تونس: عشر سنوات على 17 ديسمبر: بعض استنتاجات للمعنيين. (الجزء الثاني)

بشير الحامدي
bechir44n@gmail.com

2020 / 12 / 6

ـ 6 ـ
في 2011 و إلى ما قبل أكتوبر كان ميزان القوى يكاد يكون لصالح قوى 17 ديسمبر من حيث القدرة على التعبئة والتثوير وعلى قلب الأمور جميعا ولكن للأسف لا أحد كان يعي أن أي تراجع سيكون نقطة اللاعودة بالنسبة لتجذير المسار الثوري.
وتواصل المسار ولكن متعثرا غامضا مرتبكا مفرغا من كل محتوى مؤسس.
وقتها لم يكن أحد يتكلم عن سيادة الأغلبية على القرار والثروة كان الكل يبحث في حركة غبية جدا عن سيادة حزبه أو مجموعته.
وبقدر ما كان مسار 17 ديسمبر مسارا من خارج التنظيمات الحزبية الهرمية البيروقراطية ومن خارج المدارس الأيديولوجية كلها لا إسلام ولا ماركسية ولا قومية بقدر ما ارتكس إلى مسار تهيمن عليه هذه المدارس وتوظفه وتستمد شرعيتها من شرعيته.
توقف مسار 17 لأنه لم يتطور في اتجاه يؤسس لسيادة الأغلبية على القرار وسيادتها على الثروة ...
لقد ارتكس لأن الجميع انقلبوا عليه.
قد نفهم انقلاب الأقلية المافيوزية الوكيلة المرتبطة بالقوى الاستعمارية على المسار الثوري ولكن فهم كيف انقلب عليه حتى أغلب الفاعلين فيه فذلك ما يتطلب كثيرا من الجهد والشجاعة السياسية.
أغلب الفاعلين في 17 ديسمبر انكفؤوا بعد القصبة 1 والقصبة 2 وتوقفوا عن الفعل من أجل الحركة ككل والتي كانت تحتاج نشاطهم الواعي لرسم استقلاليتها التنظيمية والسياسية عن النظام ومؤسساته إلى الفعل من أجل بناء أحزابهم الصغيرة ومجموعاتهم القزمية وهو أمر ضرب الحركة في مقتل حيث حكم ذلك التوجه بالموت المؤجل على المولود الجديد الذي مازال يصارع من أجل الحياة في الحركة .
ـ 7 ـ
17 ديسمبر فوّت لحظة تاريخية وهي فرض الاستقلالية التنظيمية والسياسية لجماهير الأغلبية عن النظام وبذلك سلم فاعلوه الحركة لأعدائها وللمتآمرين عليها ولكل الذين يدعون تمثيلها أي لقوى الثورة المضادة أي لقوى الانقلاب الديمقراطي.
قوى الانقلاب الديمقراطي ليست فقط القوى التي في السلطة إنها أيضا تلك التي في ما يسمى بالمعارضة .
إنها كل القوى التي استبدلت استقلالية الحركة بالادعاء بتمثيل الحركة في مؤسسات النظام.
إنها كل القوى التي عارضت وأحبطت كل إمكانيات الانتظام المستقل للحركة لصالح بعض الانتظامات الحزبية والجمعياتية بوهم أنه لا يجب القفز عن مرحلة الحريات الديمقراطية.
إنها كل القوى التي خيرت التواجد في مؤسسات النظام على دفع الأغلبية لتأسيس هيئات قرارها المستقل على أنقاض مؤسسات النظام.
إنها أخيرا كل القوى التي تبنت سياسات الانتقال الديمقراطي أي تلك القوى التي تبنت مفهوم الدولة المدنية ومفهوم الاحتكام للدستور ومفهوم الديمقراطية التمثيلية ومفهوم الوصول للسلطة عبر الانتخابات.
ولأن الفاعلين في الحركة وقع احتواء نسبة كبيرة منهم داخل الأحزاب والجمعيات التي لا يتعدى سقف مشروعها السياسي سقف مشروع الانتقال الديمقراطي رأينا ضمورا في التحركات وانخراما في ميزان القوى بين الحركة الجماهيرية وقوى الثورة المضادة وغيابا كليا لأي قدرة على المراكمة في اتجاه استقلالية الأغلبية ضاعف منه العجز الذي عليه الخدامة والبطالة والشبيبة وعدم قدرتهم على فرض انتظاميات مستقلة وسياسات راديكالية ومستقلة.
ـ 8 ـ
الاستقلال التنظيمي والسياسي للأغلبية التي لا تملك كان هذا ما يخيف قوى الانقلاب و لأنها تعرف القوة التي يمكن أن تصبح عليها الأغلبية ـ أي أكثر من أربعة أخماس السكان ـ حين تفرض استقلالها التنظيمي وسياساتها المستقلة وتقاوم من موقع طبقي فقد قامت بكل ما في وسعها لكسر هذا المسار و إخفاقه واستعملت كل أساليب المناورة والقمع للنجاح في ذلك وهو ما ولّد وضع انخرام في موازين القوى بين القوى المنقلبة التي بيدها كل السلط والحركة الجماهيرية.
وضع انخرام ميزان القوى هذا لم يأت من فراغ بل إنه كان نتيجة العجز الذي بانت عليه حركة جماهيرية لم تتمكن من التطور في اتجاه تحقيق استقلالها التنظيمي والسياسي عن النظام و أجهزته.
ورغم كل ذلك فلا شيء في الواقع يجعلنا نسلم بأن كل شيء قد حسم بشكل نهائي و أن السيرورة توقفت ولأن قوى الانقلاب تدرك جيدا هذه الحقيقة فهي تعمل على استثمار وضع ضعف الحركة هذا إلى أقصى حد لتمرير ما تريد تمريره من سياسات وقوانين ومساومات و آخرها الإجراءات الأخيرة التي انطلق الحكومة في تطبيقها في مواجهة انتظاميات المواطنين وبداية تجدد الاحتجاجات بعد الاتفاق مع تنسيقية الكامور.
ـ 9 ـ
ليلة 14 جانفي 2011 رأينا الفاسد الكبير عبد السلام جراد على شاشة إعلام السابع من نوفمبر الكريه يحاول أن يصلح كرسي الديكتاتور الذي بدأ يتهاوى. وبعد تهريب الديكتاتور كانت قيادة الاتحاد البيروقراطية السند الذي اتكأت عليه عصابة الانقلاب وقبلت أن تكون شريكة في حكومة الغنوشي الأولى والثانية كما كانت مكونا أساسيا إلى جانب اليسار اللبرالي في هيئة بن عاشور[الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي[ وسندا لحكومة الباجي قايد السبسي التي نظمت انتخابات 2011 التي جاءت بحكومة الترويكا وبالمرزوقي وبما سمي بالمجلس التأسيسي الذي جاء بما سمّى بدستور الثورة الذي صاغته الكتلتان الأغلبيتان في هذا المجلس كتلة الخوانجية وكتلة بقايا عصابة بن علي والمتحالفين معها والتي سينبثق عنها فيما بعد حزب نداء تونس الذي جمع داخله مافيات الفساد السياسي والاقتصادي المنحدرين من الطبقة الفاسدة التي تربت في التجمع الدستوري الديمقراطي وحظيت بحماية ودعم العائلتين الفاسدتين الأكبر في تاريخ تونس بعد الوزير الفاسد مصطفى خزندارفي القرن التاسع عشر عائلة الطرابلسية وعائلة بن علي.
قيادة الاتحاد واصلت دعمها لسياسات العصابة المنقلبة على مهام 17 ديسمبر ومن موقع المساند والداعم تحولت البيروقراطية النقابية إلى موقع الشريك الذي لابد منه لسياسات الانتقال الديمقراطي بل المنقذ لمسار الانقلاب وعولت عليها العصابة المنقلبة لكبح كل إمكانية لتجذر مسار النضالات الاجتماعية وانخرطت هذه القيادة في سمي وقتها بالحوار الوطني والذي لم يكن أكثر من تمهيد الطريق ليتقاسم حزب النهضة السلطة مع نداء تونس. وقد لعب حسين العباسي الأمين العام للاتحاد هذا الدور على أحسن وجه ليواصل منذ المؤتمر الفارط في جانفي 2017 وريثه نور الدين الطبوبي في نفس السياسة.
وبرغم أن الأوضاع تغيرت كثيرا عما كانت عليه قبل ثلاث سنوات إلا أن بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل بقيت متشبثة بنفس المعالجات ولم تستخلص الدروس من الفشل الذي قادت إليه استراتيجياتها العامة للفعل النقابي التي تبنتها ونفذتها في العشر سنوات الأخيرة ومأزقها اليوم أنها أصبحت تواجه من جهة حركة اجتماعية تتجاوزها بارتباط هذه الحركة بفاعليها وبحقوقهم قطاعيا ومحليا وبنبذها لهذه البيروقراطية وإعلان عدم ثقتها بها وعدم تمثيلها أو التفاوض باسمها حتى ولو أن هذا المسار في بدايته والشواهد على ذلك عديدة ومن جهة أخرى طبقة مهيمنة بدأت تتخلى عن اعتبار هذه البيروقراطية شريكا يعتمد عليه كما في السابق وسيطا بينها وبين الحركة الاجتماعية والشغالين بصفة عامة. مأزق البيروقراطية النقابية هذا لم يأت من فراغ إنه نتيجة حتمية تراكمت عبر السنوات ونتجت عن ارتباط هذه البيروقراطية بسياسات الفوق الفاسد وتخليها عن مطالب الأغلبية التي كثيرا ما وقفت ضدها وعادتها وأجرت الاتفاقات المذلة الهزيلة باسمها. مثل هذا الكلام قلناه سابقا بإعلاننا أكثر من مرة [(في 2016 مثلا)...الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم ليس أكثر من جهاز ضبط وترويض لتمرير سياسات الانتقال الديمقراطي. لقد سقطت كل الاستراتيجيات التي ترى في الاتحاد هيئة يمكن أن تستقل عن الدولة أو يمكن أن تدفع في اتجاه التغيير الجذري أو تساهم فيه من موقع متقدم. الاتحاد لم يعد اتحاد 1978 اتحاد الإضراب العام لقد تغيرت قياداته وباعت كل شيء ارتبطت بالأعراف والدولة ... لقد تغير كل شيء في الاتحاد العام التونسي للشغل منذ 2010 وتوضح ذلك اليوم بشكل لا لبس فيه وهو ما يجعل مسألة استقلال منتسبي هذه المنظمة التنظيمي والسياسي مطروح عليهم بشدة كما الاستقلال عن البيروقراطيات جميعا . لقد صار الوضع مهيئا لظهور حركات مقاومة من خارج هذه الأطر البيروقراطية وسيتعزز هذا الميل أكثر فأكثر في المستقبل . قد تكون الأوضاع تتقدم في اتجاه افراز هذه الحركات على المدى المتوسط فاليأس من الأحزاب والنقابات وسياسات الانتقال الديمقراطي سيقود طيفا واسعا من الجماهير التي في قاع السلم الطبقي مع فئات واسعة من المنتجين والشغالين الذين ستتدهور أوضاعهم أكثر فأكثر في الأشهر والسنوات القادمة إلى الاستقلال عن بيروقراطيات النظام التي في السلطة والتي في المعارضة والمقاومة من موقع مستقل. هذا هو الطريق الذي سيفرضه فشل كل سياسات الانتقال الديمقراطي الطريق الذي عبره ستعود الأغلبية إلى المقاومة على القاعدة الطبقية مستقلة تنظيميا وسياسيا عن النظام وأجهزته... المعركة طبقية وسوف لن تبقى إلى ما لا نهاية مموهة ... سيفضى فشل السياسات الحالية إلى موجة جديدة من المعارك ...والأوضاع في تونس ليست بعيدة عما كانت عليه الأوضاع قبل سنوات في اليونان وهي تنضج في ذلك الاتجاه ولكن المؤكد أن المآلات لن تكون هي نفسها وخبرة السنوات من 2010 إلى هناك لن تكون غائبة أيضا."]
ـ 10 ـ
بعض الأسئلة أوجهها إلى بعض الذين لم يصمدوا أمام ماكينة الانقلاب على 17 ديسمبر وانجروا إلى الاصطفاف وكانوا وقودا في حملات مسرحية الانتخابات الأولى والثانية وكومبارس في ما سمي بسياسات الانتقال الديمقراطي.
أسئلتي موجهة إلى الأصدقاء والرفاق و الأصحاب الذين خلخلهم القصف المركز المخطط للمافيا السياسية حراس "السيسيتام" فسقطوا هنا وهناك ولم يصمدوا على استقلاليتهم ورأيناهم هنا وهناك جنودا في معارك لا مصلحة لهم فيها ولا مصلحة للأغلبية منها بوهم دفع التناقضات بين أجهزة النظام وتغذيتها أو الدفع لفصل جهاز من منظومة النظام عن المنظومة ككل أو لحراسة الحريات وما إلى ذلك من الأوهام.
أسئلتي موجهة كذلك للذين وبمنطق ما جرتهم قياداتهم البيروقراطية الحزبية أو النقابية أو الجمعياتية إلى الانخراط في مشروع الانقلاب والتخلي عن مشروع المقاومة واستبداله بالتوافقات الفوقية وبالانتخابات والتي بينت أنها شرعت لتركيز السلطة والقرار بيد ممثلي طبقة رثة عميلة محروسة بمافيا السلاح في جهازي الجيش والبوليس .
أسئلتي هي:
ماذا بعد ؟
عما تدافعون اليوم ؟
هل مازلتم تتشبثون بمسارات الانقلاب وقد انتهت إلى ما انتهت إليه.
هل تقدرون حجم المسؤولية التي تعود إليكم في الاطاحة بالمسار الثوري؟
ألا يدفع كل هذا المخلصين منكم إلى مراجعة مواقفهم ومواقعهم وإنهاء كل اصطفاف وكل ارتباط والاستقلال عن منظومة الانتقال الديمقراطي حكومة ومعارضة والانخراط في بلورة مشروع مقاوم من أجل إدارة المعركة ضد الديكتاتورية المنقلبة على مسار 17 ديسمبر مع من بقي يقاوم ؟
أسئلتي تستمد مشروعيتها من اعتقادي أن لا شيء تغير في الجوهر بعد 10سنوات من 17 ديسمبر وقد عدنا مجددا إلى مربع البداية: المعركة الطبقية ـ الأغلبية التي لا تملك ضد الأقلية المنقلبة طغمة الاستبداد والفساد مافيا المال والسلاح والإعلام ـ وأننا مازلنا مطالبين مع الأغلبية ومن داخلها بالاستقلال تنظيميا وسياسيا عن النظام وأجهزته والمقاومة من أجل إسقاطه وفرض سيادة الأغلبية على قرارها وعلى الموارد والثروات والتخطيط ووسائل الانتاج ووو.
ـ 11 ـ
دون نشوء مقاومة مستقلة من داخل الأغلبية التي لا تملك مؤسسة في نفس الوقت على موقف جذري من حركة النهضة ومن التجمع العائد عبر حزب عبير موسى تقطع في نفس الوقت مع الفكرة المتهافتة حول السياسة باعتبارها عملية انتخابية للهيمنة على مؤسسات النظام لمواصلة نفس الاختيارات السياسية لنظامي الديكتاتوريين بورقيبة وبن علي ومع فكرة الحرية والديمقراطية باعتبارهما عملية سياسية فوقية حدودها الحريات السياسية. مقاومة تعيد فكرة الثورة الاجتماعية والتغيير الجذري إلى جدول أعمال الأغلبية عبر مهام مكثفة في مقولات السيادة على القرار والسيادة على الثروات والموارد ووسائل الإنتاج والمحاسبة ستبقى الأوضاع تراوح مكانها وتعيد في كل مرة إنتاج نفس الأزمات التي نعرف منذ أكتوبر 2011.
إنه وضع لا إمكانية للخروج منه دون استقلالية تنظيمية وسياسية للأغلبية ولن يكون ذلك ممكنا دون العودة إلى استئناف مهام 17 ديسمبر فوحده ذلك ينهي الاستقطابات الفوقية الزائفة ويعيد الصراع إلى قاعدته الطبقية التي انحرف عنها بين الأغلبية التي لا تملك من جهة وبين النظام ممثلا اليوم في لصوص الانتقال الديمقراطي وكل قوى الانتقال الديمقراطي وعلى رأسها حركة النهضة وحزب عبير موسى.
ـــــــــــــــــــــ
06 ديسمبر 2020



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن