الفلسفة الأوروبية نهاية القرون الوسطى

غازي الصوراني
cdideology@hotmail.com

2020 / 11 / 1

 
المحتوى الاجتماعي – التاريخي للمرحلة:
ظهرت بدايات أسلوب الإنتاج الرأسمالي في بعض مدن حوض البحر الابيض المتوسط بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، "فمنذ القرن الرابع عشر ظهرت في ايطاليا المانيفاكتورات الأولى، مما كان يعني الانتقال من الحرف والصناعات اليدوية، المميزة لاسلوب الإنتاج الاقطاعي، إلى الرأسمالية.
كما "شهدت ايطاليا، قبل البلدان الاوروبية الاخرى، نموا للمدن، وللحضارة المدينية، وأسفرت التجارة، والمراباة، واستغلال العمال وصغار الحرفيين، عن ظهور فئة لا يستهان بها من أصحاب البنوك والتجار الصناعيين، الذين استولوا على السلطة السياسية في عدد من المدن (فينيسيا، فلورنسا، جنوى، وغيرها)، وقد تجلى تقدم القوى المنتجة واضحاً في الاكتشافات التكنيكية الضخمة، فظهرت المغازل الآلية، وأُدخلت تحسينات كبيرة على ماكينات النسيج، واخترعت دواليب المياه ذات الدفع العالي، التي أحدثت – إلى جانب الطواحين الهوائية- تغييرات كبيرة في الإنتاج، الذي كان يعتمد، بالدرجة الأولى، على القوة العضلية الحيوانية والبشرية، وأدت هذه التغيرات ذاتها إلى ظهور الافران العالية، التي اعطت دفعا كبيرا لصناعة التعدين، إلى جانب اختراع الاسلحة النارية، واستعمال البارود، والبوصلة، وظهور الطباعة في اوروبا أواسط القرن الخامس عشر، التي اعتبرها ماركس مقدمات لاسلوب الإنتاج البرجوازي"([1]).
أما "النجاحات اللاحقة، التي أدت إلى بزوغ الرأسمالية وانتشارها في بلدان أوروبا الغربية، فقد ارتبطت بالكشوف الجغرافية العظيمة أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، فأدى اكتشاف أمريكا، والطريق البحري المؤدي إلى الهند، ورحلة ماجلان حول الارض، إلى خرق حدود الكرة الارضية القديمة، وما رافق ذلك من آفاق جديدة للتجارة والاستيطان في العالم الجديد.
هذه التحولات أدت إلى ظهور مراكز جديدة للتطور الاقتصادي، وبدأت ايطاليا تفقد دورها القيادي في تطور العلاقات الرأسمالية، فقد ظهرت مراكز جديدة للتطور الرأسمالي في عدد من المدن الساحلية الاسبانية، وفي جنوب ألمانيا وشمال فرنسا، وكان التطور الراسمالي عاصفا في هولندا وانكلترا، خاصة"([2]).
من النّهضة إلى التنوير:
مع ظهور الإنسانويّة في عصر النهضة، في القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر، "تركزت اهتمامات الفلاسفة الأخلاقيين بشكل متزايد على الاستجابة للمآزق الدنيويّة، وبدأت الفلسفةُ في إظهار الاعتماد المتزايد على العقل بدلاً من الاعتقاد الدينيّ، وأتت التغييرات في المواقف تجاه المعرفة (تعني "النهضة" "إحياء المعرفة") جزئيّا من توافر النصوص اليونانيّة والعربيّة المترجمة، وبالتالي من حافز الثقافات المختلفة، والاكتشافات العلمية لكوبرنيكوس وغاليليو وكبلر، وليوناردو دافينشي،  كما بدأت البنى السياسية أيضا تخضع للتدقيق والفحص، ففي عام 1651 نشرَ توماس هوبز كتابه "اللفياثان" لتعزيز وجهة نظر الحكومة على أنها تعاقديّة، وبالتالي الدعوة إلى "التوسّط"، بحيث يتوازن النّظام مع الحريّة. وكان جون لوك (1632-1704) حذِرا من السلطة السياديّة، وحاجج بأنّ العقد الاجتماعي لهوبز، الذي يقيّد الحريّة الشخصيّة إلى حد كبير في مقابل حماية الدولة المقصودة من الخروج على القانون، ينبغي أن يتضمن حقوقا مدنيّة بعينها، وأحدها حريّة إزالة ملك استبداديّ أو حكومة سيّئة، وفي تلك المرحلة تم تطوير مفهوم الحضارة والذي تمركزَ حولَ المفهوم الجديد لـ "الحريّة". واصبح مَثالُ الحريّة الشغل الشّاغل الأوروبيّ، لا سيّما مع كتابات فولتير (1694-1778) وروسّو (1712-1778) التي ناصرت الثورات في فرنسا وأميركا، وقد ظهر هذا الانشغال بالحريّة في وقت لاحق في كتابات جون ستيوارت مِلْ (1806-1873)، وقد ارتبطت العلوم والرياضيات ارتباطا وثيقا بالعقلانيّة -أي فكرة أنّ العقل الخالص يمكن أن يكتشف الحقيقة- مع التحقيق التجريبيّ، وهو الأمر الذي سمحَ بالتقدّم التكنولوجي المذهل في القرنين السابع عشر والثامن عشر وتحديد المشهد للثورة الصناعيّة"([3]).
إن ما يميز العصر الأوروبي الحديث هو هذا الاتحاد العفوي الفريد، الذي تم –على مراحل طبعاً ولكن للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية، بين المصالح الحيوية للطبقات التجارية الصاعدة وبين الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية والميكانيكية الجديدة، وقد أدى هذا الاتحاد إلى تسارع تطور أوروبا الحديثة، من خلال ربط المعرفة العلمية –قديمها وجديدها – نهائياً بطرائق البورجوازية الأوروبية الصاعدة في إنتاج الثرورة ومراكمتها.
لقد بزغت إمكانية تحويل التقدم العلمي والتقني، بصورة منتظمة ومدروسة إلى رأسمال من ناحية، كما بزغت إمكانية قيام الرأسمال في البحث المنتظم والمدروس عن المزيد من التقدم العلمي والتقني من ناحية ثانية، أي َأصبح للرأسمال مصلحة حيوية في العلم، كما أصبح للتقدم العلمي مصلحة لا تقل حيوية في الرأسمال، ذلك "إن تأثير العلم من موقعه الجديد وردود الفعل عليه يبرزان بنصاعة في سياق تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، أما تأثير المصالح الحيوية للطبقات التجارية وتأثير القيم التي حملتها وقاتلت من أجلها فنجده صارخاً في الشق الآخر من الفلسفة الحديثة، أي الشق الذي يعالج عادة موضوعات مثل: السياسة، الأخلاق، الاجتماع، الانسان.. إلخ، وكل هذه الموضوعات أدت إلى ولادة وتبلور مفاهيم حداثية بورجوازية نيقضه للمفاهيم الاقطاعية السائدة، إلى جانب انتشار مفاهيم العقلانية والحرية والديمقراطية.
فالبورجوازية الثورية –آنذاك- "جابهت الوحي بالعقل، واللاهوت بالميكانيك، والآخرة بالطبيعة، والتعمية الاسكولائية بالوضوح العلمي، والقياس الأرسطي- التومائي بالاستقراء البيكوني، هي ذاتها البورجوازية التي جابهت التيوقراطية بالعلمانية، والحقوق الإلهية بالعقد الاجتماعي، والامتيازات الارستقراطية بالحقوق الطبيعية، وتراتبية الحسب والنسب واللقب بالمساواة الحقوقية بين البشر، والاستبداد الغربي بالليبرالية، والتبعية الاقطاعية بالحرية الفردية"([4]).
لقد "أدت هذه التحولات الفكرية (العقلانية والحداثية) والتحولات الاجتماعية (نحو البورجوازية) إلى تفريخ سريع للمذاهب والأفكار، ولكن بدون أن تتاح لها إلى ذلك الحين امكانية النمو؛ وهذا الخليط المشوش، الذي نستطيع أن نطلق عليه اسم المذهب الطبيعي، لأنه بصفة عامة لا يخضع لا الكون ولا السلوك لأية قاعدة مجاوزة، بل يقنع بالتماس قوانينهما المحايثة، يشتمل، إلى جانب اكثر الأفكار خصوبة وقابلية للحياة، على فواحش لا تطاق، فقد طاب لأهل ذلك العصر، بادئ ذي بدء، ان يتباهوا بازدراء كل ما كان فعله السابقون.
هذه الرغبة المضطرمة في حياة اخرى، جديدة ومحفوفة بالمخاطر، استثارها أو على اية حال عززها التطور الهائل للتجربة وللتقنيات التي قلبت، في قرن واحد، شروط الحياة المادية والفكرية في أوروبا"([5]).
فقد "تطورت تجربة الماضي، بفضل الأنسيين الذين كانوا يقرؤون النصوص اليونانية، والذين ألموا في القرن السادس عشر باللغات الشرقية؛ ولم يكن المهم على اية حال اكتشاف نصوص جديدة بقدر ما كان المهم الاقبال على مطالعتها بروح جديدة، بل كذلك أنماط جديدة من البشرية، ديانتها وأعرافها مجهولة وتطورت التقنيات، لا يفضل البوصلة والبارود والمطبعة فحسب، بل كذلك بمخترعات صناعية أو ميكانيكية يعود الفضل في العديد منها إلى فنانين ايطاليين كانوا في الوقت نفسه من الحرفيين. وقد ساور أهل ذلك العصر، بمن فيهم اولئك الذين كانوا يتشبثون بالتقليد، شعور بأن الحياة، التي طال تعليقها، قد استأنفت مسيرتها، وبان مصير البشرية عاد يصنع من جديد"([6]).
 
التغيرات الايديولوجية وولادة الفلسفة الأوروبية الحديثة:
لقد شهد القرنان السادس عشر والسابع عشر قطيعة حاسمة مع الدكتاتورية الفكرية الخانقة التي كانت تفرضها الكنيسة، ووضعا الأساس للمنهج العلمي الحديث كما يشرح إنجلز([7]):
"تعود أصول العلم الطبيعي الحقيقي إلى النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وقد تطور بسرعة متزايدة منذ ذلك الحين. لقد كان تحليل الطبيعة إلى أجزائها الفردية، وتقسيم السيرورات والمواضيع الطبيعية المختلفة إلى أصناف محددة، ودراسة التشريح الداخلي للكائنات العضوية في أشكالها المتعددة، هي الشروط الأساسية لتلك الخطوات العملاقة التي حققتها معرفتنا للطبيعة خلال الأربعمائة سنة الماضية. لكن ذلك أورثنا عادة مراقبة المواضيع والسيرورات الطبيعية في عزلة وبشكل منفصل عن السياق العام؛ أورثنا عادة مراقبتها ليس في حركتها بل في حالة سكونها؛ وليس بكونها عناصر متغيرة جوهريا، بل كعناصر ثابتة؛ ليس في حياتها، بل في موتها. وعندما قام بيكون ولوك بنقل هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء من العلوم الطبيعية إلى الفلسفة، خلق ذلك المنهج الميتافيزيقي الضيق في التفكير المميز للقرون الأخيرة". (إنجلز: ضد دوهرينغ، ص: 25)
في هذا السياق، نشير إلى أن التغيرات النوعية، الاجتماعية والاقتصادية والتكنيكية، كانت وراء التحول الجذري، الذي أصاب الحياة الروحية للشعوب الأوروبية، بعد تراجع سيطرة الكنيسه على عقول الناس على أثر تفكك نفوذها الاقتصادي، وتزعزع نفوذها الايديولوجي والسياسي نتيجة للحركات الاصلاحية، التي قامت في النصف الأول من القرن السادس عشر – اللوثرية والكالفينية خاصة، والتي عبرت عن سعي البرجوازية الكبيرة للتخلص النظام الاقطاعي، ومن وصاية الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وانهاء دورها في مساندة ذلك النظام، وتشييد نظام جديد، برجوازي، في خدمة المصالح البورجوازية الجديدة ورؤاها وأفكارها وسياساتها وفلسفتها التي تراكمت وتطورت منذ القرن الخامس عشر، حتى القرن السابع عشر عبر العديد من العوامل التي ادت إلى ولادة الفلسفة الأوروبية الحديثة.
ومن بين أهم هذه العوامل:
1- العامل التاريخي الذي تمثل في استرداد الأسبان للأندلس في أواخر القرن الخامس عشر، مستولين بذلك على ذخائر التراث العربي التي وجدوها هناك، بالإضافة إلى حركة الكشوف الجغرافية.
2- نشأة الفكر الفلسفي الحديث في "ظهور الروح العلمية الحديثة وازدهار العلوم التجريبية، وصولاً إلى الثورة العلمية التي أحدثها العالم البولندي كوبرنيكوس (1473-1543) باكتشافه للنظام الشمسي، حيث كان هذا الاكتشاف من العوامل التي أدت إلى فقدان الثقة بمعظم الفلسفات والعلوم الموروثة وخاصة فلسفة أرسطو، مما مكن الفكر الأوروبي من التحرر من ثقل تراث الماضي والبحث بنفسه عن أسرار الكون.
وبعد كوبرنيكوس، "جاء العالم الألماني يوهانس كبلر (1571-1630) الذي أحدث ثورة أخرى في علم الفلك والرياضيات، إذ أضاف إلى نظرية كوبرنيكوس تعديلاً هاماً يذهب إلى أن دوران الكواكب حول الشمس لا يأخذ شكل الدائرة الكاملة بل الشكل البيضاوي، كما اكتشف أن حركة الكوكب تتسارع في مداره عندما يقترب من الشمس وتتباطأ عندما يبتعد عنها، وكان هذا مما ساعد اسحق نيوتن (1642 - 1727) بعد ذلك على اكتشاف القوانين العامة للجاذبية، كما أحدث العالم الإيطالي جاليليو (1564-1642) ثورة علمية أخرى مما مكن العالم من اكتشاف الطابع الرياضي للقوانين الفيزيائية، واكتشف عدداً من أقمار كوكب المشترى.
3-  نشأة الفكر الفلسفي الحديث هو ظهور عصر النهضة الأوروبية ابتداء من القرن الخامس عشر، فقد ظهرت بدايات عصر النهضة عندما فتح الأتراك القسطنطينية سنة 1453 واسترد الأسبان آخر جزء من الأندلس وهو غرناطة في تسعينات القرن الخامس عشر، وانتقل بذلك التراث اليوناني والروماني إلى غرب أوروبا، فظهرت حركة واسعة لإحياء الآداب اليونانية واللاتينية، وكانت هذه الآداب تركز على الإنسانيات مما أدى إلى ظهور نزعة إنسانية قوية في الفكر الأوروبي.
4-  نشأة الفكر الفلسفي الحديث في حركة الإصلاح الديني بقيادة مارتن لوثر (1483-1546) وجون كالفن (1509 - 1564)، التي تركز على الجوانب الأخلاقية من رسالة المسيحية، وعلى الضمير الإنساني اليقظ، وعلى استقلال الإنسان بحيث يكون موجهه الأول هو الكتاب المقدس نفسه دون وساطة من كهنوت أو مؤسسة دينية"([8]).
والملاحظ في تعدادنا لعوامل نشأة الفكر الحديث، ورود شخصيات عديدة من إيطاليا مثل جاليليو وجيوردانو برونو، بالإضافة إلى رواد عصر النهضة الإيطاليين أمثال ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو وتوماس كامبا نيلا.
فمن المعروف أن النهضة الأوروبية بدأت في إيطاليا، مع دانتي في ملحمته "الكوميديا الإلهية"، إلى جانب النهضة الفكرية مع برونو، والنهضة الفنية مع دافنشي ومايكل أنجلو، وكذلك النهضة العلمية مع جاليليو. ومن هنا كانت  بدايات الفكر الفلسفي الحديث كانت فى إيطاليا بالتحديد.
فبالإضافة إلى هؤلاء، نجد أن ميكافيللي هو أول واضع لعلم السياسة الحديث الذي لم تشغله المثاليات السياسية بل وضع نظرية واقعية انطلاقاً من التجارب التاريخية السابقة والخبرة العملية في كتابه "الأمير"([9]).
ولادة النهضة الأوروبية وسيرورتها:
أعتقد أن كافة الدراسات التي تناولت المرحلة التاريخية الأولى من عصر النهضة وما يطلق عليها "المرحلة الانتقالية" تتفق على أن العنصر الرئيسي لهذا العصر بكل معطياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هو: "الفردية أو الإقرار باهتمامات الشخصية الإنسانية وحقوقها ومصالحها كموقف نقيض للكنيسة التي ألغت هذا الحق وصادرته طوال أكثر من ألف عام، دون أن نغفل إطلاقا دور التجارة التي شكلت العماد الاقتصادي للطبقة البرجوازية"؛ التي وجدت في التجارة "سندها المعنوي بما تستدعيه من نظام في المعارف وفي القيم، لأن عالم التجارة هو عالم الامتلاك والبضاعة والتنقل الحر في الزمان والمكان، والتاجر كان يجد نفسه في ذلك العالم ممثلاُ، فاعلاً وسيداً تام السيادة غايته الربح ولا حاجة له للراهب أو لسلطان الكنيسة.
لقد أدرك فلاسفة النهضة أن لا سبيل إلى تحرير الإنسان الا بتخليصه أولاً من وهم السقوط، وما يترتب عليه من إثم وخطيئة تستدعيان تدخلاً من جانب الكنيسة كوسيط تقدم له كل فروض الولاء والطاعة، سعياً هاذياً وراء الخلاص. ولذلك تراهم يستجمعون كل قواهم لتخليص الإنسان من ذلك الشرك الموهوم الذي نصبته له"([10]).
إلى جانب هذه الاخلاقيات الانسانية النزعة "رأت النور سياسة واقعية لا تعترف إطلاقاً بحق الملوك الالهي أو بعقد بين الملوك والشعوب، ولا تريد ان ترى في المجتمع سوى مصطرع بين قوى بشرية وتنازع في الاهواء"([11]).
هنا، لابد من الإشارة إلى أن ولادة عصر النهضة لم تكن عملية سهلة في المكان أو الزمان ولم تتم أو تظهر معالمها دفعة واحدة، أو اتخذت شكل القطع منذ اللحظة الأولى مع النظام أو الحامل الاجتماعي القديم، إذ أن هذا الانقطاع لم يأخذ أبعاده في الانفصام التاريخي بين العصر الإقطاعي القديم وعصر النهضة والتنوير الجديد إلاَ بعد أربع قرون من المعاناة شهدت تراكماً مادياً وفكرياً هائلاً من جهة، وتحولات ثورية في الاقتصاد والتجارة والزراعة والمدن كانت بمثابة التجسيد لفكر النهضة والإصلاح الديني والتنوير من جهة والتلاحم مع هذه المنظومة الفكرية الجديدة من جهة أخرى، تمهيداً للثورات السياسية البرجوازية التي أنجزت كثيراً من المهمات الديمقراطية لمجتمعات أوروبا الغربية في هولندا في مطلع القرن السابع عشر، وفي بريطانيا من 1641-1688، ثم الثورة الفرنسية الكبرى 1789 _ 1815، والثورة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر .
لقد كان نجاح هذه الثورات بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة والتنوير أو عصر الحداثة، ففي هذا العصر انتقلت أوروبا الغربية من مجتمع الطبيعة المحكوم بنظرية الحق الإلهي([12]) إلى المجتمع المدني، أو مجتمع الديمقراطية والثورة العلمية الكبرى التي أحدثت زلزالاً في الفكر الأوروبي الحديث كان من نتائجه الرئيسية " انتقال موضوع الفلسفة من العلاقة بين الله والعالم، إلى العلاقة بين الإنسان والعالم وبين العقل والمادة"([13]).
والسؤال .. ما هي المقدمات المادية والفكرية التي دفعت نحو ولادة عصر النهضة ؟
المقدمات الأولى أو المرحلة الانتقالية نحو أسلوب الإنتاج الرأسمالي :-
إن الفكر الذي ساد في المرحلة السابقة ( الإقطاعية ) لم يهتم ببحث المسائل المطروحة بما يدفع نحو الانتقال من حالة الجمود أو الثبات إلى حالة النهوض والحركة الصاعدة، ولم تسفر تلك المرحلة عن نتائج إيجابية تذكر سواء في الفلسفة أو في العلم، ذلك أن "المفكرين" في العصر الاقطاعي، لم يتطلعوا إلى البحث عن الحقيقة بل عن وسائل البرهان على صحة العقائد الدينية خدمة لمصالح الملوك والنبلاء الإقطاعيين ورجال الدين .
كان لابد لهذه الفلسفة القائمة على مثل هذه الأسس أن تسير في درب الانحطاط في ظروف بدأ فيها يتعزز العلم مع بدايات تشكل أسلوب أو نمط الإنتاج الجديد في أحشاء المجتمع الإقطاعي ما بين القرنين الرابع والخامس عشر .
كان بداية ذلك التشكل عبر إطارين كان لابد من ولادتهما مع اقتراب نهاية تلك المرحلة وهما : إطار التعاونيات([14])، وإطار المانيفاكتوره([15]) التي كانت البدايات التمهيدية نحو ولادة المجتمع الرأسمالي حيث ظهرت المانيفاكتورات في المدن الإيطالية أولاً ثم انتقلت إلى باقي المدن الأوروبية .
في هذه المرحلة الانتقالية، نلاحظ تطوراً ونمواً للمدن وظهور التجار والصناعيين وأصحاب البنوك، والاكتشافات التكنيكية المغازل الآلية – دواليب المياه – الأفران العالية ودورها في صناعة التعدين واختراع الأسلحة النارية والبارود والطباعة في أواسط القرن الخامس عشر .
فيما بعد تم إحراز نجاحات أخرى عززت تطور أسلوب الإنتاج الرأسمالي الصاعد والمنتشر في أوروبا، وارتبطت هذه النجاحات بعناوين كثيرة ضمن محورين أساسيين:-
الكشوفات الجغرافية مع نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر، خصوصاً اكتشاف أميركا والطريق البحري إلى الهند ورحلة " ماجلان " حول الأرض وبالتالي إرساء أسس التجارة العالمية اللاحقة .
وفي ظل هذا الوضع _ كما يقول المفكر العربي سعيد بن سعيد العلوي _ كان من "الطبيعي" أن تسعى البرجوازية الصاعدة بعد أن امتلكت مقومات الوجود الاجتماعي والسياسي إلى نشر ما تؤمن به من قيم ومعتقدات وآراء وأفكار في كافة مجالات العلوم والمعارف الجديدة، حيث وجد الفكر الفلسفي العقلاني وفكر التنوير عموماً عند هذه الطبقة الرعاية والتشجيع، ساعدها على العمل والإنتاج من جهة، وأوجد لها التبرير الكامل بالمطالب الكبرى لها - كطبقة صاعدة - في المساواة في الحقوق والحرية في اعتناق الآراء المختلفة مع الكنيسة وفي التفكير والعمل خارج إطار الكنيسة أو الدائرة المقدسة، حيث بدأت في التبلور، المفاهيم والقيم الجديدة، وبدأ الحديث عن المصلحة والمنفعة والصالح العام، والرابطة الاجتماعية التي تعني الرفض الضمني للنظام القائم على أساس التمايز الاجتماعي ؛ إنه الانقلاب في التصورات الإيديولوجية، فعوضاَ عن النظرة "العمودية" حيث يكون ترتيب الناس في أعلى وأدنى تبرز النظرة "الأفقية" لأعضاء الوجود الاجتماعي الواحد حيث يكون المبدأ الوحيد المقبول للوجود وللعمل معاً هو شعار "المساواة"([16]) .
لقد وجد فلاسفة النهضة أنه يتعين عليهم التحرك على أكثر من صعيد، وقتال أكثر من قوة، فثمة ارث تاريخي عمره خمسة عشر قرنا، لديه من أسباب القوة ما يكفي لاستئصال أقوى العقول نباهة، وافقار أشد النفوس حيوية، وتحطيم أصلب البشر عودا، فقد كان احتجاب الله عن الكون بألف حجاب، يشكل قناعة لدى الناس في العصر الوسيط، رسختها الكنيسة لكي تقوم بدور الوسيط بينه وبين الناس، تتكفل من خلاله بحل ألغاز الكون، وتفسير ما يجري فيه وفق ما يخدم مصالحها، وقد تصدى فلاسفة النهضة بكل قوة لذلك الدور الذي لعبته الكنيسة، وسعوا جاهدين إلى تحطيم الأساس الذي يقوم عليه، وبالتالي إلى حرمان الكنيسة من استمرار تلك الفرصة التي انتزعتها لتسخير البشر لصالحها بالابقاء على حالة الخوف والقلق الدائمين اللذين كانا ينهشان في عقولهم وضمائرهم"([17]).
إن الميزة الأساسية التي يمتاز بها فلاسفة عصر النهضة، هي أنهم أفلحوا في زعزعة الأسس والقيم التي كانت تقوم عليها فكرة الإنسان في العصر الوسيط، من خلال الأفكار والمفاهيم الحديثه، من أبرزها مفاهيم العقلانية، والانسانية والفردية، وبالتالي فإن المسألة المركزية التي نُلْفِتْ الانتباه اليها، هي أن هذا العصر سُمِّيَ عصر البعث renaissance الذي تولت قيادته، ووجهت مساره الطبقة البرجوازية الصاعدة آنذاك، وأقدم فيما يلي عرضاً مختصراً لمفاهيم العقلانية والإنسانية والفرديه:
1-  العقلانية :
ظهرت العقلانية باعتبارها خاصية للفلسفة الحديثة، في مقابل اعتماد فلسفة العصور الوسطى على سلطة التراث الديني والنظام الكهنوتي. فقد واجه الفكر الأوروبي منذ بدايته في عصر النهضة إشكالية العقل والنقل، وهي نفس الإشكالية التي شغلت الفكر الإسلامي ومازالت تُشْغِلهُ إلى يومنا هذا، لكن دون أن يستطيع الفكر الإسلامي حسم هذه الإشكالية لحساب انتصار العقل.
على أي حال، العقلانية، مفهوماً وممارسة، هي خاصية عامة للفلسفات الحديثة تجسيد التيار العقلي، ذلك إن أغلب فلاسفة العصر الحديث عقلانيون، أي يتمسكون بقدرة العقل على إدراك الواقع ويذهبون إلى أن كل سلوك إنساني صادر عن التفكير وعن استخدام الملكات الذهنية العليا.
فالتيار العقلي، الذي يضم ديكارت والمدرسة الديكارتية، وسبينوزا ولايبنتز وكانط وغيرهم، يتصف بكونه يعطي الأولوية للعقل في المعرفة، وينظر إلى العقل، على أنه المصدر الأساسي لكل معرفة وكل علم، وذلك في مقابل المذهب التجريبي الذي يتصف بإعطاء الأولوية للخبرة التجريبية كمصدر أساسي للمعرفة، وما العقل في هذا المذهب سوى ملكة تنشأ عن الانعكاس على عمليات الإدراك الحسي.
وليس معنى هذا أن التجريبيين ليسوا عقلانيين، بل على العكس، إذ هم عقلانيون تماماً، لكن تصورهم عن العقل يختلف عن تصور المذهب العقلي؛ إنهم يعترفون بدور العقل في المعرفة، لكنهم ينظرون إليه على أنه ملحق بالحس والخبرة التجريبية، والعقل عندهم نتاج التفكير في الخبرة التجريبية وليس مستقلاً عنها أبداً، إذ يدخل في هذه الخبرة وهو غير محمل بأي أفكار مسبقة فطرية، أي صفحة بيضاء كما يذهب لوك وهيوم"([18]). "أما العقل لدى المذهب العقلي فهو كل شئ، يدخل في التجربة ليضفي عليها النظام والترتيب بفضل ما لديه من أفكار فطرية، مثلما يذهب ديكارت ولايبنتز.
لكن الفكر الأوروبي لم يتجه إلى التضحية بالعقل في سبيل النقل، بل ظهرت فيه باقي المحاولات السابقة، إذا ظهرت محاولات لإثبات العقائد الدينية عن طريق العقل وحده عند ديكارت وباسكال ومالبرانش، كما ظهرت محاولات للحصول على الاستقلال التام للعقل، بعيداً عن أي سلطة تراثية موروثة، عند سبينوزا وفولتير وروسو والماديين الفرنسيين، خصوصاً ديدرو، صاحب الموسوعة في أواخر القرن الثامن عشر، وظهرت محاولة للتوفيق بين العقل والعقائد الإيمانية لدى كانط في كتابيه "نقد العقل العملي" و"الدين في حدود العقل وحده"([19]).
2-  الانسانية:
ترافق تطور المدن والتجاره والصناعه والبنوك مع تغيرات ثقافية وفكرية رحبة، كسرت الجمود الفكري اللاهوتي السائد، وأدت إلى "تهاوي استبداد الكنيسة في عقول الناس " وإخفاق وتراجع نفوذ الكنيسة الاقتصادي والسياسي، وظهور مجموعات من المثقفين البرجوازيين قطعوا كل صلة لهم بالكنيسة واللاهوت الديني المذهبي، وارتبطوا مباشرة بالعلم والفن، وقد سمي هؤلاء بأصحاب النزعة الإنسانية "HUMANISM"، وهو مصطلح دل آنذاك على الثقافة الزمنية في مواجهة الثقافة اللاهوتية أو السكولائية وقد أخذ هؤلاء المثقفون من أصحاب النزعة الإنسانية على عاتقهم معارضة ونقض المفاهيم والعلوم الدينية الكنيسية عبر نشر علومهم الدنيوية التي كانت بالفعل أقرب إلى التعبير عن مزاج البرجوازية الصاعدة آنذاك.
"ظهرت النزعة الإنسانية في بداياتها الأولى في عصر النهضة، لكي تُعطي الأولوية للخبرات الإنسانية الحية وتعلي من قيمة الإنسان، وتنظر إليه على أنه سيد الطبيعة وأعلى الموجودات، كما اهتمت بتصوير الطابع الدرامي للحياة الإنسانية، واتخاذ الرؤية الإنسانية باعتبارها مقياساً لكل شئ، بعد أن كانت الرؤية اللاهوتية هي المسيطرة في العصور الوسطى.
ثم انتقلت هذه النزعة إلى مجال الفكر والفلسفة، وصار الإنسان مقياس صدق وحقيقة المعرفة، مع ملاحظة اختلاف التيارات الفلسفية في ذلك، فالمذاهب التي تؤكد أولية العقل الإنساني جعلت من التفكير المجرد والوعي الذاتي مقياساً للحقيقة، والمذاهب التي تؤكد أولوية الحواس والإدراك الحسي جعلت الخبرة التجريبية البشرية مقياساً للحقيقة، لكن على الرغم من اختلاف العقليين عن التجريبين إلا أنهم جميعاً ينطلقون من أساس واحد، وهو إعطاء الأولوية للرؤية الإنسانية، سواء كانت هذه الرؤية حساً أو عقلاً "([20]).
3- الفرديـــة:
ظهرت النزعة الفردية واضحة في الفكر السياسي للفلاسفة المحدثين، وازدهرت في المذاهب الليبرالية لدى توماس هوبز، وجون لوك وديفيد هيوم، وآدم سميث وهي تصف المجتمع على أنه ليس إلا مجموعة من الأفراد، وعلى أن ما يحرك المجتمع هي المصالح الفردية، ووصفت ظهور السلطة السياسية بفكرة العقد الاجتماعي، الذي هو اتفاق بين أفراد على التخلي عن جزء من حقوقهم الطبيعية لتنظيم سياسي يمثلهم، في إطار فكرة الحق الطبيعي الذي هو حق الفرد في حفظ حياته وممتلكاته وتنمية قدراته واختيار حكامه، وفكرة الحق المدني الذي هو حق المواطن الفرد في أن تكون له حقوق مصانة ومعترف بها من قبل السلطة السياسية.
ومعنى هذا أن "عصر الفلسفة الحديثة كان عصر الفردية بدون منازع، لأن مقولة المجتمع باعتباره كياناً مستقلاً عن الأفراد، لم تكن قد ظهرت بعد، وعندما ظهرت في القرن التاسع عشر لن تعود الفردية هي النزعة المسيطرة على الفكر الأوروبي، إذ سوف تنافسها نزعات أخرى، عضوية وجماعية واشتراكية، على يد هيجل وماركس وعلماء الاجتماع كونت ودوركايم"([21]).
 
عصر النهضة والثقافة البورجوازية الجديدة:
لقد تفوقت الثقافة البرجوازية المبكرة، سواء بموسوعيتها أو بعمقها وقيمتها، على الثقافة الكنسية – الاقطاعية، وأحرزت انجازات رائعة في ميادين الادب، والمرسم، والنحت، والفن المعماري، والعلم، والفلسفة.
وكان من العناصر الرئيسية لهذه الثقافة – الاقرار باهتمامات الشخصية الانسانية وحوقها، ارتباطاً بالتطورات الفكرية العقلانية في إطار الفلسفة الأوروبية الحديثة كتتويج للأوضاع والعلاقات الاقتصادية البورجوازية المتنامية وصولاً إلى عصر النهضة المنبثق من الحداثة الفكرية التي نعني بها "عائلة الخطابات وأساليب التفكير التي انبثقت في عصر النهضة الأوروبية (في القرن السادس عشر تحديداً) في أوروبا الغربية نقيضاً لعائلة الخطابات وأساليب التفكير التقليدية التي كانت سائدة في العصور الوسطى،  وقد صاحبت الحداثة الفكرية سيرورة تحديث المجتمع الأوروبي وانتقاله من مجتمع زراعي إقطاعي بدائي إلى مجتمع صناعي رأسمالي تقاني مطور.
"ولئن برزت هذه العقيدة الجديدة في شكلها الصريح الواعي في فرنسا القرن الثامن عشر، فإنها وصلت أوجها في المادية الثورية الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر، وبالتحديد في ماركس وإنغلز، فقد تولدت عقيدة التنوير ونمت وازدهرت في سياق انتقال مجتمع أوروبا الغربية من المجتمع الزراعي الإقطاعي البدائي محدود الأفق إلى المجتمع الصناعي الرأسمالي المتطور لانهائي الأفق، لكن هذا الانتقال لم يكن عملية سهلة ولم يتم دفعة واحدة، وإنما احتاج إلى أربعة قرون على الأقل من المعاناة الممضة على جميع الصعد. وبالتحديد، فقد استلزم ثلاثة أنماط من الثورات الجذرية لكي يكتمل"([22]):
(1)   الثورات الاقتصادية (الثورة التجارية وما صاحبها من توسع جغرافي، الثورة الزراعية التي بدأت في إنجلترا في منتصف القرن السابع عشر، الثورة الصناعية التي بدأت في إنجلترا في منتصف القرن الثامن عشر)؛
(2)   الثورات السياسية البرجوازية التي حققت كثيراً من المهمات الديموقراطية لمجتمعات أوروبا الغربية (الثورة الهولندية في مطلع القرن السابع عشر، الثورة الإنجليزية منذ 1641-1688، الثورة الفرنسية الكبرى من 1789 – 1815، والثورة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر)؛
(3)   الثورات الثقافية الكبرى (النهضة الأوروبية والإصلاح الديني في القرن السادس عشر، الثورة العلمية الكبرى في القرن السابع عشر، والثورة الفلسفية التنويرية في القرنين السابع عشر والثامن عشر).
بهذه الثورات وغيرها من الشروخ حققت أوروبا الغربية انتقالها التحديثي من مجتمع الطبيعة إلى المجتمع المدني، وبالطبع، فقد أدت هذه الثورات والشروخ جميعاً دوراً في بناء فكر الحداثة.
ولعله من الضروري هنا تحديد السمات الرئيسية لعقيدة التنوير هذه والتي تجعل منها تحديا مصيريا لنا ولغيرنا من شعوب الحضارات غير الأوروبية.
أبرز سمات هذه العقيدة الجديدة هي([23]):
(1)    المادية، أي اعتبار الطبيعة كيانا مادياً مستقلا وقائماً في ذاته، تحكمه مبادىء وقوانين ونظم قابلة لأن تعرف، واعتبار الإنسان جزءاً من الطبيعة، وقوة طبيعة متميزة برزت حصيلة قدم العالم وتنوعه اللانهائي؛
(2)    الروح النقدي المتواصل، أي رفض سلطة المألوف وسلطة السلف وسلطة الغيب، ونزع هالة القدسية عن الأشياء والعلاقات، والالتزام بالعقل العلمي سلطة رئيسية للأحكام.
(3)    الثورية، أي إدراك تاريخية الطبيعة والمجتمع البشري، وإدراك الذات المدركة بصفتها قوة اجتماعية ثورية.
(4)    اللاغيبية التي تصل أوجها في الإلحاد، إذ سعت عقيدة التنوير إلى إقصاء المفهومات الغيبية من المعرفة والعلم أولاً، ثم من الأخلاق والتاريخ. وفيما كانت هذه المفهومات تشكل محور اهتمام فلسفة العصور الوسطى، فقد أضحت هامشية مهمشة في الفلسفة الحديثة.
(5)    اعتبار المعرفة العلمية قيمة قائمة في ذاتها ومطلقة الاستقلالية. فهي لا تقبل أي سلطة أو قيد يفرض عليها من خارجها. فقيودها، إن وجدت، تنبع من داخلها، ومن داخلها فقط. إن المعرفة قوة([24]) قائمة في ذاتها، لا تنحني إلا لنفسها، ولا تهدف إلا لذاتها. إنها التجسيد الأكبر لقوة الإنسان وحريته واستقلاله وتاريخيته.
(6)    الإنسانوية، أي الإيمان بالإنسان وقدرته الخلاقة واستقلاليته وحريته الذاتية واعتباره مصدراً وأساساً لكل قيمة.
(7)    الانفتاح على اللانهاية المادية الفعلية، ذلك إن فكر التنوير مسكون باللانهاية ويقبل عليها بشره ملحوظ، فهو يرفض أي قيد، أي حد، أي نهاية. وهو يعتبر لانهائية المادة مصدر غبطة طافحة وأساساً لحرية الإنسان وقدرته المتنامية.
(8)    الروح الاستكشافي، ويتجلى هذا الروح في اعتبار الكون اللامتناهي مسرحاً للفعل البشري وأداة للخلق والإبداع الإنساني.
إن صعود البرجوازية الأوروبية المتواصل أعطى دفعة للفلسفة مكنها من الدخول في سيرورة علمنة متواصلة، ترتب عليها فك ارتباط الفلسفة (والعلم) بالدين، بل وتهميش دور الدين في المجتمع واحتواؤه وإلحاقه بالفلسفة.
وكانت المعالم الرئيسية في هذه السيرورة –كما يقول المفكر هشام غصيب-: (1) نقل مصدر اليقين المعرفي من الذات الإلهية إلى الذات الإنسانية (ديكارت)؛  (2) نقل مصدر الوجود من الفكرة الإلهية إلى الخبرة البشرية المباشرة (التجريبيون، لوك، هيوم)؛  (3) نقل القدرة على تنظيم العالم المحسوس من الذات الإلهية إلى العقل البشري (كانط)؛ (4) نقل مصدر الخير والأخلاق من النص الإلهي إلى الإرادة البشرية العاقلة (كانط أيضاً)؛ (5) اعتبار الطبيعة والتاريخ تجليا للعقل المطلق، واعتبار الفلسفة والدولة الحديثة نهاية التاريخ وقمته (هيغل)؛ (6) اعتبار عقل هيغل المطلق تعبيراً عن ذات النوع الإنساني، أي اعتباره جوهراً كامنا للفرد البشري (فويرباخ)؛ (7) اعتبار العمل الاجتماعي الهادف (العقلاني) أساس المعرفة والتاريخ والتقدم البشري (ماركس)
وهكذا، "فقد أفلحت أوروبا الحديثة في علمنة الفكر تماماً، أي بناء منظومة فكرية علمانية تامة العلمنة تقوم مقام الدين في تنظيم حياة الناس وإرشادهم، أي في بناء عقيدة جديدة (عقيدة التنوير) من نوع جديد يرتكز إلى العلم والواقع المادي وقدرة الإنسان على خلق ذاته وبيئته، وأوج هذه العقيدة الجديدة هو كارل ماركس، الذي تتبلّر فيه روحية تاريخية جديدة تومىء إلى إنسان جديد ومشروع تاريخي جديد، ومما لا شك فيه أن هذا التطور الجديد شكل انتصاراً مدويا للفلسفة على الدين لا مثيل له في التاريخ، حيث إن عقيدة التنوير لم تفلح في تحرير الفلسفة كليا من الدين وفي تهميش الدين في المجتمع الأوروبي حسب، وإنما أفلحت أيضا في تجريد الدين من وظيفته الجماهيرية التقليدية المتمثلة في التحكم في وعي العوام وسلوكهم اليومي، بحيث أضحت المحرك الرئيسي للعوام في سلوكهم الجمعي، على الأقل في المراكز الرأسمالية المتقدمة"([25]).
وفي ضوء هذا التطور الذي أصاب كل مناحي الحياة في عصر النهضة، رفع فلاسفة هذا العصر رغم  الاختلافات بين مذاهبهم شعار "العلم" من أجل تدعيم سيطرة الإنسان على الطبيعة ورفض شعار العلم من أجل العلم.. لقد أصبحت التجربة هي الصيغة الأساسية للاختراعات والأبحاث العلمية التطبيقية في هذا العصر وأبرزها:-
-     صياغة القوانين الأساسية للميكانيك الكلاسيكي بما فيها قانون الجاذبية الذي وضعه نيوتن (1643 –1727).
-     تطوير علوم الرياضيات والهندسة والفيزياء والأحياء_ ديكارت ولايبنتز.
-     اكتشاف الدورة الدموية- هارفي - " تأكيد اكتشاف ابن النفيس"
-     قوانين الميكانيك وتعريف مفهوم العنصر الكيميائي_ بويل.
-     ميزان الحرارة الزئبقي والضغط الجوي_ تورشيللي ( أحد تلامذة جاليليو).
لم يكن سهلاً لهذه الاكتشافات العلمية وغيرها أن تكون بدون تطور الفلسفة عموماً والمذهب التجريبي على وجه الخصوص، في سياق الحراك والتناقض والصراع الاجتماعي الدائم والمستمر بوتائر متفاوتة في تسارعها بين القديم والجديد، إذ أنه بدون هذه الحركة والتناقض لم يكن ممكناً بروز الدعوة من أجل التغيير والتقدم التي عبر عنها فلاسفة عصر النهضة في أوروبا أمثال فرنسيس بيكون، ديكارت، هوبس، لايبنتز، سبينوزا، جون لوك، الذين قاموا بدور عظيم في بناء اللبنات الأساسية الأولى لذلك العصر، وتتويج الحداثة بكل مضامينها الفكرية والاقتصادية والسياسية في كوكبنا عموماً، أو في القسم الأكثر تطوراً منه على وجه الخصوص.
 


([1])جماعة من الأساتذة السوفيات – مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة – ص 205
([2]) المرجع نفسه - ص 206
([3]) كريم محمد – تاريخ الفلسفة.. كيف تطور الفكر الغربي عبر العصور؟ -  الجزيرة – 1/12/2017
 ([4]) د. صادق جلال العظم – دفاعاً عن المادية والتاريخ – دار الفكر الجديد – بيروت – الطبعة الأولى 1990 –ص35
([5]) اميل برهييه – مرجع سبق ذكره – تاريخ الفلسفة – الجزء الثالث - ص 268
([6]) المرجع نفسه  - ص  269
([7]) آلان وودز – الماركسية والفلسفة – الحوار المتمدن – العدد 6048 – 8/11/2018.
([8]) أشرف حسن منصور – الفلسفة الحديثة عوامل نشاتها وخصائصها العامة – الحوار المتمدن – 12/12/2010.
([9]) المرجع نفسه  .
([10]) حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990 م  –  ص 99
([11]) اميل برهييه – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفلسفة –  الجزء الثالث - ص  300
([12]) تقوم نظرية حق الملوك المقدس أو نظرية الحق الإلهي كما صاغها المؤرخ الفرنسي بوسويه (Bossuet )على "أربعة أركان رئيسية: أولها أن السلطة مقدسة، فالملوك هم خلفاء الله في الأرض وعن طريقهم يدير شؤون مملكته.. ولذلك لم يكن العرش الملكي عرشا ملكياً وكفى بل كان ذلك العرش عرش الإله ذاته. وثاني هذه الأركان أن السلطة الملكية سلطة أبوية إذ الملوك يحلون محل الله الذي هو الأب الحقيقي للجنس البشري.. وحيث كانت الفكرة الأولى عن القوة لدى الإنسان هي الفكرة التي يملكها عن القوة الأبوية.. فقد كان الملوك على غرار صور الآباء. وثالث الأركان، والناتج المنطقي والطبيعي عن الركنين المتقدمين، هو أن السلطة الملكية لا يمكنها أن تكون سوى سلطة مطلقة لا شي يقيدها أو يحد من إطلاقها، فليس للملك أن يقدم تبريراً لما يأمر به.. إذ بغير هذه السلطة المطلقة يكون عاجزاً عن فعل الخير وعن المعاقبة على الشر. وينبغي لسلطته أن تكون من القوة بحيث أنه ليس لأحد أن يأمل في الإفلات من قبضته. وأما الركن الرابع والأخير فهو أنه لا ينبغي لهذه السلطة أن تكون موضع اعتراض عليها من طرف الخاضعين لها ولا يجوز لها أن تكون موضع تذمر من المحكومين. (محمد هلال الخليفي – جذور الاستبداد في الحياة السياسية العربية المعاصرة)
([13]) د.هشام غصيب -الخطاب العربى وتحديات الحداثة –مجلة أوراق-رابطة الكتاب الأردنيين- تشرين أول1998-ص21.
([14]) التعاونيات :مشغل للحرفين الذين تحولوا الى عمال مأجورين بعد  أن قام الاقطاعيون بطردهم بسبب عدم وجود فائض ، وكانوا ينتجون سلعة واحدة فقط ، تحت اشراف التاجر أو المرابى.
([15]) المانيفاكتورة: وهى فرعين :  ا-المشتتة : وتعنى حصول كل حرفى على القيام بعمل معين فى بيتة بعيدا عن المشغل .    ب-ممركزة : وتعنى قيام رب العمل بشراء المشاغل والمواد الخام واقامة المنشأة التى يعمل تحت سقفها عدد من العمال المأجورين، وفى هذا الشكل من الماينفاكتورة ، وجد ما يعرف بـ "تقسيم العمل" ، أما معنى الكلمة  :ماينفاكتورةفهى المصنوع اليدوى (manus وتعنى يد) (factura وتعنى مصنوع).
([16]) سعيد بن سعيد العلوى –نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدنى (بحوث ومناقشات المجتمع المدنىفى الوطن العربى)-مركز دراسات الوحدة العربية-1992-ص44/45/46.
([17]) حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990 م -  ص 82/ 83
([18]) اشرف حسن منصور – الفلسفة الحديثة: عوامل نشأتها وخصائصها العامة – الحوار المتمدن – العدد 3213 – 12/12/2010.
([19]) المرجع نفسه .
([20]) المرجع نفسه .
([21])  المرجع نفسه .
([22]) هشام غصيب – نحن وعقيدة التنوير  – الحوار المتمدن –  27/4/2011
([23]) المرجع نفسه .
([24]) "المعرفة قوة" "Knowledge is Power" ، هذا المصطلح –كما يقول د. توفيق شومر- يستلزم الوقوف عنده وتحليل العلاقات التي تربط بين مفهوم المعرفة ومفهوم السلطة. وعند تناول موضوع كموضوع "سلطة المعرفة" لا بد من الانطلاق من ميشيل فوكو وكتاباته حول السلطة والمعرفة، فكلمة "سلطة" لم تعد تنحسر في السلطة السياسية ولكن لها مجموعة من الفضاءات التي تسبح خلالها: سلطة الموروث، سلطة النص، سلطة القانون، وهنا يفتح الباب للتفكير بسلطة المعرفة. وكلما كانت المعرفة متجذرة في الموروث ومتملكة ، أي عندما تكون هذه المعرفة تأسيسية للمعارف اللاحقة تصبح القدرة على التحول عن تأثيرها وسلطتها على البناء المعرفي للذات العارفة أكثر صعوبة، ويصبح الانفكاك من سطوتها وسيطرتها يحتاج إلى ثورة معرفية على الموروث وعلى الأطار المعرفي المتملك له.
([25]) هشام غصيب–  مشروعنا الفلسفي  – الحوار المتمدن –  18/4/2011



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن