الكاتب والحرية

محمد علي سليمان
mohammad.suliman.555@gmail.com

2020 / 11 / 11

يقول إدوار سعيد في كتابه " صور المثقف ": " فالسلطات التي تزعم لنفسها الحق العلماني في الدفاع عن الأوامر الإلهية يستحيل النقاش معها أينما تكون، وأما المثقف فإن المناقشة العميقة العنيدة هي جوهر نشاطه، وهي المسرح والمكان الذي يؤدي عمله فيه كل مفكر لا يعتمد على الوحي ولإلهام في الواقع ". لكن هذه المناقشة العميقة والعنيدة من قبل المثقف تحتاج إلى ظروف اجتماعية مناسبة للنقاش، تحتاج إلى الحرية، تحتاج إلى مجتمع مدني يسمح فيه بالرأي والرأي الآخر، وعلى رأي تيودور مايرغرين في كتابه " الليبرالية والموقف الليبرالي ": " فحرية الكلام ليست غاية في حد ذاتها ولكنها وسيلة ضرورية للتوصل إلى الحقائق ونشرها، هذه الحقائق اللازمة لحياة البشر وتقدمهم. لذا فإن قمع حرية الكلام يؤخر كل تقدم ثقافي: فقد يضطر الناس إلى النكوص إلى حالة بدائية من البربرية والإيمان بالخرافات والخوف ".
لكن، في الأنظمة الاستبدادية لا معنى لحرية الكلام، فتلك الأنظمة تضطهد كل من يحاول أن يتكلم عن " الملك العاري "، كما فعل ذلك الصغير في مسرحية شفارتس، ويضطر الكتاب والمفكرون إلى الصمت. والغريب أن بعض كتاب الحرية في أوروبا لا يؤيدون الحرية إلا في أوروبا ذاتها ويرفضون تطبيقها في الدول المتخلفة، وقد اعتبر ستيوارت مل المفكر الليبرالي البريطاني " أن الاستبداد وسيلة مشروعة لحكم الدول الهمجية طالما أن الإصلاح هو الغاية المقصودة من ذلك.. ولا تنطبق الحرية من حيث هي مبدأ على أية أمة قبل أن تصبح على استعداد لإصلاح شؤونها بالمناقشة التي تقوم على الحرية والمساواة. وما دامت الأمة لم تبلغ هذه الدرجة فليس لها غير الإذعان والطاعة لسيدها وقائدها أو حاكمها إذا كانت تحظى بحاكم من هذا النوع ". ولكن دوهاميل في كتابه " دفاع عن الأدب " يرى: أن " قيود الحرية لم تمنع الكتاب دائماً من أن يخلقوا، ولكنها أفسدت العلاقة بين الكتاب والهيئة الاجتماعية إفساداً بيناً، وبعبارة أخرى أدت إلى اضطراب الكتاب في تأدية وظيفتهم الاجتماعية ".
وقيود الحرية في المجتمع العربي أدت أيضاً إلى اضطراب الكتاب العرب في تأدية وظائفهم الاجتماعية. وظهر ذلك واضحاً في المؤتمرات والندوات التي أقيمت لبحث إشكالية الأدب والفكر، والتي انتهت إلى اعتبار أن القيود السياسية التي توضع في وجه الحرية هي السبب في أزمة الأدب والفكر، وكمثال فقد ضاق المجتمع العربي عن استقبال ندوة حول الديمقراطية في الوطن العربي لمركز دراسات الوحدة العربية، وأقيمت الندوة في قبرص، كما أن الكويت ضاقت يوماً ما عن استقبال الدكتور نصر حامد أبو زيد، كما رفضت نقابة الصحفيين في مصر في يوم آخر استقبال الدكتور حامد أيضاً. وكمثال آخر، ففي المؤتمر العربي الفلسفي الأول والذي كان من المفترض أن يبحث في إشكالية الفلسفة تحول إلى بحث في غياب الحرية والديمقراطية التي تعيق تفتح الفلسفة، وتحول المؤتمر الفلسفي إلى مؤتمر سياسي يطالب السلطات السياسية الحاكمة بالحرية من أجل إنتاج فلسفة عربية. ألا يدل ذلك على اضطراب المفكرين العرب الذين لا يقدرون على التفكير في ظل غياب الحرية، وبالتالي غير قادرين على إنتاج فكر، فلسفة إلا في مجتمع ديمقراطي، ولم يستحق إيجاد تلك الفلسفة منهم سوى توصيات في نهاية المؤتمر تطالب تلك الأنظمة العربية الحاكمة التي هي نفسها تمنع الديمقراطية، بتحقيق تلك الديمقراطية. إن الحرية ضرورية من أجل ان يبدع المفكر، والحرية هي ضرورية أكثر من أجل خلق ثقافة اجتماعية تقدمية تعمل على سيطرة المجتمع المدني، وانتشار فكر الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، من أجل خلق عصر تنوير عربي يقوم به مفكرو قوى اجتماعية مهيمنة. لكن المفكر والكاتب، والكتابة هي بشكل أو بآخر قضية ذاتية، أي أن المفكر هو إنسان مثقف يكتب في عزلة، وفي عزلته يمكن أن يبدع فكراً مؤثراً ولو في النخبة العربية.
وأزمة المفكرين العرب هي أزمة الكتاب العرب أيضاً، هؤلاء الكتاب الذين يطالبون بالحرية من أجل إنتاج رواية عربية تتناول مقدس الدين أو مقدس السياسة أو مقدس الجنس، إنهم أيضاً يطالبون السلطات السياسية الحاكمة بالحرية لتحطيم المقدسات في كتبهم، حتى أن شاعراً متمرداً، مثل نزار قباني كمثال، يطالب عبد الناصر بفك حصار أجهزته الأمنية عن أدبه بعد نشر قصيدته " هوامش على دفتر النكسة ". والغريب أيضاً أن الكتاب العرب، مثل المفكرين العرب، يبحثون عن الحرية المفقودة في المجتمع ولا يبحثون عن الحرية المفقودة في دواخلهم، والذي لا يجد الحرية في داخله لن يجدها في المجتمع أبداً. إن الخطر على الإبداع الأدبي والفكري يأتي من غياب الحرية الشخصية أكثر من غياب الحرية السياسية والاجتماعية، يأتي من غياب الحرية الداخلية لمواجهة الواقع المتخلف من أجل خلق فكراً أو أدباً يساهم في تغيير المجتمع، وليس من غياب الحرية الخارجية، ذلك أن الابداع، مرة أخرى، هو في النهاية هو قضية ذاتية فردية، وغياب الحرية الذي يولد الخوف على حياتهم، هو الذي يجعل أكثر المفكرون والكتاب العرب يبدعون في الحدود التي رسمتها لهم السلطات السياسية دون أن ننسى القيود الاجتماعية التاريخية السياسية والدينية التي حولت المجتمع المدني، عبر سيطرة القوى الاجتماعية التقليدية وخاصة الدينية على مؤسساته، إلى رقيب أقسى أحياناً من رقابة المجتمع السياسي. لكن لا بد من التأكيد أن الرقيب الداخلي في قلب المفكرين والكتاب العرب، والذي جعلهم يتنازلون عن حريتهم الشخصية بعد أن جردتهم السلطات السياسية الحاكمة من الحرية الاجتماعية، هو الخطر الأساسي على الإبداع.
وإذا تركنا القيود التي فرضتها السلطات السياسية الحاكمة، فإن القيود الاجتماعية التاريخية (الدينية، الأعراف الاجتماعية) كبلت أيضاً المفكرين والكتاب العرب، ويمكن القول إن العلاقة بين الكتاب والقوى الإسلامية في عهد عبد الناصر كانت تقوم على صراع فكر بفكر، فكر هيئة العلماء وفكر الكتاب، وأحياناً كان عبد الناصر يتدخل شخصياً لحل الخلافات كما حدث مع عبد الرحمن الشرقاوي وخالد محمد خالد ويفرج عن بعض الكتب، فقد أخذت هيئة علماء من الأزهر على مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي التي عرضت على الأزهر من أجل السماح بعرضها مسرحياً، أنها تتناول الصحابة تناولاً غير كريم، أي أنها تتناولهم كناس عاديين، كما أنها تتناول قادة الجيوش كأشخاص لا يتمسكون بدين ولا تحكمهم آداب من دينهم، وإنها تصور آل بيت الرسول كمخادعين. وقد اتهم عبد الرحمن الشرقاوي من قبل الشيخ محمد الغزالي بأنه شيوعي ويعمل لصالح أمريكا، لكن لم يكن هناك تكفير، فقد كان عبد الناصر ٌقد أمم الأزهر، ولم يكن يسمح بخروج الدين خارج حقل الدين. ولكن مع السادات بدأ الأزهر يجرج من نطاق الدين إلى النطاق الاجتماعي والسياسي بعد أن استخدم السادات الدين كوسيلة للدفاع عن سلطته في مواجهة القوى اليسارية والشيوعية، وهكذا بدأت عملية التكفير، وامتدت هذه المرحلة في عهد مبارك. وقد أخذت هذه القيود الاجتماعية بعداً واسعاً في الوقت الحاضر بحيث أصبحت الرقابة على المفكرين والكتاب تأتي من المجتمع المدني (القوى الدينية السلفية والتكفيرية عبر مؤسسات المجتمع المدني) وليس من المجتمع السياسي (مؤسسات المجتمع السياسي وخاصة الأمنية)، بل لقد أصبح المجتمع السياسي، الدولة هو حامي المفكر والكاتب، حالة الدكتور حامد نصر أبو زيد، ولو نظرياً، فالكاتب عملياً متروك لمصيره كما حدث مع فرج فودة ونجيب محفوظ. ومعروفة حالة الدكتور سيد القمني، المفكر التقدمي الذي يكتب في الاسلاميات، الذي تلقى التهديد بالقتل إذا لم يعلن توبته في المجلة التي يكتب فيها_ مجلة روز اليوسف، ويتراجع عن أفكاره. ودفعه الخوف، وخاصة بعد اغتيال الدكتور فرج فوده ومحاولة اغتيال الروائي نجيب محفوظ وهجرة الدكتور نصر حامد أبو زيد، إلى إصدار بيان التراجع في المجلة التي كان يكتب فيها _ مجلة روز اليوسف.
يذهب الدكتور فيصل دراج إلى أن " الحقل الثقافي العربي حقل إعاقة للرواية العربية لأنه لا يؤمن للنص الروائي الوليد ما يؤمنه الحقل الثقافي الغربي للرواية ". يمكن أن نأخذ بنظرية الدكتور فيصل إذا اعتبرنا الحقل الثقافي العربي مغلقاً على ذاته يعيد إنتاج نفسه عبر التاريخ كحقل ثقافي مغلق. والحقل الثقافي العربي (الذي هو في النهاية نتاج اجتماعي، سياسي)، رغم القيود التي تحاول أن تشل حركته كحقل ثقافي، هو في النهاية حقل مفتوح على الحقل الثقافي العالمي، والدليل أن الحقل الثقافي العربي هو استنساخ للحقل الثقافي العالمي، هو أن الأنظمة العربية تفتح أبواب الحقل الثقافي العربي على استنساخ الحقل الثقافي العالمي الذي لا يضر مصالحها وحقلها الثقافي، وهي تغلق تلك الأبواب في وجه كل ما يخلخل ذلك الحقل الثقافي الذي يؤمن مصالحها. لكن لا أحد في عصر العولمة يقدر أن يسجن الحقل الثقافي في حذاء صيني، وإذا تجاوزنا الخلخلة التي لحقت بالحقل الثقافي العربي نتيجة التواصل الحضاري مع العالم من قبل كتاب تجاوزوا كل القيود التي وضعتها الأنظمة الاستبدادية الحاكمة. وكذلك فإن هناك كتاباً يقومون بخلخلة الحقل الثقافي العربي المغلق من الداخل ولو عن طريق الهاتف، فبعد منع الدكتور نصر حامد أبو زيد من دخول الكويت لإلقاء محاضرة تم التحايل وألقيت المحاضرة عبر الهاتف، وهناك أشكال أخرى من وسائل الاتصال الحديثة غير الهاتف للتحايل على ذلك الحقل الثقافي العربي المغلق، إن ذلك الحقل الثقافي العربي المغلق ليس قدراً.
وأعتقد أنه لا بد من تسجيل رأي هربرت ريد، فهو يقول " لو أردت أن تعبر عن الفرق بين مجتمع تقدمي ومجتمع شمولي سكوني، فيمكنك أن تعبر عن هذا بكلمة واحدة: هذه الكلمة هي الفن. لا يستطيع المجتمع أن يجسد مثل الحرية والتطور العقلي، وهي التي تجعل الحياة في نظر الغالبية منا جديرة بأن نحياها، إلا بشرط السماح للفنان بان يمارس عمله بحرية "، ولكن لا بد أن نضيف أنه إذا لم يسمح المجتمع السياسي، وحتى المجتمع المدني عبر سيطرة القوى الدينية التكفيرية، للفنان بممارسة حريته في الخلق الأدبي، فإن على ذلك الفنان ألا يستسلم، وألا يجعل ذلك قدراً، وعليه أن يملك قوة الإرادة لخلق حريته في ذاته، ويكتب وفق تلك الحرية الذاتية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن