صلاة العشاء في ساحة الشهداء

مهند طلال الاخرس
palastine_yasser@yahoo.com

2020 / 11 / 20

في الجزائر وما ان يطالعك اسم لمعلم او أثر او مقام او شارع...يجب ان يتبادر الى ذهنك ان هذا الاسم لم يأتي هباء ولم يجيء من العدم، بل ان كل اسم تلمحه يتسيد اي مكان او يشير الى اي معلم مهما كان بسيطا، كن متأكدا ان لهذا الاسم تاريخ تليد وماضي مجيد، ففي الجزائر بلد المليون شهيد، وبلد التاريخ الممتد والضارب في الاعماق، لا متسع للاهواء في تلك التسميات، عليك ان تكون متحضرا ومتحفزا امام كل اسم يعتلي تلك الاماكن لمعرفة المزيد عن تاريخ الجزائر الزاخر والمزدحم بالعطاء والتضحيات.

امام تلك التسميات وما ان تتمعن بها تجد نفسك تغوص في بحر من التاريخ والذكريات، كل ذلك بشرط ان يرافقك دليل تستهويه الجزائر بشغف، وتعوّد ان يسير في شوارعها على مهل، وان كان ممن يتقن فنون المعرفة والتبصر والتمعن فذلك افضل، فلعله يمتلك حينها ما يسعفه لاشباع فضولك، لكي يروي شغف حبك للجزائر، فشوارع الجزائر كلما تجولت فيها اكثر، أحببتها اكثر، وأعطتك من حبها الكثير، وعلق بك اريجها الازلي الذي يبقى ولا يزول، والاهم انك تنغرس فيها ويتعزز ذلك العشق الذي لا ينتهي، وحتما ستغادرها وانت تقول: لابد من العودة ثانيةً وان طال الغياب.

حفظ مالك هذا المقدمة، واصبح يرددها على مسامعي كلما لاح له اسم يعتلي اي لافتة مهما كبر او صغر حجمها. اصبح سؤاله عن سبب التسميات التي تعتلي اي مرفق او مكان متلازمة تزور لسانه وتدور عليه بغير استئذان.

كنت سعيدا جدا بتلك الاسئلة، كنت قد بدأت اتهيأ لكتابة هذا الكتاب، اسعفني مالك بأسئلته واصبح احد اهم الاسباب التي دفعتني الى اغتنام تلك الفرصة وفي توثيق كل معلومة تحصلت عليها من عديد المرافقين والاصدقاء الذين تشرفنا برفقتهم في شوارع الجزائر، فكان هذا الكتاب تعبير حي عن تلك الزيارة واثرها، ليس هذا وحسب بل كان كل يوم لنا في الجزائر يحمل في طياته الجديد، كنا في كل يوم تزداد معرفتنا وتعلقنا بهذه البلاد اكثر، لكن وفي ختام الزيارة التي امتد شهر استهلكنا كثيرا من الوقت في سبيل معرفة الجزائر اكثر، وبالمحصلة ورغم ما بذلناه من جهد حثيث، اكتشفنا في نهاية المطاف ان خطواتنا كانت صغيرة ولم يسعفها الوقت في اكتشاف تلك البلاد الكبيرة.

بعد ان اصبح سؤال مالك عن اسماء الاماكن وسبب التسمية يتردد على مسامعي اكثر من اي شيء آخر، بدأت ادون وابحث واعود لمراجع ومصادر شتى للتحقق والبحث عن اسم ومسمى لكل معلم او مكان صادفته في الجزائر، وهذا الامر قادني لان اعود لاماكن كثيرة، زرناها باحثين عن شيء معين او مكان معين، فقادتنا الصدفة المحضة لمعرفة اكثر، وهذا ما حدث بالفعل.

ذات مرة زرنا مقبرة سيدي امحمد في بلوزداد باحثين عن قبر العلامة والمفكر مالك بن نبي، واثناء سؤالي لحارس المقبرة عن ابرز الاموات المدفونين هنا، كان جوابه الاول عن الشيخ محمد البشير الابراهيمي ومضى في الحديث والتعداد.

حدث مرة اخرى ان ان زرنا جامع كتشاوة في ساحة الشهداء عند اسفل حي القصبة، واثناء سؤالي لامام المسجد عن سبب التسمية اخبرني بالكثير، وذكر من جملة ما ذكر الشيخ الابراهيمي، وبأن الشيخ القى خطبة الجمعة الاولى بعد الاستقلال في هذا الجامع.

وعن سبب التسمية لهذا المسجد بهذا الاسم رافقني الامام الى مدخل المسجد حيث ثبتت رخامة كبيرة على يمين الداخل للمسجد مكتوب عليها :" بني هذا المسجد بأمر من أكبر قادة الاساطيل البحرية العثمانية "خير الدين بربروس" وقد بني هذا المسجد في قلب العاصمة الجزائرية في العهد العثماني عام 1520، ثم قام الباي حسن بتوسيعه وزخرفته ليكون في أبهى حلة، وانتهت عملية التوسيع الضخمة سنة 1792، وقد أُطلق عليه آنذاك اسم "مسجد كتشاوة".

وحسنا فعل الامام بان زاد عما ورد من معلومات في اللوحة التعريفية" الرخامة" بأن اخبرنا بقية الحكاية الغير مكتوبة، فاضاف يقول:" ...ابان الاحتلال الفرنسي حوله الدوق دو روفيغو إلى كنيسة، وكان ذلك تحت إمرة قائد الحملة الفرنسية على الجزائر «دي بولينياك»، حيث تم إخراج جميع المصاحف الموجودة فيه إلى ساحة الماعز المجاورة، وأحرقها عن آخرها، فكان منظرا أشبه بمنظر إحراق هولاكو للكتب في بغداد عندما اجتاحها.

ثـم هدم المسجد بتاريخ 18/12/1832 م، وأقيم مكانه كاتدرائية، حملـت اسم "سانت فيليب"، وصلّى المسيحيون فيه أول صلاة مسيحية ليلة عيد الميلاد 24 ديسمبر 1832 م، فبعثت الملكة "إميلي زوجة لويس فيليب" هداياها الثمينة للكنيسة الجديدة، أما الملك فأرسل الستائر الفاخـرة، وبعث البابا "غريغوري السادس عشر" تماثيل للقديسين.

سريعا اخرجت هاتفي والتقطت صورة لتلك الرخامة المثبتة على يمين مدخل المسجد لتوثيق ما احتوته من معلومات، وحسنا فعل الامام باصطحابي الى مدخل المسجد، فلقد اطلت على مالك ونبيلة بالغيبة، لم ينبهني الى طيلة تلك الغيبة والى اقتراب موعد صلاة العشاء إلا الصغيرة اية التي ما ان رأتني اطل من على باب المسجد حتى جائتني مسرعة فاحتضنتها وربت على كتفها وداعبت نظاراتها بغية مسح ما علق عليها من بعض حبات المطر الذي كان قد بدأ سقوطه منذ لحظات.

تعلقت اية بي، وكذلك انا، امسكت بيدي من الخلف واخذت تشدني، وشيئا فشيئا اطلت برأسها من خلف ساقي تستمع لحديث الامام عن تاريخ هذا المسجد.

كان مالك ونبيلة بانتظاري اسفل درجات المسجد حيث حركة كثيفة لسوق شعبي يفترش جنبات الرصيف مطلا على ساحة الشهداء.

لم يكن امام المسجد قد انهى الحكاية حين حملت اية واحتضنتها لتسمع وترى ماذا يقول، فاغتنمت الفرصة ولوحت لمالك ونبيلة واعتذرت لهما بابتسامة عن طول فترة الانتظار.

ساعدتني اية باعطائي مزيدا من الوقت حين نادت على امها مخبرتا اياها بأننا سنعود لداخل المسجد برفقة الامام، احسنت اية صنعا بأن منحتني كل ذلك الوقت برفقة الامام، والاهم ذلك الحديث الذي استرسل به الامام عن تاريخ هذا المسجد وحكايته.

اثناء ولوجنا للمسجد كان الامام يتحدث عن زخارف المسجد ونقوشه وفسيفسائه التي ازيلت وسرقت ابان الاحتلال الفرنسي ووضعت في متاحف فرنسا، كان الامام يشير الى بعض الزخارف الجديدة وروعتها حين قاطعته مستوضحا عن سبب تسمية الجامع بهذا الاسم، فأخبرني بان كتشاوة تسمية تركية مركبة من شقين كيت وتعني ساحة وشاوة وتعني عنزة، وهذا التسمية أطلقت على الساحة المقابلة للمسجد (ساحة الماعز) حيث كانت الساحة سوقا لبيع وشراء الماعز، المسماة حاليا ساحة الشهداء.

وعن سبب تغيير اسم الساحة من كتشاوة للشهداء اخبرني بانه بعد استقلال الجزائر في 5 جويلية 1962 وعودة مسجد كتشاوة إلى دائرة الإسلام؛ وازالة كل الصلبان التي كانت منتصبة فوق مآذنه وقبابه، أقيمت فيه أول صلاة جمعة يوم 2 نوفمبر 1962 واستقطبت عدداً هائلاً من الجزائريين الذين امهم وخطب فيهم الشيخ الابراهيمي والذي مازالت خطبته محفوظة ومشهورة حتى الان.

آنذاك سميت ب "ساحة الشهداء " تخليداً لذكرى اربعة آلاف شهيد استشهدوا دفاعاً عن المسجد اثناء اعتصامهم في داخله في محاولة منهم لمنع الجنرال الفرنسي المجرم روفيغو من تحويله الى كنيسة.

اذهلتني القصة واخذتني الحكاية الى عوالم بعيدة، ودار في مخيلتي سؤال مفاده، كيف استطاع الجنرال الفرنسي تنفيذ مقصده، وكيف طاوعته نفسه في ذلك، واي اجرام قابع في اعماقه واعماق من ارسله لهذه البلاد؟

واصل الامام تعريفنا بمعالم المسجد حتى وصلنا الى المنبر والمحراب، كانا اية في الجمال، اغتنمت الفرصة وتصورت انا واية في المحراب ولم تسمح كاميرا الهاتف لكثير من صوري الشخصية في داخل المسجد، كانت الكاميرا قد اشبعت فضولها وهي تلتقط عديد الصور للمسجد وتوثق تلك الروعة من ايات الجمال المبهرة.

كان الامام يتحدث عن تاريخ المسجد وسيرته حين امتلأت كاميرا الهاتف وعيناي بروعة ذلك المسجد.

كان الامام يقرأ شغفي بروعة ذلك المسجد، فسألني ان كنت زرت غيره، اخبرته بالايجاب، وسألني عن انطباعي الاول، اجبته مرددا: تسابيحه من حنايا الجزائر ، تسابيحه من حنايا الجزائر...

سرّ الامام وعبرّ عن سروره بترديد مزيدا من بيوت الالياذة لمفدي زكريا وشاركته في كثير منها؛ تلك الملحمة الشعرية ذات الالف بيت والتي تؤرخ وتتغنى بالجزائر.

استرسل الامام وهو يحثني على اغتنام الوقت بزيارة غير هذا المسجد، وهذا ما وعدته به، ومضى وهو يقول قاصدا وموجها: تمتلك الدولة الجزائرية أكثر من 18 ألف مسجد، وقد ورثت الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي ما يقارب 300 مسجد، تحول معظمها إلى كنائس، ولم يبق منها بعد الاستقلال سوى 13 مسجدا ذات معمار عثماني، بينها مسجد "بتشين" الذي بني سنة 1622، ومسجد "الجديد" سنة 1660، ومسجد "سيدي عبد الرحمن الثعالبي" سنة 1669، ومسجد "سفير" عام 1826، ومسجد كتشاوة هذا الذي يعد الاجمل والافضل بالنسبة لسكان العاصمة الجزائر وخاصة اهل القصبة.

استذكرت ذلك المسجد الذي ذكره انفا - سيدي عبدالرحمن الثعالبي- ، فامتعضت، لم يحتج الامام للكثير من النباهة ليلاحظ ذلك الامتعاض، فاستوضح الامر وهو يرافقني الى مدخل المسجد لتوديعي، قلت له لا عليك تلك حكاية اخرى لا يتسع المقام لذكرها، فلقد اثقلت عليك وعلى من ينتظرني في ساحة الشهداء.

ودعني وهو يخبرني بأن موعد صلاة العشاء قد حان، ودعته وانا اقول: لا عليك، سأصلي هناك؛ في منتصف ساحة الشهداء...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن