التاريخ وعبوره للتخصصات من أجل الكشف عن الحقيقة والقيام بمهمة التأريخ

حنضوري حميد
handouri1993@gmail.com

2020 / 10 / 19

يعــدّ موضوع المعرفة التاريخية والعلوم الاجتماعية من بين المواضيع التي استأثرت باهتمام الباحثين قديما وحديثا، وهي من أهم المجالات في البحث الإبستمولوجي والعلوم الإنسانية كالفلسفة والتاريخ ، إنه موضوع تتقاطع فيه مجالات بحث متعددة، تهتم بموضوع التاريخ من حيث هو معرفة موضوعية نسبية، تتقاطع مع العلوم الاجتماعية لتوثيق النشاط البشري. فما المقصود بالمعرفة التاريخية؟ وما هي العلوم التي انفتح عليها التاريخ، وساعدته على القيام بمهمة التأريخ؟
فالتاريخ أو المعرفة التاريخية إذن هي التعريف بالماضي الإنساني منذ القدم إلى اليوم. وهكذا تكون معرفة موجهة نحو الماضي الإنساني خصوصا بهدف الكشف عن حقيقة التاريخ البشري بمنهجية علمية دقيقة. أما التاريخ عند ابن خلدون، فهو فن من الفنون التي تداوله الأمم والأجيال، وتشد إليه الركاب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء مع الجهال. إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول من القرون الأول ... وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق.
وقد اعتبر البعض المعرفة التاريخية جزءا من العلوم الإنسانية، بينما اعتبرها البعض الآخر من العلوم الاجتماعية مما يتطلب منا محاولة تحديد موقع التاريخ داخل هاتين المجموعتين من العلوم، فإذا كانت العلوم الإنسانية تعالج الماضي في حد ذاته، وتهتم بالإنسان وبنمط تطوره. فإن العلوم الاجتماعية تميل إلى الاهتمام بالحاضر والمستقبل، ولا تعنى بالماضي فقط. وبذلك فهي تنزع نحو التنبؤ وانتقاء الأحداث، وهذا أمر لا يناسب بحث العالم الإنساني مثل المؤرخ.
وبالرغم من هذا الاختلاف يبدو أن هناك أوجه تشابه بين هاتين المجموعتين من العلوم، فمن ناحية، كلاهما يعالج موضوع الإنسان، ذلك الكائن الاجتماعي الذي يتميز بالذكاء والفطنة والإرادة؛ ومن ناحية ثانية يبدو أن مجموعتي العلوم كلتيهما تميل إلى التعميم. والمؤرخ الحق لا يستطيع أن ينكر أن مهمته الأصلية هي البحث في الماضي الإنساني. وبذلك فهو يدخل حين يشتغل بالتاريخ في نطاق العلوم الإنسانية، غير أن عملية التأريخ الحديث تهتم كثيرا بتجميع السمات العامة والمهمة لهذا الماضي، والخروج منها بقوانين مفسِّرة، وعمل التاريخ بهذا الشكل يمكن إدخاله في نطاق العلوم الاجتماعية أيضا. ومن ثم فإن المؤرخ هو العالم الإنساني الذي يتوجب أن يهتم بالماضي. كما أنه أيضا عالم اجتماع يلزمه أن يقنن الأحداث ليرى من خلالها الحاضر، ويستشرف المتقبل.
ويمكن اعتبار أقرب العلوم نفعا للتاريخ علم "تحليل الوثائق التريخية" فالتاريخ يدور وجودا وعدما مع هذا العلم. فعندما أراد المؤرخون الاشتغال بالتاريخ بحثوا عن الوثائق لكتابته، لكن هذه الوثائق كانت تشتمل على الغث والسمين، فكان عليهم النظر فيها، وتحقيقها ونقدها ، وهكذا اضطروا إلى خلق منهج لهذا التحقيق فصححوا به الوثائق قبل استعمالها. ولقد خصص لنا أساتذتنا موضوعا منفردا عن منهج تحليل الوثيقة، وتفضل بتلقين هذه المادة أحد أساتذة شعبة التاريخ، فجمع الضروري من عناصرها في كتيب درج الطلبة على اقتنائه، وتعلم الطريقة منه، وهو بعنوان: "الأساس في منهجية نقد النصوص التاريخية". وقد تحدث في الكتيب عن نشأة هذا العلم، وكيف أسس العلماء طرقه ومناهجه، حتى صار العلم الذي يساعد التاريخ؛ بل صار ضروريا لكتابة أي تاريخ، وبدونه يستحيل وجود التاريخ المحقق أو الواقعي؟
ويعد علم الجغرافيا من العلوم التي تساعد في تفسير كثير من القضايا التاريخية حتى إن علما خاصا ظهر أواخر القرن الماضي يعرف- بالجغرافيا التاريخية- وقدم كل من فاوست وكلاوك تفسيرات تعكس الصلة القوية بين علم التاريخ وعلم الجغرافيا. وبينت هذه الدراسات وغيرها أثر الجغرافيا في الإنسان ونشاطه وفكره وطقوسه ومعتقداته وأديانه وسلوكه. فالتاريخ ما هو إلا تفاعل بين الإنسان وهو يتحرك على الأرض لصنع التاريخ، وبين بيئته الطبيعية مستفيدا من التضاريس والمناخ، وما يتفرع عن المناخ من أمطار وبرودة وحرارة أو رطوبة أو غطاء نباتي، وكذلك ما يتفرع عن التضاريس من معطيات تتجسد في الجبال والسهول والمرتفعات وأصناف التربة. وهكذا يستطيع المؤرخ أن يحلل العديد من القضايا التاريخية في ضوء الخصائص الجغرافية.
كما انفتح التاريخ كذلك على علم الاجتماع حيث يعتمد عليه في تفسير أية ظاهرة اجتماعية تعود لأصولها وجذورها التاريخية، ولما كان هذا العلم لا يعالج أية مشكلة اجتماعية إلا في إطار منظورها التاريخي، بمعنى أنه يعالجها من خلال ماضيها وجذورها. وهذا يدل على أن التاريخ يلعب دورا هاما في خدمة هذا العلم، كما أن علم الاجتماع يفيد التاريخ منهجيا ويمده بمعلومات تضيء له جوانب من الحدث التاريخي.
و في الختام يمكن القول، إن التاريخ يمثل سعيا وجهدا من أجل الوصول إلى الحقيقة كغيره من العلوم، إلا أن كثافة موضوعه، واتساع مجاله، تتعذر معهما المعرفة الشمولية للماضي، والإحاطة الكاملة بكل أحداثه، مما يفرض وجود الاختصاص في حقب التاريخ. إلى جانب هذا نجد أن المؤرخ المختص في الحقل التاريخي يستحيل عليه الاتصال المباشر بالمادة المتنوعة التي يتناولها بالدراسة، ومن ثم يعجز عن التحكم فيها، حيث إنه لا ينفذ إلى الماضي إلا من خلال ما خلفه هذا الماضي ذاته من آثار. وبعد استنطاق هذه المخلفات ونقدها في أفق استخلاص صورة الماضي منها.
ولا يمكن إغفال علاقة التاريخ بالعلوم السياسية، وهنا وجب التنبيه على أن هذه العلاقة بين العلمين علاقة قديمة وضرورية حتى، ذلك أن المتخصصين في التاريخ المعاصر على وجه الخصوص يحتاجون إلى الاطلاع دائما على آخر ما يحدث في السياسة، ولن يمدهم بذلك إلا المتخصصون في العلوم السياسية، فيكون على المؤرخين الرجوع باستمرار إلى ما كتبه علماء السياسة. ونفس الشيء يحدث بالنسبة للمشتغلين بالعلوم السياسية، إذ يكون عليهم الاطلاع على الأصول التاريخية المرتبطة بالمشكلات السياسية التي يعكفون على دراستها. وأهم شيء يعنى به المشتغلون بالعلوم السياسية يتركز في موضوعين: أولهما خاص باتخاذ القرارات السياسية من حيث الظروف التي اتخذت فيها، ومن حيث القوى المؤثرة التي تكون من وراء القرارات المتخذة، على اعتبار أن هذه القرارات تكون معبرة عن مصالح هذه القوى.
أما ثانيهما فيتصل بالمؤسسات سواء كانت تنفيذية مثل الوزارة، أو تشريعية مثل البرلمان، أو جماهيرية مثل الأحزاب والنقابات. ولا يستطيع المؤرخ بدوره أن يتجاهل معطيات المشتغلين بالعلوم السياسية، فتلك الدراسات تفيده أيما فائدة، بل إن المؤرخين ورجال العلوم السياسية كثيرا ما تعاونوا في إصدار دراسات ذات طبيعة تاريخية سياسية، فعلى سبيل المثال عند دراسة مؤسسة كالبرلمان، يقوم المؤرخ بتتبع تاريخ المجالس التي تتكون منها تلك المؤسسة التشريعية، من حيث ظروف نشأتها وتركيبة نوابها أو شيوخها، وعلاقتها بمختلف المؤسسات الأخرى. بينما يضطلع المتخصص في العلوم السياسية بدراسة إطارها القانوني. وأهم القضايا التي تعالجها، وكيفية اتخاذها لقراراتها، ومثل هذا التعاون يمكن أن يمتد إلى مختلف الشؤون الأخرى التي يعنى بها المتخصصون في العلوم السياسية.
ويمكن الاقتصار فقط على هذه العلوم التي انفتح عليها التاريخ، وإلا فإن علوما كثيرة أخرى موجودة لا يمكن للمرء الإحاطة بها في هذا المقام غير المتسع لذلك، ومنها علاقة التاريخ بعلم النفس، وعلاقته بعلم الاقتصاد، وعلاقته بالأركيولوجيا، وعلاقته بعلم النقود ( النُمِّيَّات) وغيرها من العلوم. وهكذا تكون المعرفة التاريخية قد انفتحت على علوم كثيرة يستفيد منها التاريخ، وتفيده في علاقة تفاعلية مثمرة.
المراجع.
1ـ عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، دمشق، دار يعرب، طبعة. 1، 2004م.
2ـ - الحمدي العربي، الأساس في منهجية نقد النصوص التاريخية، مكناس- المغرب، مطبعة سجلماسة، ط.2.
ـ 3Henri-Erinée Marrou, de la connaissance historique, Paris, Seul, 1959, pp. 32- 33.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن