرا من دخان/ أغصان كرى/ الحقول يتامى/
أظهر الشاعر جماليته اللغوية في التصوير الشعري في قصيدة الغزل وكان يقول في أحد لقاءاته حين سئل:
قائلا: كيف هي صورة المرأة في شعرك، وكيف كان الغزل؟
(تشكل المرأة في نصوصي مصدرا عظيما للغناء للحياة فهي مصدر الغنى والجمال والعلاء والنماء في مفاصلها وصراعاتها وشواغلها، أما وأختا وزوجة وحبيبة وزميلة وصديقة. والنظر إليها كائنا مكملا لحياة الذكر ومؤسسا حيويا لبناء الحياة، عبر الولادة والحب والإخاء والمودة، ولم أنظر لها وفي يوم ما الأيام أنها وسيلة للمتعة، وقضاء الوقت في أجواء زائفة زائلة الأنثى هي الحياة وهي الغناء الخالد المصاحب لشواغلها ولمعانيها، كلها ومن هنا كان الغزل بها عندي)
يتجلى ذلك في قصيدته (محاولة البصير في عين لاترى)
في لوم الخطى في الظلام
في تحديقي الخائف ببياض الورقة
في دفتر نهرك الغارق بالاسى
ابحث
عن كلمة تتسع لاثنين تائهين
لم يدركا للان انهما من ماء
ونار
وأنت ياسيدتي الواقفة على شفا سؤال
حين تمدين لي كفيك الباسمتين
لم تعد المسافة ضيقة كما تبدو
فذاك الهواء الصارخ بين كفينا
والعيون الوجلة من لحظات انفجار العابرين
والانفاس
ويقول الشاعر في نص آخر:
فلا عين ترى
ولا هواء ذبيح
ولا آهة تستدرج الريح
لتتكئ
على غمازتيك
ابحث عن كلمة
لم اجدها وسط حروف الفوضى
وحروب العشاق
الا بنص غائب بين الاسطر
استطاع الشاعر جبار الكواز أن يصنع له بصمة خاصة وكان يقول حين سئل:
كيف استطعت أن تكون لك لغتك الخاصة وشعرك المميز الذي له بصمة واضحة؟
– (صناعة البصمة الخاصة لا تتشكل بالنوايا لوحدها، فهي صراع أزلي بين قول متداول وقول مبتكر، بين نسج لغوي تقليدي ونسج يصنع تثويرا لغويا قائما على الإحساس باللغة، بوصفها كائنا حيّا يحتاج إلى التجديد والإدامة، لضمان بقائه حيّا متجددا مدهشا وجميلا. من هنا فالبصمة لا تتأتى لأي واحد بل هي نتاج وعي لغوي، وكشف للواقع عبر منظار يسلط الضوء على حيوات بيننا، ولكن لا يراها إلا المبدع الحقيقية بالتزامه الصارم على الكشف والتجديد، والعيش وسط عوالم لغته الخاصة المستلة من رحم الخزين اللغوي. اللغة هي التي تصنع الشاعر ذا البصمة الخاصة وليس العكس)
المصادر
* تأملات في تضاريس المعنى، اياد خضير، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد، 2020.
*صورة العنوان في الرواية العربية، جميل حمداوي – المغرب،ندوة ، مجلة الكترونية
*تجلي الخطاب النقدي من النظرية الى الممارسة، محمد صابر عبيد، منشورات ضفاف، دار رامان الرباط.
نظرية التحليل والارتقاء، سعد الساعدي، دار المتن ،بغداد،2020.*
ويكيبيديا *
*الخصائص الاسلوبية (رسالة ماجستير)،اعداد الطالبة فوزية بنت محمد ابراهيم البطي، جامعة القصيم ، كلية اللغة العربية والدراسات الاجتماعية,2017.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن