ماذا خسر علم الاقتصاد بانزواء- أو -اختفاء-- الفكر الاشتراكي ..؟

محمد عبد الشفيع عيسى
moh_eesaa@hotmail.com

2020 / 12 / 22

جيل من وراء جيل من الاقتصاديين ومن الطلاب و الدارسين لعلم الاقتصاد فى مصر وعموم الوطن العربى و (العالم الثالث السابق) طوال نصف أو ثلاثة أرباع القرن الأخير، أخذ يجّتر مقولات "الفكر الاقتصادى الرأسمالى" فى كافة حقول البحث التى جرى العرف على تقسيم علم الاقتصاد (النظرى) إليها، مثل : الاقتصاد الكلى ، والاقتصاد الجزئى، و "القيمة ، والتوزيع" ، والتجارة الخارجية أو "الاقتصاد الدولى"؛ عدا عن مجالات الاقتصاد التطبيقى مثل : الاقتصاد الزراعى ، والاقتصاد الصناعى ، واقتصاديات النقل والتعليم والصحة ، و"الأجور والأسعار" ، وغير ذلك مما تعج به المكتبات المتخصصة .
ولم يعد الكثير من الجيل الراهن من طلاب الدراسات العليا و متخرّجي أقسام "الماجستير و الدكتوراه"، و دعْ عنك طلاب السنوات ما قبل التدرج الجامعى، يعرف بالوضوح و العمق الكافييْن، أن هناك مدارس (أخرى) للفكر الاقتصادى غير ما يعرف. برغم أن هذه المدارس (الأخرى) ذات تراث أكاديمى عميق وعريض، ليس فقط فى إطار التفكير الاشتراكى المعهود، بما فيه الفكر "الماركسى" – القديم والجديد – ولكن أيضا فى إطار أوسع من ذلك و أعمّ مثل الاتجاه "الهيكلى" الذى ينظر إلى الحقل الاقتصادى كفضاء للهياكل الاجتماعية المتجذرة، بمختلف صنوفها وامتداداتها الثقافية والسوسيولوجية... الخ.
و لم يعد الكثير من الأساتذة يذكّر الطلبة الجامعيين فى المراحل الأولى و الدراسات العليا، وشباب الأكاديميين العاملين فى حقل التدريس أو حقل البحث عموما، أن مدارس (أخرى) شاعت و ذاعت و مارست تأثيرا عظيما على الفكر والعمل طوال قرن او قرنين، و ربما كان أحدثها في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم (مثل مدرسة "التبعية"). و إنما هم يعرفون حقّ المعرفة ما أتاحه الفكر الاقتصادى والاجتماعى السائد مما يدور حول ما أشاعه اقتصاديو المنظمات الدولية، وخاصة لدى طواقم " صندوق النقد الدولي"و "البنك الدولي" و المنتديات ومراكز البحث المتخصصة الدائرة فى فلك الدول الغنية و الشركات عابرة الجنسيات (خاصة منتدي الاقتصاد العالمي "دافوس"). و من ذلك، الأعمال الدائرة حول المفاهيم التى ملأت الدنيا وشغلت الناس خلال نصف قرن مثل "الإصلاح الاقتصادي" و "التكيف الهيكلى" و "الفقر" و "التنمية البشرية" ، بل و "التنمية المستدامة" التى تسيّدت المسرح الاقتصادى الرسمى خلال العقود القليلة الأخيرة.
كانت النتيجة أن انزوت أفكار كانت هى تملأ الدنيا وتشغل الناس من قبل، مثل "العدل الاجتماعى" و "العدالة" عموماً التى لم يعد أحد يذكرها باسمها الصريح إلا لماما، و لا يذكرها بجوهرها الكامن، أي: إعادة تصحيح هياكل توزيع الثروة والدخل لصالح الغالبية الاجتماعية الواسعة، ولكن يذكرونها بأسماء متخفية مثل "المساواة" و "تكافؤ الفرص" و "الحد من اللامساواة" و "تخفيف حدة الفقر". وأصبحنا فى حاجة إلى أن يجأر البعض بصرخات كانت مكتومة، ليدبّج آلاف الصفحات حول ذلك، مثل الاقتصادي الفرنسي الشاب النابغ ( توماس بيكيتى) والذى بلغ به الطموح حدّ مناطحة كارل ماركس صاحب "رأس المال" باستعارة مكنيّة تدور حول (رأس المال فى القرن الحادى والعشرين) .
و لم يعد أحد يتذكر، ويذكّر، بالوضوح والعمق الكافييْن، بمفاهيم (أخرى) عن تنمية (أخرى) غير التى عرف و ألف، فيشيع لديهم مفهوم (تقنيّ) ضيق حول "التنمية" فإذا بها أقرب إلى مجرد "النمو الاقتصادى"، وتختفى أضلاع المفهوم التنموي الحقّ الثلاث : أ-التحولات الهيكلية الجذرية للاقتصاد الوطني باتجاه التصنيع والخمات العلمية-التكنولوجية المرتبطة جميعا بالإنسان ومتطلباته المجتمعية الدينامية. ب-السير على طريق العدل الاجتماعى الحقيقي من خلال إعادة تصحيح هياكل توزيع الثروة والدخل. ج-السعى إلى علاقات اقتصادية دولية قائمة على التكافؤ و "الاعتماد المتبادل" . و يُفترض أن تكون هذه التنمية الحقّة جوهرها استعادة إنسانية الإنسان بالمعنى الفلسفى العميق؛ و بما يتجاوز المعنى الذائع الذى تحدث به الاقتصادى الهندي الأمريكى، حائز جائزة نوبل في الاقتصاد "أمارتيا سن"، وخاصة فى كتابه "التنمية حرية"، الذى اعتبر لدى البعض بمثابة "مانيفستو" (التنمية البشرية).
و ربما كان أقصى ما وصل إليه الاقتصاديون المُحدَثون الدائرون فى الفلك العام للفكر الاقتصادى السائد، بطابعه "الرأسمالي" الغالب، هو إعادة إنتاج أفكار سابقة بدون تأصيل كافٍ، كانت انتشرت إبان حقبة الدعوة إلى "نظام اقتصادى عالمى جديد" فى السبعينات ومطالع الثمانينات من القرن العشرين ، مثل "إشباع الاحتياجات الأساسية" و "الاعتماد على الذات". و أمّا إعادة تصحيح الفكر الاقتصادى جذرياً، باستعادة وجْهه الاجتماعى والسياسى والثقافى، وجهه الإنسانى الحقيقي، فلم يعد يخطر على بال الكثيرين، إلى حدّ بعيد.
هم يتحدثون عن "علم الاقتصاد" وكأنه علم وضعىّ خالص ، بل علم "أدائي" instrumental قائم، إلى حدّ كبير، على مجرد استخدام الأدوات المتقنة للاقتصاد الرياضي و الإحصاء و الاقتصاد القياسى، وبناء النماذج الكمية .. وهكذا إذن اختفى علم "الاقتصاد السياسى" أو الاقتصاد الاجتماعي، وبرز "علم الاقتصاد" فحسب، كما قال الاقتصادي البريطاني "ألفرد مارشال"(1842-1924). و قد أصبح ذلك، فيما بعد، ديْدن الاقتصاديين فى العالم، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وكتلته (الاشتراكية) فى مطلع التسعينات.
أصبح التطابق (الخاطيء) بين "التنمية" و "النمو" أمراً مألوفاً، رغم الفارق الجذري، حيث التنمية عملية معقدة وشاملة على نحو ما أشرنا بينما النمو مجرد مفهوم كمي حسابي يتحصل في الزيادة الدورية للناتج المحلي الإجمالي، أيا كان مصدر هذه الزيادة. كذلك جرى التطابق (الخاطيء) بين التنمية وبين "الإصلاح الاقتصادى" فيما يسمى ببرامج التكيف الهيكلي التي ذهبت باتجاه تفكيك بنى سابقة للوظيفة الاجتماعية للدولة، وخاصة "القطاع العام"، و كذا تفكيك آثار سياسات اقتصادية مُحِقّة كانت متبعة سابقا ثم تمّ العدول عنها تحت تأثير ساحق من المنظمات الدولية ("الصندوق" و "البنك") في إطار الهيمنة التامّة للنظام الاقتصادى الرأسمالى العالمي. و كانت تلك السياسات السابقة مطبقة فى مجالات الضريبة والدعم والإنفاق الاجتماعى الموسع على التعليم للجميع والصحة للجميع، و "البيت لمن يسكنه"، و كذا في مجال هيكل التملك: حيث الملكية العامة والتعاونية، و"الاقتصاد التضامني"، بوجه عام .
ثم ها همْ نسوا أو تناسوا ضرورة تأسيس علاقات اقتصادية دولية قائمة على التكافؤ بين دول العالم بوجه عام، على نحو ما ذكر اقتصاديون (تقدميون) بصدد نقد "التبادل غير المتكافىء" و "التطور غير المتكافيء"، فيما أكده أريجى إيمانويل ، وإيمانويل وارشتين ، و سمير أمين. و إذا بالعديد من اقتصاديّي هذه الأيام لا يدرون، أو لعلهم يدرون حقاً ولكن لا تكون لديهم "الجرأة العلمية" على اختراق الحُجُب وتجاوز المحرمات المرسومة من دهاقنة الفكر الاقتصادى الرأسمالى العالمى فى مركزه الأوروبى –الأمريكى. ولذلك لا يجدون بأساً من اجترار المقولات المكررة حول "تقسيم العمل الدولى" و "اقتسام منافع التجارة الدولية" على أساسا نظرية "الميزة النسبية التقليدية"، دون إنعام النظر فى محتواها الاجتماعى داخلياً ودولياً. وإذا بهم هذه الأيام يكررون ما يقال حول سلاسل القيمة العالمية Global value chains ويخشون انقطاع إمدادات بعض المواد والسلع الوسيطة ومن الآلات والمعدات ، من جراء انعزال أو عزل الصين (مصنع العالم). و لذلك– من وجهة نظرهم – ينبغى البحث عن بدائل لدى دول أخرى غير الصين، قبل فوات الأوان؛ كل ذلك دون تمحيص، ودون بحث عن البدائل الضرورية والممكنة في إطار حركة التكامل الاقتصادي التنموي للمجموعات المتجانسة قوميا وإقليميا كالوطن العربي و الإقليم العربي الإفريقي والقارة الإفريقية بوجه عام..!
وفي ضوء ذلك ، للأسف، يمكن أن يقع تجديد الدوران في الحلقة المفرغة للتبعية المقيتة تجاه المركز الرأسمالي العالمي.
وما درَوا أن "اللاتكافؤ" هو جوهر النظام الاقتصادى العالمى للرأسمالية منذ نشأ ، وأنه لا بديل حقيقياً سوى العمل على إقامة (نظام موازٍ) أو (بديل) مكوّن من القوى الساعية إلى التحرر الوطني والتنمية الشاملة، و الساعية إلى العمل من أجل اقتلاع الظلم من الجذور، على أسس من التساوى والحرية والعدالة. و ما عرفوا أن المدخل إلى ذلك هو العمل التنموي التكاملي، كعملية معقدة ممتدة "عبر الزمن" لإقامة مجاميع اقتصادية دولية جديدة قادرة على تغيير موازين النظام العالمي الجائر. وأنه من ذلك ينبغى العمل لإقامة "سلاسل القيمة والعرض والإمداد"، بعيداً عن السلاسل الراهنة المقودة من قبل عمالقة الاقتصاد الرأسمالى العالمى، و "دهاقنة" التفكير المتجّذر من "الظلم العنيف" عبر قرون .
و عدا عن الجدل الدائر حول "سلاسل القيمة" هذه الأيام، يشتّد الجدل واللّغَط ايضا، و الممزوج بالخلط و الاضطراب، حول قضايا مهمة من قبيل
الفقر. و يشيرون إلى الفقر ويدرسونه كمحض تفاوت فى مستويات الدخل، أو حتى "مستويات التنمية البشرية"، دون نظر إلى جذره الكامن فى "التفاوت الطبقي" على ميزان الثروة بالذات، وعلى ميزان الدخل أيضا، ليس فقط محلياً داخل البلدان الفقيرة، ولكن عالمياً بالذات (عالم غنيّ مسيطِر فى مواجهة عالم فقير مسيطَر عليه) .
وقضية أخرى مثيرة للجدل حقا هذه الأيام أيضا، فيما يقال له "الثورة الصناعية الرابعة"؛ إذْ يتحدثون عنها كهدف أمثل وإن كان بعيد المنال. و لِمَ لا تكون كذلك عندهم، وهى – لديهم – تتحصل أساسا في التحول الرقمي و الآلة المفكرة والذكاء الاصطناعي و الروبوت و الأجهزة الحساسة المستشعرة و إنترنت الأشياء. وما يدرون أن من وراء كل ذلك "استلاب" و "اغتراب" و "تشيّؤ" للإنسان، مما تحدث به بعض الاقتصاديين و الاجتماعيين الأوائل، وخاصة فى مطالع القرن العشرين و في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على ضوء من بقايا الشموع المزهرة للفكر الاشتراكى الحقيقي.
و هذه الثورات الصناعية المتعاقبة منذ أولاها التى ظهرت شعلتها الأولى بالمحرك البخاري عام 1776 حتى أخراها إلتي (يبشرون) بها منذ سنوات، وخاصة على يدىْ السيد (كلاووس شواب) "عراب" المنتدى الاقتصادى العالمى (دافوس)؛ هذه الثورات جميعاً ذات أثر متضارب حقاً. فبالإضافة إلى تخفيف الجهد العضلى عن الإنسان، وزيادة رفاهيته المادية، فى المجتمعات ذات الدخل المرتفع، كان لها أكبر الأثر فى تعميق ما يشبه تحول الإنسان إلى "شىء"، وسلبه أثمن ما لديه، أي الروح، بفعل شيوع الظلم من الإنسان لأخيه الإنسان، وتعميق هذا الظلم عبر العنف على مدى العصور وخاصة العصر الحديث .
فهلاّ نُجَلّي جوهر العلم الاجتماعي، وخاصة علم الاقتصاد، ليعود عِلماً للإنسان بحقّ، علماً إنسانياً، كما أُريد له فى الأصل الواجب أن يكون ...؟
ولكن أنَّى يكون ذلك و قد انزوى التفكير ذو الطابع الإنساني الحقيقي فى العلوم الاجتماعية وانزوى معه، أو ربما اختفى، الفكر الاشتراكى ..؟
و لقد كانت خسارة علم الاقتصاد بالذات، ربما أبعد مدى و أكثر فداحةً من خسارة العلوم الاجتماعية الأخرى؛ ثم انعكست خسائرها جميعا على العلوم الطبيعية و الطبية أيضا. ولكن هذا حديث آخر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن