الفيلم الاسباني -الخندق الابدي-رحلة مكثفة حول الضعف البشري واليأس والخوف من القمع السياسي !!

علي المسعود
alialmasoudi2002@yahoo.co.uk

2020 / 12 / 21

The Endless Trench (2019)


في الرابع عشر من نيسان من العام 1931 تم إعلان الجمهورية في إسبانيا ـ ونفي الملك ألفونسو الثالث عشر إلى الخارج ، لتعرف إسبانيا ما سيسمّى الجمهورية الثانية، والتي ستكون نهايتها مع نهاية الحرب الأهلية ، التي تمخضت وقائعها الدموية عن سقوط ما يقارب النصف مليون ضحية بفعل سياسة الإرهاب التي أتبعها فرانكو الذي بدأ في تصفية حساباته بوحشية مع معارضيه والتي جاءت على شكل إعدامات ميدانية لكل من تم الاشتباه بمناصرته للجمهورية الإسبانية الوليدة، بغض النظر عن انخراطه بأية أعمال عنف ضد الطرف الآخر ، الأمر الذي يفسر العدد الكبير من المقابر الجماعية (2500 مجزرة جماعية)، واضطرار من تسنى له الإفلات من قبضته الدموية للعيش تحت الأرض في مخابئ أقرب ما تكون للجحور، و كذالك فرار المقاتلون جميعهم إلى فرنسا حيث وجدوا بها ملاذًا آمنًا حين هرب نصف مليون إسباني لاجيء نحو فرنسا، عقب ملاحقة قوات فرانكو لهم ، وكان من بينهم سياسيون وثوريون ـ ووزراء وهم لا يعلمون لماذا ساءت الأمور إلى هذا الحد ، وسقطت مدريد بالنهاية ، وأصدر فرانكو بيانًا قال فيه أن كافة المعارضين هم أعداء للوطن ويجب التخلص منهم . "الخندق ألابدي " هو فيلم اسباني يوثق لتلك المرحلة وماشهدته من بطش واعتقالات والاختباء و لعقود من الفاشيين الإسبان ـ الفيلم من إخراج كل من " جون غارانيو" و"آيتورأريجي" و"خوسيه ماري غوينغا "وكتبه لويس برديجو . الفيلم يتناول حكاية رجل يختبئ من أعين السلطات الفاشية الإسبانية لمدة تزيد عن 30 عامًا ، من تلك الفترة من الحرب الأهلية عام 1936 حتى أعلان نظام الجنرال فرانكوعفوًا سياسيًا في عام 1969. يتعامل الفيلم مع حكاية حقيقية ، العشرات أو أكثر من المعارضين اليساريين لفرانكو ، الذين أخفوا أنفسهم - في الخزانات ، الخنادق والحفرات، والحجرات الصغيرة ، في منازلهم لعقود بعد هزيمة القوات الجمهورية في عام 1939 .
فيلم "الخندق الابدي" هي حكاية حقيقية ومستوحاة من مصير مانويل كورتيس العمدة السابق للحزب الاشتراكي لقرية ميخاس الإسبانية الجنوبية ، الذي اختبأ في مكان ضيق داخل منزل والده في عام 1939 ، بعد أن حاول عدة مرات الفرار من إسبانيا دون جدوى، عاد مانويل كورتيس ، العمدة السابق لمدينة ميخاس الصغيرة في ملقة خلال الجمهورية الثانية إلى وطنه. وقرر العودة للقاء زوجته مرة أخرى . كان يعلم أنهم إذا اكتشفواه فسيكون مصيره هو الإعدام ، لذلك قرر فتح حفرة في أحد جدران منزله وأقام ملجأ صغيرًا وانتهى به الأمر بقضاء ثلاثين عامًا من حياته هناك ، حتى مارس 1969 ، عندما أصدرت الحكومة الإسبانية عفواً عن جميع المتهمين بارتكاب جرائم مزعومة خلال الحرب الأهلية ، هذا الفيلم له اسقاطات كبيرة في العديد من البلدان التي عانت من الديكتاتورية وحكم الحزب الواحد ، الفيلم يحكي عن الحرب الاهلية في اسبانيا ، وهو الصراع بين اليسارواليمين بين الشيوعيين والعسكر والحزب الفاشي في تلك الفترة الذي كان تحت أمرة الجنرال فرانكو .
الفيلم يبدأ بالتاريخ 1936 وفي مدينة الاندلس في إسبانيا، وفي قرية اسبانية بعد سقوط الجمهورية وإندحار اليسار في معركته مع الفاشية والديكتاتورية، كالفاري هيغينيو (أنطونيو دي لا توري) هو مسؤول حكومي محلي في قرية صغيرة ومتزوج حديثًا من روزا (بيلين كويستا)، في الأيام الأولى من الحرب الأهلية . الفيلم مقسم الى فصول وتعريف لعنوان هذه الفصول من القاموس. يفتتح الفيلم بفصل عنوانه (مداهمة ) وفي فصل مداهمة أوغارة أو هجوم مفاجئ ، يبدأ بمشهد "هيغينيو" حين يستيقظ فجأة من نومه على صوت مداهمة رجال الشرطة لمسكنه بحثا عنه وعن رفاقه من المناضلين الاشتراكيين ، يفاجئ الزوجين هيغينيو وروزا بقوات فرانكوا قي مداهمة داره، توقظه زوجته " اسرع ياهيغينو لقد جاءوا للقبض عليك "، يختبئ في المنزل، يدخل الحرس المدني للبحث عنه ، فلم يجدوه حين تخبرهم الزوجة ان زوجها قد رحل منذ الامس ، و لايوجد أحد هنا ، لكن الزوج يصر على الفرار صوب الجبال ، أو مكان أمن ، يحسم هيغينيو جداله مع روزا في صعوده إلى الجبال . ما إن يخطو خارج البيت حتى تصطاده اليد الحاقدة لجاره الفاشي غونزالو. يتعاركان، يسقط، ثم ينهض ليجد نفسه في مواجهة بارود العسكر. في السيارة العسكرية يلوح في ناظريه مشهد الجنود وهم يصوبون إلى قلبه فتنهض فيه رغبة الحياة. يقفز من السيارة العسكرية، يتدحرج على الأرض، ثم يركض وسط وابل الرصاص، يركض ويركض لينجو صاعدًا إلى فضاء البرية. يختبئ في بئر القرية المهجور مع اثنين من رفاقه، وعند نقاشه مع رفاقه يكشف هيغينيو عن وجهة نظرته المعتدلة ،" كنا مسؤلوون في القرية ولسنا ملاكي الاراضي أو الكهنة ، الرصاص لم يكن هو الحل ، الف مرة قلتها لكم ، لابد ان رجالك قتلوا احد في هذا الرصاص وبدعم منكم ، تثرثرون الى اضطرارنا الى استخدام القتل ، والان أنظر الى حالنا " . يبدو أن المشهد القصير يشير إلى نظرة هيجينيو الإصلاحية وعدم استعداده لأستخدام العنف التي يدفع ألان ثمنها شخصيًا . لايمر سوى قليل من الوقت حتى يعثر عليهم الجنود ، يرونهم من أعلى الحفرة، فيطلقون عليهم وابلا من الرصاص و يقتلون أثنين منهم ويصيبون ثالثهم ، وهوهيغينيو الذي يصاب بجرح في ساقه، يشد جرحه بقميص احد رفاقه المقتولين ويعود الى بيته حيث تداوي زوجته روزا جرحة و تقنعه بالاختباء في الخندق اوالحفرة داخل البيت لحين شفاء ساقه، ومن خلال زوجته يعرف اخبار الرفاق الذين سجنوا والذين اعدموا والرفاق الذين غيروا ولاءهم واصبحوا من رجال الديكتاتورفرانكوا ، الزوج يصر على الخروج الى الجبال أوالهروب الى البرتغال بدل البقاء في الخندق الى الابد ولكن خطتهم تفشل بعد اعتقال الرجل المهرب الذي سوف يوصلهم الى بر الامان . في فصل "الاعتقال"ويعرف حسب القاموس- فقدان للحرية بموجب سلطة القانون- في هذا الفصل يتم مداهمة البيت في الليل ويتم استجواب الزوجة عن مكان الزوج وهل اتصل بها؟ ، هل تعرف اية أخبار عنه؟ ، تؤكد الزوج انها لاتعرف أي شئ عنه ، تُحاصر الزوجة بالاسئلة من رجال فرانكوا وتبكي، وفي نفس الوقت يبكي الزوج لانه وضع زوجته في هذا الموقف وهو يراقب الحدث من فتحة صغيرة من خندقه ، بعد ذالك يتم اعتقال الزوجة روزا لغرض الاجابة على بعض الاسئلة ، ولا تجدي توسلاتها برجال الشرطة أوالجارالحقود غونزالوا، وبكاءها بتركها وتأكيدها بأنها لاتعرف شيئا عن زوجها هينغيبو، وبعد ان يخربوا البيت ويسرقوا بعض محتوياته وبمساعدة الجار الواشي وأمام عيون هيغينيو التي تراقب كل حركة لهم بصمت وحذر شديدين. بعد عودة روزا من الاعتقال وهي تحمل آثار التعذيب على جسدها ووجهها، لكنها تبقى صامدة ، وكان لقاءها به مؤثرا لانهم أوهموها بالقبض عليه واعترف بكل شئ !. وتنهار أمامه باكية ويسألها الزوج" ماذا فعلوا بك ؟ ترد عليه أخبروني أنهم قبضواعليك "، ولم أتفوه بكلمة " ، ويقرر هيغينيو ان يسلم نفسه ليريح زوجته " مافائدة وجودي أن لم استطيع الاعتناء بك"، تتعلق برقبته وترجوه بالعدول عن الفكرة ،هم طلبوا منها الحضور الى الثكنات العسكرية يوميا وترك الباب البيت مفتوحا كي يبقى مكشوفأ طول النهار . تستمر زوجته الوفية روزا في نقل الاخبار له ومايحدث وبالتحديد عن رفاقه الذين اعدموا والبعض من ضعف وانهار وصار مرشدا لرجال فرانكو، وتخبره بصدور حكما بالاعدام بحقه ، وسمعت بانهم عرضوا مكافأة وقدرها 6000 الف بيزيتا عند الابلاغ عن مكان زوجها ويتساءل هيغينيو" ترى ماذا فعلت ليعرضوا تلك المكافأة الكبيرة؟ .
في الفصل الثاني الذي كان بعنوان "خطر" ويضع له الكاتب تعريفاً له حسب القاموس- مخاطرة أو احتمال وشيك بحدوث شئ- في هذا القسم او الفصل ، يصل والد هينغينو الى بيت روزا وهو يجهل مصير ابنه ، لكن روزا تصدمه بأن ابنه بخير وهو مختبئ في البيت ، وتخبره ان الوضع أصبح لايحتمل ولايطاق بوجود الجار الفاشي والواشي غونزالو الذي يتربص بالوقوع ويتوق للامساك بهيغينيو ، الذي صار يصرخ مفزوعا في نومه. بفرحة غامرة يصرخ الاب " ياالهي هل كان أبني مختبئاً هنا طوال 3 سنوات ". ويقترح عليه الابن هيغينيو بان ينتقل الى بيته ، بعد ان يقوم الاب بعمل حفرة خلف جدارالمطبخ، وبعد أتمامها سوف ينتقل الى بيت ابيه لانه أكثر أمناً وكذالك يريد الابتعاد من الجار الفاشي غونزالو ، وفعلاً بعد ايام يخرج هيغينيو متنكرا بهيئة أمراة مسنة وينتقل الى دار أبيه . في فصل "حبس" ويعطى له تعريف - وضع شخص او حيوان في مكان لايمكنه تركه- في هذا الفصل يموت والد هيينغيو ولايستطيع حتى توديعه وتتقبل زوجته روزا التعازي، وأيضاً تفاجئه زوجته روزا برغبتها في إنجاب طفل ، لكن هيغينيو يؤجل هذه الرغبة بعد أنتصار الحلفاء وزوال حكم فرانكوا الفاشي، وتخبره روزا بانها ستذهب الى غرناطة، وستنتقل الى بيت شقيق زوجها عندما تكبر بطنها وسوف تترك له الاكل والشرب الذي يكفيه طوال فترة غيابها، وحين تولد ستقول أنه ابن شقيق زوجي وعلي أن أهتم به . لكن الزوج مصر على ان الوقت غير مناسب وتتنفذ زوجته روزا رغبتها، وفي فترة غيابها يتسغل ساعي البريد وصديقة المثليين غياب روز في تنفيذ رغباتهما ، وحين يضبطهما هيغينيو، يحاولون أن يشتروا عن سكوته بان ياتوا له بوجبات أكل يومية مع الصحيفة اليومية كي يتعرف على مايجري خارج محبسه أو سجنه ، وفي أحدى المرات يخوض النقاش مع ساعي البريد ويخبره بأنهم ارتكبوا اخطاء ، لكنهم حققوا الكثير من المنجزات خلال الحكم الجمهوري مثل، التشريع لاعادة توزيع ألاراضي ، وحملة تعليم الناس القراءة والكتابة (محو الامية) وكذالك والرعاية الصحية . والحرص على حصول الجميع على العلاج الطبي ، ومسالة حقوق الانسان ويجب أن يحضي الناس بحياة كريمة . بعد مدة تعود زوجته حاملة طفلهما الذي أسمته ( جايمي ) وتخبره انه يشبهه تماماً ، يستمع هيغينيو الى المذياع وفي نشرة الاخبار يعلن بان الحرب قد أنتهت في اوروبا ووقعت المانيا وثيقة الاستسلام ، في البداية ينتظر "هيغينيو" انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ظنا منه أنهم بانتصارهم سيقضون على ديكتاتورية "فرانكو"، وسيخرج من خندقه ويتذوق طعم الحرية بعد أنتصار الحلفاء . مع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر، كان هيغينيو مقتنعًا بأن قوى الحلفاء ستكتسح نظام فرانكو بعيدًا أيضًا. لكن العكس هو ما يحدث . تتوافق الولايات المتحدة وحلفاؤها مع الديكتاتورية الإسبانية في معاداة للشيوعية، بل أكثر من ذلك ، يأتي الرئيس أيزنهاور لزيارة فرانكو إسبانيا في عام 1959، ويعبر له عن عن سعادته للقيام بهذه الرحلة . أما الفصل الذي كان بعنوان (عقد) أي - فترة من عشر سنوات - يكبر الطفل جايمي ويترهل جسم الاب هينغيو ، تنتاب الزوجة روزا حالة من الملل والارهاق من الزوج ، وفي أحد المشاهد يفاجئ بزيارة الجار القديم الفاشي غونزالو الى بيتهم بحجة خياطة بنطلون، مستغلا غياب الزوجة روزا ويبدا يستجوب الصبي جايمي، ويتوتر هينغينيون حين يعلم أن الفاشي غوانزالو الذي فقد أخيه على يد اليسارين لازال يلاحقه ويحوم حول البيت ، وفي هذا القسم يخبره صديق إبنه (خوان) بانه يعرف شخصا أخر مختبئ منذ عشرين عاما وكان شاباً فوضويا وقاتل في الجبهة، بعد ان عمل حفرة تحت السلالم وبنى جدار كي يخفي الحفرة ، يطلب من هينغينيو ان يخبر الرجل الاخر المختبئ عنه ، يوافق هينغينيو على اخبار الرجل عنه دون ذكر الاسم لانها سترفع من معنوياته وأحساسه ان هناك ناس أخرين مثله ، ويرد صديق أبنه " هذا رائع على الاقل هؤلاء الناس يحسون لهم صحبة " ، يرد هينغينيو علية بجملة بليغة وبتهكم "الصحبة الوحيدة هي الزواحف المخيفة ، اما الاصحاب الحقيقين كلهم اصبحوا في الخارج وانا مدفون هنا" . في مشهد جميل يعبر عن خيبة اليسار في معركته ونضاله من اجل تحقيق حلمه قي بناء مجتمع اشتراكي ، بدا وكأن المناضل اليساري كالفاري هيغينيو يشعر ان تضحياته ونضاله على مدار السنين من أجل وطنه لم يهتم بها احد ولم تقدر ولذا يتغير خطابه ولهجته حين يخبر صديق ابنه في هذا المشهد أن يتخلى عن السياسة ويتزوج وينجب ، فرؤيته لذاته أنه أضاع عمره دون جدوى وحياته التي قدمها هدية لوطنه ينظر لها بعد مرور سنوات على أنها لا شيء ، وينصح الشاب خوان صديق أبنه ويقول له " أنصت ألي ، أنسى المنشورات والاجتماعات السرًية ، أخرج وتسكع مع أمراءة جميلة تأخذها بين يديك ، أنجب أطفالا والعب معهم في الهواء الطلق". في فصل "الحفر" والتعريف بالقاموس- أنبش أو أستخراج الاتربة من الارض، واعادة ذكر المنسي والمدفون في صمت - وهنا اشارة الى عودة الجارالقديم الفاشي غونزالوا في ملاحقةهينيغينو ونبشه لايام مضى عليها ثلاث عقود ، وفي زيارته لروزا من اجل خياطة قطعة قماش، يخبرها بانه قد مرّ على بيتهم القديم وزار اهله الجدد وهما زوج زوجة واخبراه بان هناك خندق داخل البيت ويمكن لشخص أن يسكنها دون مشكلة، ويٍسأل روزا هل كنت تعرفين بتلك الحفرة " تنفي كالعادة روزا معرفتها ، لكنه لم يقتنع بكلامها ، ويختار المقهى المقابل لبيت هيغينيو وروزا يراقب البيت، وأستغل مغادرة روزا للبيت ويقتحم غونزالو البيت ويكسر الباب على أمل الامساك بغريمه هيغينيو الذي يراقب حركاته من خلال الناظور ومن من خندقه ، حتى يدخل الابن جايمي الى البيت ويفاجئ بوجود غونزالو وكسره لباب البيت ، يستدعى الشرطة لوبوجود لص اقتحم بيتهم ويقبض عليه وهو يصرخ : هينيغينو بلانكو مختبى هنا وهو مجرم ومطلوب للعدالة ومحكوم عليه بالاعدام "، لكن الشرطة لاتأخذ بكلامه، وعند عودة الابن "جايمي" من مركز الشرطة يخبر أباه "كل شئ انتهى بسلام وتم حبس غونزالوا وجعلوه يدفع ثمن الباب ويدفع تعويضاً أيضاً"، ويخبره ايضا ان غونزالو اخبر الشرطة بكذبة قديمة بأنك كنت السبب في قتل اخية بعد وشييت به، وانك كنت واشي هل هذا صحيح ياابي ؟، الاب هينغيو يرد " جميع الذين أختفوا او فقدوا في الحرب وضعوا اللوم علينا وأصبحنا نحن السبب في فقدانهم" ، عند ذالك ينفجر ألابن جايمي "لقد سئمت من هذا ، إن كان علي أن أحميك ، فانا على الاقل أستحق أن أعرف الحقيقة، من تكون ؟ وماذا فعلت ؟ ، ماكنت ترضى أن تبقى في تلك الحفرة 30 عاما لو لم تفعل شيئاً !، كنت مرتعبا منذ طفولتي كنت تخيفني طول حياتي وأراقب كل حركة وكل أيماءة وكل نظرة ، وأكذب على الجميع ، أقول عن امي هي عمتي ولا اعرف عن ابي ، بيما ابي يعيش خلف جدار في بيتي ، الجبناء هم من أختبئوا بينما قاتل الاخرين وماتوا في الجبهة"، يجب ان تعيش خلف جدار بيما تستمر حياتنا ، تتحدث عن النضال وطريقتك في في النضال لاتساوي شيئاً، أنك جبان لاتملك الجرأة في الخروج "، وتصفعه امه روزا ، وتخبره بانه لايعلم كم عانوا وقاسوا من أجله .
سنوات الخوف والعزلة والتستر لها تأثير مدمر ومدمر على حياة الزوج والزوجة والابن جايمي (إميليو بالاسيوس). انتقد كل من روزا وجايمي هيغينيو في مشاهد مختلفة ، متهمين إياه بـ "الجبن". روزا ، بعد أن ضحت بكل شيء لحماية هيغينيو ، تشعر بأنها محاصرة ، مقفرة في لحظات معينة. تصرخ "لقد سئمت من ذلك ... لا أستطيع تحملك بعد الآن" ، من الصعب تخيل حياة يسيطر عليها هذا النوع من الخوف المستمر على مدار أكثر من 30 عامًا . ليس من العدل وصف هيغينيو بأنه جبان ، لقد فُرضت عليه الظروف القاسية . في فصل "عفو عام " وهو عفو رسمي عن جميع السياسين وفي ذكرى مرور ثلاثين عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية، صدر في مارس- اذار من عام 1969 ، تضئ الغرفة ويتسلل الضوء بكتافة الى الحفرة ، اشارة الى الحرية، تبتهج الزوجة روزا وتقول " ألان يمكني أن اضع ملابسك جنب ملابسي"، لكنها تفاجئ برد فعل زوجها هينغينيو حين يرفض الخروج من خندقه ،" لاقيمة لتلك القرارات مادام هنالك جار يراقبك مثل ظلك" كان هذا رده على الحاح زوجته"روزا" ، تجمع روزا أغراضها في حقيبة وحين يسالها ،الى اين ؟ تخبره : أنا ذاهبة الى الساحل لتحقيق رغبة مدفونة منذ 30 عاما ، سأذهب الى الشاطئ وارى البحر واذا اردت ، تعال معى"، يتردد في البداية لكنه يلحقها في اخر مشهد من الفيلم، في الفصل الاخير الذي كان عنوانه " الخروج" في هذا الفصل يرتدى هينغينيو ملابس جديدة بعد زيادة وزنه ويسرح شعره ، ويقف "هيغينيو" أمام باب المنزل وهو يخشى الخروج ، فقدماه لم تتعودا على السير في الشوارع، وروحه اعتادت الحبس ودأبت عليه، فيتحرك جسده بخوف في أداء أقل ما يوصف بأنه كان رائعا من "أنتونيو دي لا توري" في دور "هيغينيو، كان مُعبرا عن جوهر وروح شخصيته ، يفتح باب البيت للشمس بعد 30 عاما ، تصطدم عيناه لأول مرة منذ سنوات بضوء الشمس، ويتذوق أخيرا طعم الحرية بعد سنوات من فقدانها في الخندق الأبدي، ثم يذهب مع زوجته الى الحي القديم حيث بيتهم الاول ليشاهدوا ان البيوت قد تغيرت و تجددت والناس ايضا تغيروا . ثم يختم الفيلم بمعلومة" بعد نشر مرسوم العفو في عام 1969 كشف عن العديد من القضايا لأشخاص الذين كانوا خائفين من الانتقام ، وقرروا الاختباء في منازلهم هؤلاء الناس كانوا يلقبونهم ب( حيوانات الخلد)، في بعض الحالات ظلوا مختبئين لأكثر من30 عاماُ ". نسج كاتب الفيلم السيناريو في رهافة تطور العلاقة بين الزوجين، حيث التأرجح بين الحب والاهتمام الزائد من ناحية والكره والملل الذي أصاب علاقتهما من ناحية أخرى، فكل منهما أصابه الملل من الآخر، فالزوجة أصبحت لا تطيق وجود الزوج داخل خندقه، فقد اعتراها الملل من الكذب على الجيران بشأن وجوده، كما أن حريتها هي الأخرى أصبحت مُقيدة . يذكرني هذا الفيلم المؤثر بحكاية العراقي جواد الشمري (المعارض ضد النظام العراقي السابق) الذي ظهر بعد ٢٠٠٣، وكان شابا حينها عندما كانت البلاد بالكامل تحت قبضة صدّام، وقد اختفى عن النظام للتخلص من الاعدام ، وبقي في قبو اشبه بالقبر تحت احدى غرف منزله ولمدة ٢٢ سنة وحتى سقوط النظام عام ٢٠٠٣ ، ولم تعلم به سوى امه التي كانت تمده بديمومة الحياة ، وقد خرج وهو كهلا وحاملا الكثير حزمة من الامراض والعقد النفسية . فيلم" الحفرة ألابدية "منظم في فصول تبدأ باللوحات التي تظهر فيها تعاريف حفنة من الكلمات التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقصة ومن خلال هيكل سردي مقسم إلى فصول ، كل منها له اسم شائع أو صفة بسيطة مصحوبة بتعريف القاموس المقابل. وجهة النظر السردية هي وجهة نظر هيغينيو ، وهو سياسي يساري ومطارد من قبل رجال فرانكو الفاشي يختبئ في حفرة او مايشبه الخندق في منزله ويقايض حريته مقابل البقاء على قيد الحياة ليمكث فيه مدة ثلاثين عاما خوفا من بطش السلطة. وهكذا تدور أحداث الفيلم حول العلاقة بين الفرد والسلطة من ناحية، وبين السجين وعلاقته بالمحيطين به من ناحية أخرى . في أحد المشاهد ، يعبر الحرس المدني (خوسيه مانويل بوغا) عن اهتمامه الرومانسي بزوجته "روزا" ثم يستغل وحدتها ويبدأ بالتحرش بها تحت عيون هينغينيو الذي يراقب المشهد من مخبئه ولايستطيع أن يفعل شيئاً كي لاينكشف أمره ، وهنا تشعره زوجته بعجزه و بغيابه لانه غير موجود اصلا مما جعلها فريسة لشهوات رجال الحرس المدني ، ولكن بعد عودة الحرس المدني ، يكررمحاولاته في أغتصابها هذه المرة وتكافح في محاولتها في الدفاع عن نفسها ؛ عندها يخرج هيغينيو من مخبئه ويقوم بختقه حتى الموت ، ويدفن جثته تحت سريره في خندقه .
فيلم"الحفرة الأبدية” عمل مصنوع بدقة مثيرة للإعجاب، فهو يتمتع بإيقاع ينساب في سلاسة وسيولة وبساطة ظاهرية تخفي قدرة كبيرة على التحكم في السياق، ورغم كل هذه الدقة في رسم الشخصيات والبناء الدرامي، والتعبير الفذ عن تعاقب الزمن عبر سنوات عديدة، والأداء التمثيلي الذي يرقى إلى أفضل مستويات التمثيل في سينما العالم، إلا أن من المدهش أن نعرف أن هذا الفيلم هو عمل جماعي أشترك فيه ثلاثة مخرجين في إخراجه، وهم أيتور أريجي، وجون غارانو، وخوزيه ماري غيون .
أهم عناصر قوة الفيلم وقوة تأثيره، يكمن أيضا، في ذلك الأداء الرائع الذي يجمع بين اثنين من أهم الممثلين في السينما الاسبانية، وهما "أنطونيو دو لاتور" الذي أجاد في التعبير عن حالة القهر والخوف والشعور بالهلع لأي صوت يسمعه أو لصوت وقع قدمين يقتربان من باب المنزل، كان هذا الاداء المبهر والعظيم للممثل أنطونيو دو لاتور لدور (هيغينيو) ، شديد الاقناع وسيظل مطبوعا في ذاكرة المشاهد طويلاً ، أنطونيو دو لاتور يبدو أيضا شديد الإقناع وهو يؤدي دور هيغينيو بعد أن أصبح كهلا، حين ازداد وزنه كثيرا وأصبحت حركته بطيئة. ولاننسى أداء الممثلة "بيلين كويستا" في دور روز، وحالة الانسجام الكبيرة مع الممثل أنطونيو دو لاتور . إنها تعبر بثقة كبيرة ومن خلال شخصية طاغية، عن دور امرأة تحمل على عاتقها تدبير كل الأمور، كزوجة وحبيبة وأم تعمل وتقضي الأمور وتدبر المنزل وتربي الولد وتتستر على الزوج وترعاه . وهي في لحظات الحب تتألق تماما كما تتألق في لحظات الغضب والتمرد ولكن دون أن تتخلى عن الحب .
الفيلم عرض لأول مرة في مهرجان "سان سيباستيان" السينمائي 2019، فاز في فئتي أفضل مخرج وأفضل سيناريو، وسيمثل فيلم "الحفرة ألابدية" في جوائز الاوسكار لهذا العام في فئة أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية ، وفقا لما أعلنته أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية في إسبانيا . الفيلم تحفة سينمائية ليس لكونه مهموما فقط بتناول الأحداث من زاوية تاريخية ضيقة، ولكن لأنه يتسع ويقدم رؤية إنسانية عميقة في أسلوب فني بليغ وفريد عن الحرية المفقودة التي يبحث عنها الإنسان وقد لا يعثر عليها . في مقابلة مع الكاتب خوسيه ماري جوينغا تحدث عن الفيلم "الموضوع الرئيسي للفيلم" هو "الخوف من اتخاذ الخطوة الأولى" ، وهو تصور مبتذل وغير مناسب إلى حد ما. وتابع: "الفيلم له أصداء لمخاوف نفسية مختلفة قد يعاني منها الناس. يمكن للخوف أن يحول أي منا إلى سجين لذاته وروحه، ويمكن قراءته أيضًا على أنه قصة رمزية عن الخوف من الخروج من الخزانة: فقدان الحرية بسبب شيء خارجي أو داخلي خاص بنا".
وفي الختام فيلم " الخندق الابدي " يخبرنا ،أن الحب يمكن أن يوفر مأوى قد يستمر مدى الحياة ، هو رحلة عاطفية مكثفة شبه مثالية حول الخوف من القمع السياسي وبشكل أعم ، حول الضعف البشري واليأس والمقاومة، لكن الجاذبية العاطفية الواسعة للفيلم تعني أنه يستحق المشاهدة لان قصته تحدث في كل مكان وزمان تسود فيه الانظمة الديكتاتورية وفي أية بقعة في العالم ، علي أية حال ، فإن الانطباع السائد الذي تركه فيلم الخندق الابدي هو الرعب من الديكتاتورية ، والخوف الذي غرسه في نفوس الناس ، واستحالة التصالح معه أو التسامح معه .


هامش : الجمل المحصورة بين الاقواس مأخوذة من الفيلم



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن