ضرورة رأسمالية العصابات (نحو نفي نظرية -رأسمالية الدولة- السوفيتية)

حسين علوان حسين
hussainalwanhussain1951@yahoo.com

2020 / 12 / 18

في أطار تفنيد نظرية "رأسمالية الدولة للاتحاد السوفيتي" السخيفة التي تفشل تماماً في التفسير العلمي للكيفية التي يمكن أن تتواجد فيها الرأسمالية بدون وجود طبقة الرأسماليين المالكين لوسائل الإنتاج ، و بدون وجود آلية السوق الحرة و المنافسة ، و بدون اشتغال قانون القيمة و بالتالي فائض القيمة لتخليق رأس المال في السوق و مراكمته ، و بدون وجود الدولة الرأسمالية التي تحمي بقوانينها حقوق الرأسماليين في ملكية وسائل الانتاج و تشغيل العمالة الأجيرة لحسابهم و غرف الأرباح لأنفسهم و تعظيمها باستمرار ، أقدم هذه الترجمة للدراسة العلمية التاريخية للأستاذة نانسي هولمستروم و الأستاذ ريتشارد سميث و التي تبين الطريقة التي تم فيها تخليق الطبقة الرأسمالية من لا شيء في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (و قد حذفت الجزء الخاص بالصين). و نانسي هولمستروم هي أستاذة الفلسفة في جامعة روتجرز في نيوارك ، و المتخصصة في الفلسفة الاجتماعية ، و لا سيما في النظرية الماركسية و النسوية . و قد شاركت في تحرير كتاب " ليس للبيع : دفاعا عن السلع العامة " الصادر من دار النشر " Westview Press" عام 2000 . أما ريتشارد سميث فهو أستاذ التاريخ في جامعة روتجرز في نيو برونزويك ، و قد كتب عن التأثير الاجتماعي والبيئي للانتقال إلى الرأسمالية في الصين لمجلة "نيو ليفت ريفيو" ، و لـ "عالم البيئة" ، و لمؤسسات نشر أخرى . نشرت هذه الدراسة في مجلة "المراجعة الشهرية" (Monthly Review) الاشتراكية الأمريكية في عددها لشهر شباط ، 2000 . و سأرفد هذه الدراسة بعدئذٍ بعدد من المقالات المترجمة و المؤلفة بهذا الصدد .

التراكم البدائي في روسيا
نانسي هولمستروم و ريتشارد سميث
(01 شباط 2000)
المواضيع : النظرية الاقتصادية ، الاقتصاد السياسي
إن فضيحة غسيل الاموال للمصارف الروسية المنشورة في الصحف في الخريف الماضي ليست سوى الحلقة الأخيرة في ملحمة الفساد المستمرة الخارجة من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق . السؤال الأهم هو : من أين حصلت تلك المصارف على كل تلك الأموال في المقام الأول ؟ كيف ، على سبيل المثال ، تمكن رئيس وزراء أوكرانيا السابق من شراء قصر بسبعة ملايين دولار في مقاطعة مارين في كاليفورنيا من راتبه الرسمي البالغ بضعة آلاف من الدولارات في السنة ؟ الجواب واضح للغاية : لقد أصبح حكم العصابات في موسكو معروفًا جدًا لدرجة أن مصطلح "المافيا" قد فقد دلالاته الإيطالية الخالصة . و حال الصين ليست أفضل بكثير . فبعد عشرة سنوات من الدعوة إلى المظاهرات في ميدان "تيان آن مين" للاحتجاج على الفساد الرسمي ، لا يزال الفساد هو "الشكوى رقم 1" للصينيين اليوم ، وفقًا لآخر عنوان في صحيفة نيويورك تايمز . ولقد أعرب خبراء الاقتصاد الغربيون ، الذين كانوا المهندسين لانتقال البلدان الشيوعية السابقة إلى اقتصادات السوق ، عن صدمتهم وخيبة أملهم من مدى الفساد والإجرام والانهيار الاجتماعي الذي صاحب إصلاحات السوق التي كانوا هم من كتب وصفاتها . كما اشتكى أحد مسؤولي وزارة الخزانة الأمريكية بالقول : "كان لدينا الاعتقاد بأن الجيل الأول من الرأسماليين الروس سيكونون رفاقًا لطيفين ، لكنهم أظهروا أنهم سفلة لا يرحمون ".
سنجادل هنا بأن سبب اندهاش الاقتصاديين الغربيين من هذه النتائج إنما يعود إلى كونهم قد اعتمدوا النموذج النيوليبرالي للعالم التاريخي الخيالي للرأسمالية . و لكن كان من المفترض أن يكون ظهور رأسمالية العصابات والفساد الشامل في الكتلة السوفيتية السابقة والصين متوقعًا تمامًا لأي شخص على دراية بالأصول التاريخية لنشوء الرأسمالية في أوروبا والولايات المتحدة والأماكن الأخرى ، و لأي شخص لديه معرفة عابرة بالوصف الذي قدمه ماركس عن "التراكم البدائي". بعد مراجعتنا الموجزة لماركس حول أصول الرأسمالية ، سننظر في الفائدة الحالية لهذه النظرية في فهم ما يحدث في روسيا والصين اليوم .
قرب نهاية المجلد الأول من رأس المال ، في الفصل المعنون : "سر التراكم البدائي" ، يطرح ماركس السؤال حول كيفية بدء عملية التراكم الرأسمالي الأولي في المقام الأول . فعلى الرغم من وجود الأسواق في العصور القديمة ، إلا أن الرأسمالية كنظام إنتاجي اجتماعي لم تظهر فعلاً حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر ، في إنجلترا أولاً. هذا النظام - على العكس من جميع أنماط الإنتاج التاريخية السابقة – قام على الإنتاج المعمم للسوق ، واعتمد على هيمنة نوعين من منتجي / بائعي السلع الأساسية . فمن ناحية ، هناك طبقة الرأسماليين التي مُنحت احتكارًا فعليًا على إنتاج السلع الأساسية عبر ملكيتها لوسائل الإنتاج ؛ ومن ناحية أخرى ، هناك البروليتاريا المنزوعة الملكية التي جُردت من وسائل الإنتاج و العيش ، وبالتالي ليس لديها ما تبيعه سوى قدرتها على العمل . كان ظهور هاتين الطبقتين الاجتماعيتين الكبيرتين هو الشرط الذي لا غنى عنه لتشغيل وتطوير الإنتاج الرأسمالي . كان ماركس حريصًا على التأكيد على أن "رأس المال" ليس مجرد نقود ؛ بل هو هذه العلاقة الاجتماعية الفريدة . لذلك إذا ما أراد المرء أن يفهم أصول الرأسمالية ، فعليه أن يفهم كيف دخلت هاتان الطبقتان العظيمتان إلى المسرح التاريخي في المقام الأول. لقد اعتمد الاقتصاديون السائدون في زمن ماركس على سردية "هذا ما حصل" لوصف كيفية قيام الأشخاص الدؤوبين والأذكياء والمقتصدين بتجميع الثروة ، بينما فقد الأوغاد الآخرون الكسالى ثرواتهم . نفى ماركس هذه الأسطورة باعتبارها "طفولية شاذة" للدفاع عن الممتلكات المسروقة ، وجادل بأن التراكم البدائي ليس سوى "العملية التاريخية لفصل المنتِج عن وسائل الإنتاج" . في أوروبا المبكرة ، كان لابد من تحرير المنتجين من الروابط الإقطاعية ، ولكن كان لابد أيضًا من "تحريرهم" من حيازة أي وسيلة للعيش - الوصول إلى الأرض وأي ضمانات إقطاعية للبقاء . في إنجلترا ، شنت الدولة الرأسمالية الأولى - وهي تحالف من ملاك الأراضي والمزارعين الرأسماليين الناشئين والدولة - حملة استمرت قروناً لخصخصة المزارع والمشاعات التي كانت تشغلها تقليديًا جماعات الفلاحين. طُرد فلاحو إنجلترا قسرًا من مزارعهم من خلال سلسلة من حركات التطويق لها ابتداءً من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر ، وبالتالي أصبحوا معتمدين كليًا على السوق لتلبية احتياجاتهم . و من خلال الاستيلاء على هذه الأراضي وبالتالي ضمان الاحتكار الفعلي لوسائل الإنتاج الزراعي ، أنشأت البرجوازية الزراعية الوليدة في إنجلترا شروط التشغيل الطبيعي للإنتاج الرأسمالي ، أي للاستغلال المنهجي للعمل المأجور. وقد تم تسهيل إقامة نمط الإنتاج هذا إلى حد كبير من طرف الدولة الإنجليزية ، التي سنت قوانين قاسية ضد التشرد ("التشريع الدموي ضد فاقدي الملكية") لإجبار البروليتاريا التي لا تملك ملكية جديدة على تولي العمل المأجور في المزارع أو إجبارها على الاشتغال في ورش العمل . يلخص ماركس عملية التراكم البدائي هذه بالإشارة إلى أنه : "في التاريخ الفعلي ، من المعروف أن الغزو ، والاستعباد ، والسرقة ، والقتل ، والقمع لفترة وجيزة ، تلعب الدور الأكبر ".
نشهد اليوم عملية مماثلة في جميع أنحاء عالم ما بعد الشيوعية و التي تتم تحت شعار "إصلاح السوق". في الواقع ، ترقى هذه النسخة الحديثة من التراكم البدائي في روسيا وأوروبا الشرقية والصين إلى أكبر حركة تطويق في التاريخ تقريبًا : حملة على مستوى القارة لخصخصة الملكية الجماعية للدولة ، متجاوزة في نطاقها حركات الإغلاق التاريخية السابقة . وكما في الماضي ، تؤدي هذه العملية إلى ظهور طبقة من الرأسماليين الأثرياء حديثًا ، جنبًا إلى جنب مع تزايد ملايين العاطلين عن العمل والجوعى. و لا يمكن لأحد أن يتنبأ بالنتيجة النهائية لهذا الاندفاع من أجل إنشاء أسس الملكية الاجتماعية للرأسمالية ، ولكن المؤكد هو أن الكساد الاقتصادي والاستقطاب الاجتماعي والفساد والصراع الطبقي سوف يتفاقم . اليوم ، كما في الأمس ، فإن عملية التراكم البدائي ليست جميلة .
بدأ انحدار روسيا إلى رأسمالية العصابات في أوائل التسعينيات عندما حاول إصلاحيو السوق الروس إدخال الرأسمالية بضربة واحدة - بناءً على نصيحة المستشارين الغربيين ، ولا سيما "المعالج بالصدمات" بجامعة هارفارد ، البروفيسور جيفري ساكس ومحرضوه الرأسماليون في معهد هارفارد للتنمية الدولية (HIID) . في عامي 1990 و 1991 ، مع توقف برنامج الإصلاح الخاص بغورباتشوف و انهيار حكومته ، نصح ساكس و زملاؤه في المعهد إيجور غايدار ، أول قيصر اقتصادي ليلتسين ، بتفكيك معظم الضوابط و الإعانات التي نظمت الحياة للمواطنين السوفييت في معظم دول الاتحاد خلال معظم القرن العشرين . تنبأ ساكس بانتقال سلس إلى حد ما إلى الرأسمالية على النمط الغربي الطبيعي ، بمجرد انتهاء الصدمة الأولية لإزالة السيطرة على الأسعار. في أوائل التسعينيات ، تفاخر الدكتور ساكس بسرعة نجاعة وصفته للعلاج بالصدمة التي وضعها لبوليفيا في تسعة أيام . و مع أنه قد سمح بأن يستغرق إصلاح أوروبا الشرقية و روسيا وقتاً أطول ، و لكن اعتقاد ساكس هذا يبين أنه ، مثل معظم الاقتصاديين العاديين ، ليس لديه الفهم التاريخي تمامًا للاقتصاد. يعتقد ساكس ، مثل آدم سميث ، بأن "الميل نحو النقل و المقايضة" منبني في الطبيعة البشرية . و لهذا ، فقد افترض أن الانتقال إلى الرأسمالية سيكون عملية اقتصادية تلقائية تقريبًا : ابدأ بالتخلي عن تخطيط الدولة ، و بتحرير الأسعار ، و تعزيز المنافسة الخاصة مع الصناعة المملوكة للدولة ، و بيع صناعة الدولة بأسرع ما يمكن – و سيأتيك النمو الاقتصادي الذي سوف يتبعه الازدهار مثلما كتب عام 1990 :
"كل هذا [العلاج بالصدمة] سيخفض الأجور الحقيقية بشكل حاد في عام 1990 ، بنسبة 20% أو نحو ذلك مقارنة بعام 1989. هذه خطوة شجاعة . لكن هذا الانخفاض لن يعني انخفاضًا مكافئًا في مستويات المعيشة الفعلية . هذه في الواقع ستنخفض بشكل أقل حدة بكثير ، مدعومة بنهاية النقص في السلع و انتهاء "ضريبة التضخم" التي تقضي الآن على الأرصدة النقدية للأسر ، و هي مكاسب حقيقية لا تنعكس في مؤشرات الأجور الحقيقية ."
وشدد ساكس على أن الشيء الحاسم هو عدم إضاعة الوقت بأتباع أنصاف الحلول أو "الطرق الثالثة" الميؤوس منها مثل "اشتراكية السوق الوهمية" ، بل بفرض الانتقال إلى اقتصاد السوق على النمط الغربي بأسرع ما يمكن . لذا ، لم يبدد غيدار و خليفته - أناتولي تشوبايس - أي وقت ، بل مشوا على "طوال الطريق" . تعرضت روسيا للصدمة في 2 كانون الثاني 1992 عندما تم رفع ضوابط الأسعار على 90 بالمائة من السلع المتداولة ، و بحلول نهاية عام 1994 ، تمت خصخصة ثلاثة أرباع المؤسسات الصناعية الروسية المتوسطة و الكبيرة الحجم - "بيعت" (سرقت ، سيكون الوصف الأكثر دقة) للإدارة ، و لعصابات العالم السفلي و ما شابه – و اصبح القطاع الخاص هو المنتج لـ 62 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا المعلن رسميًا.
إلغاء حداثة روسيا
كانت النتيجة كارثة حقيقية . في العام الأول من "الإصلاح" ، انهار الناتج الصناعي بنسبة 26 بالمائة . و بين عامي 1992 و 1995 ، انخفض الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 42 بالمائة ، وانخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 46 بالمائة - وهو أسوأ بكثير من انكماش الاقتصاد الأمريكي خلال فترة الكساد الكبير . الأسوأ من ذلك ، فإن معادلة الدكتور ساكس لم تتحقق غلى أرض الواقع ، و لم يتعافى الاقتصاد الروسي بعد. منذ عام 1989 ، انخفض حجم الاقتصاد الروسي إلى النصف ، و لا يزال انخفاضه مستمراً . و انخفضت الدخول الحقيقية بنسبة 40 بالمائة منذ عام 1991 ؛ و بات 80 بالمائة من الروس ليست لديهم مدخرات الآن . و توقفت الحكومة الروسية ، التي أفلست بسبب انهيار النشاط الاقتصادي ، عن دفع رواتب ملايين الموظفين والمتقاعدين . و ارتفعت معدلات البطالة ، لا سيما بين النساء. و بحلول منتصف وأواخر التسعينيات ، كان أكثر من أربعة وأربعين مليونًا من سكان روسيا البالغ عددهم 148 مليونًا يعيشون في حالة الفقر (اي أنهم يعيشون على أقل من اثنين وثلاثين دولارًا في الشهر) ؛ و ثلاثة أرباع السكان يعيشون على أقل من مائة دولار في الشهر . و تضاعفت حالات الانتحار ، كما تضاعفت الوفيات الناجمة عن تعاطي الكحول ثلاث مرات في منتصف التسعينيات. و وصلت وفيات الرضع إلى مستوياتها في بلدان العالم الثالث بينما انخفض معدل المواليد . و بعد خمس سنوات من الإصلاح ، انخفض متوسط العمر المتوقع بعامين (إلى اثنين وسبعين سنة) للنساء وبأربع سنوات (إلى ثمانية و خمسين سنة) للرجال - أقل من نسبتها قبل قرن مضى بالنسبة للمعدل الأخير . و في الوقت الحالي ، تتجاوز معدلات الوفيات نسبة المواليد بشكل كبير لدرجة أن عدد السكان الروس ينخفض بنحو مليون نسمة سنويًا . إذا ما استمرت هذه الاتجاهات على حالها ، فمن المتوقع أن ينخفض عدد سكان روسيا خلال الثلاثين عامًا القادمة من 147 مليونًا إلى 123 مليونًا - وهو انهيار ديموغرافي لم نشهده منذ الحرب العالمية الثانية .
كما أدى "الإصلاح الاقتصادي" إلى الهجر الجماعي للأطفال . فبحلول نهاية عام 1998 ، أصبح ما لا يقل عن مليوني طفل أيتامًا - أكثر مما كان عليه الحال في نهاية الحرب العالمية الثانية - ويعيش حوالي 650 ألفًا منهم فقط في دور الأيتام ؛ البقية كانوا بلا مأوى. و بعد مرور عام على مغادرة دور الأيتام ، يصبح واحد من كل ثلاثة من هؤلاء مدمنًا على الكحول ، وينتحر واحد من كل عشرة . و فيما كان ذات يوم هو القوة الصناعية الثانية في العالم - حيث كان عدد العلماء والمهندسين المتخرجين سنوياً أكبر بكثير من الولايات المتحدة – فإن عشرة ملايين طفل لا يذهبون إلى المدرسة حاليًا. هذه هي الكارثة الإنسانية - التي يسميها الاقتصاديون السائدون "مطبات على الطريق إلى اقتصاد السوق" - لخصها بشكل أكثر دقة البروفيسور ستيفن كوهين من جامعة نيويورك على أنها "الانهيار اللانهائي لكل شيء أساسي لوجود لائق". إنها أيضًا عملية إنشاء بروليتاريا روسية حقيقية . في ظل الشيوعية ، لم يكن العمال الروس يمتلكون بالتأكيد وسائل الإنتاج ، لكنهم كانوا يمتلكون ، ولا يزال الكثير منهم يمتلكون وظائفهم بالمعنى الحقيقي . و لديهم حقوق راسخة في السكن ، والرعاية الطبية التي تقدمها الدولة ، ورعاية الأطفال ، والعديد من الإعانات من الدولة . كل حقوق الملكية الاجتماعية هذه تم تدميرها في عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق "العادي". بعد تجريدهم أو "تحريرهم" من السيطرة أو حيازة أو ملكية وسائل الإنتاج ، يضطر غالبية سكان الاتحاد السوفيتي السابق إلى المجيء إلى السوق ، على حد تعبير ماركس ، "و لا شيء لديهم للبيع سوى جلودهم". و على الرغم من أنه ربما كان أكثر مما ساوموا عليه ، يصر مهندسو التحول على أن درجة معينة من الألم كانت أمراً لا مفر منه ، على الأقل على المدى القصير ، من أجل منح رواد الأعمال "الروس الجدد" لساكس حرية إعادة تشكيل الاقتصاد ، وبالتالي انفتاح الطريق إلى رخاء أكبر للجميع . دعونا ننتقل الآن إلى رواد الأعمال الجدد ، إلى الطبقة الكبرى الأخرى من الرأسمالية .
من المؤكد أن إصلاحات ساكس قد منحت رواد الأعمال "الروس الجدد" الحرية التي يريدون . ولكن بدلاً من الاستثمار في ترشيد الاقتصاد على أسس رأسمالية ، انغمست البورجوازية الروسية الجديدة في حرب جهنمية مجانية بين الجميع من أجل "الاستحواذ" – في الصراع الوحشي البيني لسرقة كل ما يمكنهم الحصول عليه. لقد نهبوا ثروة الأمة من الموارد الطبيعية ، وباعوا الذهب المملوك للدولة ، والالماس ، والنفط ، والغاز ، وغابات سيبيريا ، وحتى البلوتونيوم ، وأفرغوها في الغرب لتكديس ثرواتهم الخاصة. و مثلما رأينا في فضائح غسيل الأموال في الآونة الأخيرة ، فقد قاموا أيضًا بخصخصة مليارات الدولارات من المساعدات الغربية .
و بدلاً من تشغيل ثرواتهم المسروقة في استثمارات تعزز الإنتاجية ، مثلما كان يأمل الإصلاحيون المؤمنون بساكس ، فقد قاموا ، في الغالب ، بإيداع منهوباتهم في حسابات مصرفية غربية سرية أو قاموا بتبديدها على شراء اليخوت والفيلات في الريفيرا الفرنسية . و بحلول منتصف التسعينيات ، كانت البرجوازية الروسية قد خبأت أكثر من 150 مليار دولار في حسابات مصرفية و استثمارات و ممتلكات أجنبية. في المنزل ، "استثمروا" في الفراء و سيارات الليموزين و اقتناء وسائل المعيشة النفيسة . و قد استأجروا جيوشًا خاصة من البلطجية للدفاع عن ثرواتهم و ممتلكاتهم المسروقة (من بعضهم البعض). لكن هذا فقط ، كما اعترفت "الإيكونومست" الثاتشرية بصراحة ، ما كان ليحصل لولا المصادقة على "شرعية" هذه الممتلكات المسروقة من قبل الحكومات الممتثلة - مثل الحكومات التي شرعت قبلئذٍ للمزارع المطوقة في إنجلترا أو الاستيلاء على الأراضي الشاسعة في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر .
...
الاستنتاجات
تتطلب الرأسمالية طبقة من الرأسماليين مع طبقة من البروليتاريين . هاتان الطبقتان لا تظهران بشكل طبيعي وعفوي. إذ يتضح من الانتقال الأول للرأسمالية من الإقطاع ، و من مراقبة التحولات السريعة في دول الكتلة السوفيتية السابقة خلال العشرين عامًا الماضية ، أن إثراء القلة وإفقار الغالبية هو حتما عملية وحشية و فاسدة . العجب لا يكمن في كون إدخال الرأسمالية هو المسؤول عن هذه الكوارث ، ولكن العجب هو في كيف أن "خبراء" الاقتصاد الغربيين اللامعين الذين كانوا مهندسي التحول هذا قد توقعوا أي شيء آخر جراءه .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن