تونس:زمن راشد الغنوشي وعبير موسى

بشير الحامدي
bechir44n@gmail.com

2020 / 12 / 20

ـ 1 ـ
في 2011 فسح المجال أمام المشروع السياسي لحركة النهضة للهيمنة على دواليب الدولة والمجتمع والتقطت النهضة مشروع الانتقال الديمقراطي وصار مشروعها ولم تعد ذلك الحزب البرجوازي الصغير العقائدي كما كانت في ثمانينات وتسعينات القرن المنقضي لقد تحولت لحزب برجوازية الخدمات والعقارات والمصارف المرتبطة الأول في تونس وهو ما مكنها من أن تلعب الدور الأول في حراسة مصالح القوى الأجنبية في تونس فرنسا أمريكا ألمانيا تركيا إسرائيل... إلخ
قوة حركة النهضة جاءت من أنها ظهرت القوة السياسية الأكثر قدرة على حماية مصالح الطبقة البرجوازية التونسية وحراسة نظامها بعد 17 ديسمبر.
قوة حركة النهضة هذه قابلها عجز تام من الطبقات الشعبية التي أطاحت ببن علي على فرض التغيير المنشود وهو ما فتح المجال واسعا لعملية انقلاب كبرى بدأت منذ هيئة ين عاشور وهي مستمرة إلى اليوم.
وطيلة هذه الفترة وخصوصا في السنوات الثلاثة الأولى من الانقلاب انتقل جزء كبير من الطبقة البرجوازية التونسية التي استندت بعد 1956 على بورقيبة ومن بعده على الديكتاتور بن إلى دعم حركة النهضة راميا وراء ظهره بكل أوهام الحداثيين يمينهم ويسارهم الذين جعلوا من الصراع الثقافوي ومن ثنائية الرجعية والتقدمية أساس الصراع مع النهضة.
ـ 2 ـ
حزب عبير موسى استوعب الدرس اليميني جيدا حيث لم يعد الصراع ضد حركة النهضة بالنسبة إليه مؤسسا على البعد الثقافوي ومن أجل الوفاق على غرار ما دفع إليه نداء تونس في سنة 2014 وما تلاها لما كان طرفا قويا في معادلة الوفاق مع النهضة. عبير موسى صراعها مع النهضة اتخذ بعدا جديدا يهدف إلى استعادة ذلك الجزء من البرجوازية التونسية الذي التحق بحزب النهضة وصار دعامتها الاقتصادية والسياسية. الصراع السياسي السافر بين الحزبين مظهره صراع أحزاب وخلفيته محاولة لدفع التناقضات بين فئات البرجوازية التونسية إلى أقصاها للإنهاء مع حالة الاستقطاب الثنائي وتعدد مراكز النفوذ التي سادت طيلة السنوات التسع الأخيرة من الانتقال الديمقراطي وصهر كل الوكلاء في مشروع واحد وما تأكيد عبير موسى على روابط حركة النهضة بحركة الإخوان المسلمين وبحركات الإسلام السياسي الإرهابية واعتبارها الممثلة المحلية لهذا المشروع إلا دفع في هذا الاتجاه وتحذير للفئات البرجوازية التي ارتبطت بحركة النهضة بعد 2010 وجرها إلى قطع روابطها مع هذا الحزب.
ـ 3 ـ
من أين جاءت عبير موسى بكل هذه القوة السياسية حتى تحولت في زمن قصير إلى القوة الثانية في البلاد؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نجيب عنه لتتوضّح أمامنا الرؤية.
قوة عبير موسى متأتية من الأزمة السياسية التي انتهى إليها الانتقال الديمقراطي وانتهت إليها قواه السياسية التي تداولت على الحكم في العشر سنوات الماضية. لقد ظل الانتقال الديمقراطي يخرج من أزمة ليدخل أزمة أعمق واستمرت كل قواه السياسية بما في ذلك اليسار اللبرالي على التمسك به كمسار لتحقيق (العدالة والتنمية والديمقراطية).
عبير موسى استثمرت جيدا في هذا المعطى ولما ندرك أن خطابا جذريا يسمي الأشياء بأسمائها يمكن أن يجد آذانا صاغية ويمكن أن يمثل "حالة للقطع" مع الأوضاع السائدة وفي ظل غياب قوى مستقلة سياسيا وتنظيميا عن الفوق السياسي الفاسد قادرة على تحويله لمشروع مقاومة ندرك من أين جاءت قوة عبير موسى ولماذا تحولت إلى قاطرة للمعارضة الرسمية التي تربط كل أزمة وفشل الانتقال الديمقراطي بحركة النهضة وتجاهر بعداءها لها وإقصائها بكل الطرق من المشهد السياسي.
ـ 4 ـ
حزب النهضة خلال التسع سنوات الماضية أضعف جميع خصومه من اللبرليين الحداثيين ولكن نجاحه في إضعاف خصوصمه لم يحوله لحزب مهيمن فهو البوم في وضع مواجهة لم يكن ينتظرها مع حزب عبير موسى وكذلك على علاقة متوترة وغير مستقرة مع رئاسة الجمهورية إضافة إلى أن جزءا من القوى اللبرالية المتذررة ستتجه لحزب عبير موسى التي لا تخفي سعيها لقيادة جبهة واسعة معادية للنهضة. إنها كلها أوضاع تجعلنا نعتقد أن حزب حركة النهضة في طريقه للتحول لحجمه الحقيقي قوة سياسية لا تختلف كثيرا عن حركة الشعب أو التيار الديمقراطي أو حزب نبيل القروي.
ـ 5 ـ
"اليسار" المكبل بالكتبية والاستمرار على نهج الأجداد الروس والصينيين الذي لم يدرك بعد التذرر الذي أصبحت عليه القوى التي يطحنها رأس المال وسقوط كثير من مقولاته تبعا لذلك وانتقال هذه القوى إلى المقاومة عبر أشكال جديدة تنظيميا وسياسيا مازال يعيد عبثا تكرار مقولاته الأولى معتقدا أنه بمقدوره النهوض وقيادة الجماهير فقط لأن النظام في قمة أزمته متناسيا أن الشرط الأول لذلك هو أن يكف هو ذاته عن أن يعيد إنتاج أزماته والنفخ في ما مات فيه والتحول من داخل الجماهير ومعها إلى قوة مقاومة مستقلة تنظيميا وسياسيا عن منظومة الانتقال الديمقراطي وكل قواها السياسية قوة تخوض الصراع لصالحها لا لصالح أعدائها الطبقيين.
إن المهمة الأولى المطروحة على هذا اليسار بجميع شقوقه من أقصاه الى أقصاه أولا وقبل كل شيء هو ضرورة إعلان موته بوجه القديم والانبعاث مجددا قوة مقاومة من داخل الأغلبية قوة منصهرة في مشروع للمقاومة مستقل يسمي الأشياء بأسمائها يطرح ودون مواربة موت القديم والبدء في التأسيس للجديد [ تنظيميا وسياسيا] مشروع الأغلبية المقاومة.
ودون ذلك سيبقى هذا اليسار يدور في حلقة مفرغة يعيد إنتاج فشله مكتفيا بدور العجلة الخامسة للبرالية يراكم أسباب اندثاره الذي لن يطول.
ـ 6 ـ
لا جديد حول المناكفات السياسية للفوق الفاسد إنها نفس الأوضاع منذ حكومة الغنوشي الأولى: صراع يعيد نفسه بين أقطاب وجدت نفسها في مأمن من مواجهة تفرض عليها التوحد نتيجة غياب مقاومة شعبية مستقلة على قاعدة مشروع تغيير جذري. الآن فقط ازداد منسوب هذه الصراعات التي ستتواصل بأكثر حدّة وهذا أمر طبيعي باعتبار أن كل طرف يبحث على الاستئثار بالسلطة والنفوذ والمشترك بينهم جميعا هو أنهم كلهم غير قادرين على معالجة أي ملف من الملفات المطروحة التي لها مساس بحياة الأغلبية.
لا ملف التشغيل ولا ملف المديونية ولا ملف القطاع العام والبنية الأساسية ولا ملفات إصلاح التعليم والمنظومة الصحية ولا ملف المحاسبة ولا ملف الفساد والتهريب والتهرب... إلخ
اليسار اللبرالي بكل مكوناته اندثر تقريبا لتفويته في الملف الاجتماعي وتخليه عن سنده الطبقي.
حركة النهضة اتساع قاعدتها وانضباطيتها التظيمية والأيديولوجية هو الذي أبقاها لحد الآن رقما في هذا الصراع وليس حزبا جماهيريا كما يعتقد البعض وهي تستثمر في "الشرعية " التي منحتها إياها انتخابات 2019 وعبرها تعمل على تمرير كل السياسات التي تدعم الطبقة التي بيدها النفوذ الاقتصادي وتفعل كل ما في وسعها لتواصل دعمها.
اليمين الحداثي اللبرالي المتذرر الذي صار بقاؤه مشروطا بإعلان عدائه لحركة النهضة في طريقة للتسليم بزعامة عبير موسى وهو وضع يؤشر لاحتداد صراع الارتباط بمحاور الهيمنة الرأسمالية بين فئات البرجوازية المحلية والذي لن يكون له من نتيجة غير مزيد إغراق الطبقات الفقيرة والخدامة والأغلبية بصفة عامة في مزيد من الاستغلال والتفقير والبؤس.
الوسطيون الإصلاحيون بما في ذلك قيس سعيد والحشد الذي يدعمه عاجزون عن تعويم الاستقطاب الثنائي التقليدي وسحب البساط منهم والبروز كقطب ثالث مؤثر لعجزهم عن الإمساك بملف من ملفات الوضع الاجتماعي ومباشرة معالجته برؤية منحازة للطبقات الفقيرة.
هذه هي صورة الوضع الراهن ولا أعتقد أن هناك وعلى المدى القريب أو المتوسط من عوامل يمكن أن تغير هذه الصورة إجمالا لكن ولئن كانت الأوضاع تبدو صورة من أوضاع 2012- 2013 إلا أنها تختلف كثيرا عما كانت عليه وقتها فأطراف المواجهة اليوم متمسكون بمقولة التغيير بالقانون والشرعية والدستور فعبير موسى نفسها تعلن ذلك وتؤكد عليه وهو وضع ستستفيد منه حركة النهضة التي من مصلحتها جر كل فرقائها لمقولة "التمسك بالشرعية" و أقصى ما يمكن أن تتنازل عنه هو أن تذعن لتنظيم انتخابات سابقة لأوانها بعد سنة ونصف أو سنتين وتأمين كل الشروط التي تجعلها تفرز قوتين كبيرتين لا أكثر يتقاسمان النفوذ سواء بالتوافق أو بقوة تحكم والثانية تعارض.

20 ديسمبر 2020



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن