ذكريات عن نعيم الطوباسي

نهاد ابو غوش
abughoshn@yahoo.com

2020 / 10 / 22

في الذكرى الأولى لرحيل المرحوم نعيم الطوباسي (أبو زيد) نقيب الصحفيين الأسبق، وبعد أن ودعته فلسطين الرسمية والأهلية، بما يليق به من تكريم. يجدر بنا أن نتوقف قليلا أمام سيرة هذا الرجل ليس بلغة العواطف والمشاعر فقط، بل – إن أمكن ذلك- بروح التقييم والنقد الموضوعي، لعل في ذلك ما ينصف الراحل من جهة، ويفيد العاملين والمشتغلين بالحقل العام وبخاصة في مجالات العمل الوطني والنقابي من جهة أخرى.
حظي أبو زيد بوداع مميّز، إذ نعاه الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء مرورا بمعظم القيادات الوطنية والنقابية على اختلاف توجهاتها ومشاربها، وقد تميز بشكل ملحوظ الدور الذي قامت به نقابة الصحفيين في وداع نقيبها السابق، جرى ذلك وكأن الشعب الفلسطيني اكتشف فجأة أنه خسر شخصية وطنية مميزة، وذلك على الرغم من عشرات المعارك الكبيرة والصغيرة التي خاضها الطوباسي أو خيضت ضده على امتداد فترة طويلة ، حوالي 20 عاما، شغل فيها موقع نقيب الصحفيين. وقد تنوعت المعارك التي خاضها نعيم الطوباسي ما بين معارك نقابية صرف، سواء مع مؤسسات صحفية وإعلامية، أو مع صحفيين أفراد ومنافسين وحتى مع زملاء وحلفاء سابقين، إلى مواجهات تمثل امتدادا للانقسامات السياسية وخاصة بعد الانقسام الممتد والمستمر بين حركة فتح التي انتمى لها الراحل ومثّلها، وبين حركة حماس وسلطة الأمر الواقع في قطاع غزة وما امتلكته هذه الحركة من أدوات ومؤسسات إعلامية وحضور ملموس في الجسم الصحفي، كل ذلك بمعزل عن المعركة الرئيسية التي خاضها نعيم الطوباسي واستهلكت معظم جهده بل وعمره، أي المعركة ضد الاحتلال وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني وضد الصحفيين والحريات، وهي معركة امتدت ساحاتها من الوطن ومختلف قراه ومدنه ومعتقلاته وسجونه وزنازين، إلى المنابر العربية والإقليمية والدولية.
ومن السهل على أي عارف لنعيم أو متابع أن يلحظ السمة الرئيسية التي تميزه: أنه ابن مميز لمرحلة تاريخية عاشها الشعب الفلسطيني وتميزت بصعود منظمة التحرير الفلسطينية، وانتزاع شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني وقيادة نضاله، إلى أن وصلت للنتائج التي نعرفها جميعا بكل ما فيها من ثمار حلوة ومرّة، منجزات وخيبات تركت آثارها على كل فئات الشعب وبالتحديد على نعيم الطوباسي نفسه الذي كان شريكا بمنجزاتها كما اكتوى بنارها.
في هذه المرحلة كانت "فلسطين" هي الموضوع الرئيسي، أي أن الهوية الفلسطينية، والانتماء لفلسطين هو أعلى وأسمى وأهم من أية حسابات أو أيديولوجيات مهما كانت وجاهتها، ويمكن القول، حسب اجتهاد كاتب هذه السطور، أن هذه هي إحدى ابرز ملامح المدرسة العرفاتية التي كان نعيم واحدا من تلامذتها، ف"الهوية الفلسطينية" و"الشرعية" أهم ألف مرة من العمل المؤسسي والانتخابات الدورية مثلا، من هذه الصفة أيضا اكتسب نعيم الطوباسي كثيرا من صفاته وسجاياه الشخصية، كانت فلسطين في نظره كبيرة جدا، أكبر من كل شيء، وكان يرى في نفسه وفي موقعه أهم من أي نقابة أو مؤسسة أو اتحاد آخر، وكان يعتد بفلسطين ويفرض هذه الصورة المبهرة على محاوريه وعلى أصدقائه وخصومه على حد سواء.
ومما يسجل للراحل ولسيرته أنه كان مبدئيا وصلبا في مناهضته للتطبيع مع الاحتلال ومؤسساته في كافة المنابر التي عمل بها، كان عنيدا في مواجهة التطبيع حتى في فترة شهر عسل اوسلو، حين لم يكن التطبيع محل إدانة واستنكار مثلما هو الآن، وقد ثبت نعيم على موقفه رافضا كل المغريات بحيث حمى النقابة وما تمثل من السقوط في وحل التطبيع وتمكن من تعميم وجهة نظره على اتحاد الصحفيين العرب والنقابات العربية كل على انفراد، في الوقت الذي كان فيه خصما عنيدا لممثلي دولة الاحتلال وساهم في اجتذاب التأييد الدولي من قبل الأطر الدولية لموقف نقابتنا وصحفيينا.
من صفات نعيم الطوباسي أيضا أنه كان وطنيا وحدويا منفتحا على الجميع، بل وراغبا في أن يضم الجميع تحت جناح الإطار الذي يمثله، ولذلك كثيرا ما كنت تراه مستعدا للتضحية والتنازل، يتوافق مع ممثلي الفصائل الأخرى أكثر مما يتوافق مع زملائه وإخوته من حركة فتح، ولم يكن ذلك من منطلق الغيرية والإيثار بمقدار أنها كانت نابعة من ثقته أن فتح هي التي تقود.
ومن أهم ما يميز شخصية الراحل انحيازه المطلق للصحفيين وحريتهم في وجه أي انتهاك يتعرضون له بصرف النظر عمن يقترفه، هذه المعادلة دفعته إلى الصدام مع مراكز قوى في السلطة وأصدقاء شخصيين تولوا مناصب أمنية وحكومية رفيعة، لكنه كان يدرك أن أفضل طريقة يدافع بها عن فتح ومواقفها ومكانتها هي انحيازه للصحفيين ولحرية الصحافة.
أما في الخصال الشخصية فكأنّ الراحل جمع صفاته الوطنية والنقابية، المتركزة في الهوية الفلسطينية، إلى نشأته وخصاله التي ورثها من بيئته التقليدية والعشائرية، الفلاحية وشبه البدوية، حيث الأولوية القصوى لقيم النخوة والشهامة بعيدا جدا عن قيم السوق أو قيم مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية. ففي كثير من المواقف والمحطات يتضح لك أن الذي يتصرف أمامك هو "أبو زيد" الصاحب الوفي والأقرب إلى شيخ العشيرة، من الشخصية المؤسسية المحكومة للأنظمة والتعليمات الباردة



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن