كورونا زمن الإستبداد

أيوب برجال

2020 / 11 / 20

تحمل الذاكرة البشرية ذكريات أليمة لأوبئة عديدة ومتعددة، خلفت الملايين من الضحايا وأثار وخيمة على البنية الاقتصادية والاجتماعية ، فمن طواعين القرن 18 و19 الى الإنفلوانزا الاسبانية سنة 1918 الى جنون البقر سنة 1996 وانفلوانزا الطيور 1997، ومع بداية الألفية اكتسح فيروس السارز "sars » اسيا الوسطى ثم انفلوانزا الخنازير سنة 2009 ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية « mers » سنة 2012 ثم إيبولا سنة 2013 وصولا الى وباء كوفيد 19 الحالي، فالأوبئة كانت ولازالت تشكل نقطة قسوة الطبيعة على الإنسان المستهتر بالبيئة و قوانينها، ودليلا على هشاشة النسيج المجتمعي وعدم قدرة البشرية على احتواء قوى الطبيعة والتحكم بها، كما تؤكد شراسة فيروسات القرن الحادي والعشرين على مدى فشل وإفلاس السياسات العامة للرأسمالية المتوحشة لما أثبتته من هشاشة للنظام الإجتماعي، الذي يظل مرهونا بواقع النظام العالمي الجديد، ورغم ما برز من طروحات حول نهاية التاريخ منذ مطلع الألفية الثانية، وانتصار الرأسمالية ومجتمع الرفاهية وحرية الإنسان وإخضاع الطبيعة،ومجموعة من الخطابات حول اللا مبالاة ومسؤولية الفرد الذاتية في فقره، حيث ان المشروع الفكري الثقافي للرأسمالية العولمية هو إقناع الناس بأن يستهلكوا أكثر من حاجاتهم البيولوجية الطبيعية ليساهموا في استمرار عملية تراكم رأس المال، بغاية الربح الخاص وبكلمات أخرى للتأكد من أن النظام الرأسمالي العالمي مستمر للأبد.
إلا أن هذا الحدث المفاجئ –جائحة كورونا- جعل الكثير من الباحثين يعيدون النظر في هذه الأفكار على ضوء المعطيات الجديدة والمتغيرة باستمرار، اذ أصبح من الواضح أن النظام الرأسمالي بكل ما يميزه في الفترة الراهنة من تمركز للإنتاج عبر المشاريع الاقتصادية الكبرى والتحول في دور البنوك الى الاستثمار ،وما يعرفه العالم من تصدير للرأسمال، يعزز الفوارق الطبقية داخل المجتمعات ويعزز الفارق بين دول الشمال ودول الجنوب، فعندما كتب كارل ماركس مؤلفه رأس المال كانت المزاحمة الحرة تبدو قانونا طبيعيا نتيجة فكرة دعه يعمل دعه يسير، في نظر الأكثرية الكبرى من الاقتصاديين، وقد حاول العلم الرسمي حينها أن يقتل عن طريق مؤامرة الصمت مؤلف ماركس الذي يبرهن بتحليله النظري والتاريخي للرأسمالية على أن المزاحمة الحرة تولد تمركز الإنتاج، وعلى أن هذا التمركز يؤدي إلى الاحتكار، ورغم أن الإنتاج يغدو في صورته الأولى اجتماعيا، إلا أن التملك يبقى خاضعا للفردانية، وتظل وسائل الإنتاج الاجتماعية ملكا خاصا لعدد ضئيل من الأفراد، ويبقى الإطار العام للمزاحمة الحرة معترف به شكليا، ويغدو ظلم حفنة الاحتكاريين لبقية السكان أثقل وأشد.
ما جعل النظام الرأسمالي عبر تاريخه يعرف رجات متعددة تفقده السيطرة على وضعية الاستقرار والاستمرار في نفس النهج الذي يسير عليه ويدافع بكل قوة على مرتكزاته، حيث تصبح معه السلطة متمركزة خارج الدول والبرلمانات ومرتبطة بسلاسل الديون التي تقدمها المؤسسات المالية العالمية ( البنك الدولي،صندوق النقد الدولي، المنظمة العالمية للتجارة...) وما يرافقها من إملاءات اقتصادية وسياسية تجعل من التنمية فعلا مستبعدا عن الشعوب، فتنتقل بذالك الدولة من طابع الرعاية إلى طابع الجباية ومراقبة المسار اليومي للحياة الاجتماعية والثروات الاقتصادية، مما يؤدي بشكل مباشر إلى تعزيز دور التسليح والمؤسسات العسكرية على حساب مؤسسات الخدمة الاجتماعية ( الصحة، التعليم، الوظيفة العمومية...).
تحضر هنا ظاهرة التبعية التي تعتبر حسب عبد الجليل حليم مفسرة للتخلف من وجهة نظر تاريخية كونها نتيجة لانتشار الرأسمالية على الصعيد العالمي ،إذ أن انتشار الرأسمالية وتطورها كما أشرنا سابقا كان له أثار على البلدان الغير الرأسمالية و أصبح من الضروري أن تكون المناطق المحيطة بالمركز جزء من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة على الصعيد العالمي.
وعليه لا يجب أن نتناول موضوع جائحة كورونا من منطلق أحادي الجانب يجعل منها رهينة الحقل الطبي والبيولوجي،بل يجب أن ينظر إليها كمرآة عاكسة لأزمة الحداثة الغربية التي أتت بمنظومة تفكير، شكلت لاحقا عولمة أساءت إلى الإنسان اجتماعيا وحضاريا وإلى المحيط الحيوي من منظور إنساني وبيئي، مما شكل تناقضا صارخا مع السعادة، ويتطلب منظومة بديلة نجهل مدى قدرتها على البروز وهي المنظومة التي لا نعرف مدى إمكانية ظهورها ولو في كنف الألم والفوضى والرفض والمقاومة نتيجة تجذر البنيات والذهنيات التي قامت عليها تاريخيا وشعوريا ولا شعوريا، كما أشار إلى ذلك إدغار موران في كتابه "changeons de voie les leçons du coronavirus" ، الصادر مؤخرا(2020 )، وبالتحديد وجب أن نساءل التصور الاقتصادي الذي يفردن كل شئ يفردن الإنتاج مثلما يفردن القضاء أو الصحة يفردن النفقات مثلما يفردن الأرباح، وينسى أن الفعالية التي يعطي لها تعريفا ضيقا ومجردا عبر مطابقتها ضمنيا مع المردودية المالية رهينة بطبيعة الحال بالغايات التي تقاس عليها، إنها مردودية مالية بالنسبة لأصحاب الأسهم والمستثمرين حيث إرضاء الزيناء والمستهلكين أو إرضاء بشكل كبير المنتجين والمستهلكين، إنه إرضاء يطال تدريجيا عددا كبيرا منهم .
ولم يخرج المغرب هو الأخر عن هذا السياق العام بل عمل على تكريس المزيد من السياسات التبعية الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية عبر تنزيل مجموعة من القوانين الهادفة إلى خوصصة القطاعات الحيوية المتعلقة بالخدمات الاجتماعية، حيث سيدخل المغرب نمطا جديدا في علاقته مع المؤسسات المالية العالمية يميزه الخضوع الشبه كلي لتوجهاتها ونصائحها والتي كانت تسير في اتجاه تشجيع القطاع الخاص وتقليص مساهمة الدولة تحت ما يسمى بالإصلاح وإصلاح الإصلاح، هكذا سيعمل المغرب بكل جهد وبتوجيه من المنظمات المالية العالمية على خوصصة قطاع الصحة، و تسليع الخدمات الصحية وإخضاعها لمنطق السوق الحرة، ولم تمضي سوى عقود قليلة ليجد المغرب نفسه مع نهاية سنة 2019 عاجزا عن حماية مواطنيه أمام هذا الوباء اللامرئي الذي عرى عن هشاشة نظامه الاستشفائي، سواء على مستوى الموارد البشرية أو التجهيزات الطبية، حيث لم تتعدى حصة المؤسسات الاجتماعية العمومية( بما فيها الصحة والتعليم)، سنة 2017 مثلا من الميزانية العامة لقانون المالية نسبة 0,1 بالمائة،وفي سنة 2019 لم تتجاوز نسبة ميزانية قطاع الصحة من الميزانية العامة للدولة 6.55 بالمئة، في حين لم تعرف إلا ارتفاعا ضعيفا سنة 2020 حيث لم تتخطى حاجز 7.27 بالمئة، حسب ما أقرت به وزارة الاقتصاد والمالية و مجلس النواب عبر مواقهم الرسمية .
هذه السياسات الخارجة عن منطق دولة الرعاية تتفاقم معها الفوارق الاجتماعية بين الطبقات والفئات المختلفة داخل المجتمع المغربي و تجعله يعيش على وقع تناقضاته الداخلية التي تنفجر كل يوم على شكل حركات احتجاجية ( انتفاضة 20 فبراير 2011، احتجاجات الأساتذة والأطباء والمحامون، انتفاضة الريف وجرادة ...)،وظواهر معتلة تنتشر وتستمر بالمجتمع بحكم العادة العمياء كما أنها لا توجد بالصورة الصحيحة التي يجب أن تكون عليها وهي عديدة كالدعارة والجريمة والإرهاب والتسول...، هذا التركيب الطبقي العام ينتج عنه بشكل جدلي تركيب على مستوى ممارسات واستراتيجيات الأفراد والجماعات وتباينا في التمثلات الاجتماعية بين الفئات المكونة للنسق الاجتماعي،وتجعل من اللاتجانس عنوانا عريضا داخل المجتمع الواحد في التعرض للقرارات المركزية ما بين الطبقات الاجتماعية والمجالات الجغرافية وما بين الحضرية و القروية وما بين القروية والقروية نفسها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن