مركز الأبحاث الفلسطيني: رحلة الذاكرة من اللجوء إلى التدمير القسم الأول

محمود الصباغ

2020 / 10 / 9

"الأرشيف الوطني الفلسطيني لدى السلطة الفلسطينية يختزن الكثير من المعلومات حول فلسطين التاريخية أثناء فترة الحكم العثماني وصولاً لما قبل العام 1948. لكن من المستغرب أنه لا يضم أي مواد توثيقية للفترة ما بين عامي 1964-1994" (1)
استهلال
من يشترِ لغزاً, يبعْ تاريخاً, وإذا كانت الأرشفة -في الأصل- عملية انتقائية وتأويلية كما يراها بول ريكور, فالرواية التاريخية بمجملها سوف تكون سلسلة تأويلات منذ البداية ولن تختلف هذه الرواية في خضوعها للتأويل باختلاف شكلها المورفولوجي, الرواية الشفوية والرواية "الوثائقية", ولعل المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس "لم يكن مخطئاً حين أوضح في كتابه "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" عدم اهتمامه بـ "الشهادات الشفوية" للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء نظراً لأن الذاكرة البشرية لايمكن الوثوق بها عند إلقاء الضوء على أحداث الماضي [ويقصد بيني موريس هنا ما حصل في عام النكبة 1948]. ولعل ما دفع بيني موريس لتبني وجهة النظر الصارمة تلك سؤاله عن حادثة طرد العرب من مدينة اللد والذي وجهه إلى أحد أبرز القادة الصهاينة الذين عاصروا النكبة وهو الجنرال يغال يادين, فحصل موريس على الجواب الاستنكاري "أي طرد تقصد؟" وهذا ما جعله يعتمد على "الوثيقة" أكثر من الرواية [اعتمد موريس بالدرجة الأولى على أرشيف الهاغاناه والجيش الإسرائيلي ومحاضر جلسات مجلس الوزراء].
وها هنا نحن أمام حكاية مؤسسة تعدُّ أحد المفاخر التي يعتز بها الفلسطينيون في سياق صراعهم اليومي مع إسرائيل. مؤسسة كان لها الفضل على أجيال من المفكرين الفلسطينيين والعرب وغير العرب, لعب فيه الفلسطينيون دوراً ريادياً ليس على مستوى الصراع مع إسرائيل فقط, ولكن أيضاً على صعيد "المنهج" وطرائق العمل المتنوعة القابلة للاستثمار في سياق المعركة مع العدو الإسرائيلي عبر الدوريات والمجلات والكراسات الفكرية والدراسات السياسية التي كان يصدرها مركز الأبحاث وغيره من المؤسسات الثقافية الفلسطينية, والتأثير الفعّال والإيجابي لهذه الإصدارات عالمياً على عدد كبير من المفكرين الغربيين لصالح القضية الفلسطينية.
و من هذه الزاوية يمكن القول أن مركز الأبحاث ربما يعدّ أحد أهم إنجازات م ت ف بأدائه المميز في بلورة وإبراز الهوية الفلسطينية وتقديم سردية "وطنية" قائمة على المعطى التاريخي في مواجهة الرواية الصهيونية, مما جعله من أهم المراجع الأساسية لقضايا الصراع العربي الإسرائيلي. ورغم سلسلة الهزائم المتتالية التي لحقت بالفلسطينيين, لكنهم- بطريقة ما لم يسمحوا لعدوهم بالتفرد في كتابة تاريخ الصراع ولم يسمحوا له أن يجبرهم على الاكتفاء بصياغة ذاكرة الهزيمة فقط, لأنهم في واقع الأمر, وكما يرى فيصل دراج, لن يكونوا بحاجة للتاريخ إلا إذا كانوا قادرين على استثماره في معارك لا تجدد هزائمهم.

الحدث

في أحد أيام شباط-فبراير الباردة من العام 1983, كانت مجموعة من النساء والرجال على رأس عملهم اليومي الاعتيادي في المبنى الواقع في زقاق " كولومباني" المتفرع من شارع السادات في منطقة رأس بيروت ليس بعيداً عن شارع الحمراء الشهير قرب روشة بيروت, ورغم انهماك الجميع في روتين العمل إلا أن ثمة هاجس وخوف مرتقب يسيطر على الأجواء, فالكل كان على علم عبر وسائط مختلفة "صديقة وغير صديقة" بالتهديدات التي طالتهم وطالت مديرهم شخصياً (صبري جرس), ورغم شعور الاطمئنان الذي يوحيه منظر رجال الدرك اللبناني الذين يحرسون المبنى إلّا أن أحدهم لم يخف هواجسه مما هو قادم. ومع اقتراب نهاية الدوام الرسمي بات الجميع متعجلاً لإنهاء العمل والتخلص من حالة القلق بمغادرة المبنى. ولكن, وكما يقال لم ينطبق حساب الحقل على حساب البيدر, إذ عند الدقيقة الثامنة والخمسين بعد الواحدة دوّى انفجار سيارة محمّلة, حسب التقارير الأمنية اللبنانية بحوالي 30 كغ من مادة الهوكسيجين شديدة الانفجار- ما يعادل 250 كغ من الديناميت-وما هي إلا دقائق حتى تحول المبنى إلى ساحة حرب حقيقية(2) اختلط فيها اللحم البشري بالأوراق والكتب والأبواب وزجاج النوافذ والجدران المتطايرة وحضرت سيارات الإسعاف والمطافئ إلى المكان بعد نحو عشر دقائق من الانفجار, وسرعان ما تبين أن ثمانية من العاملين في المركز قد استشهدوا, كما أصيب ثمانية عشر بجروح خطيرة(3).
وبعد التفجير صدر قرار رسمي لبناني يقضي بإغلاق المركز نهائيا وأصبح العاملين فيه عرضة للملاحقة والاعتقال والتحقيق من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية, فاعتقل فيصل حوراني مدير تحرير "شؤون فلسطينية" وتم إبعاده إلى دمشق كما اعتقل أحمد شاهين وهو معارض سوري وتم إبعاده إلى قبرص, وكان هذا بمثابة الإعلان عن طيّ صفحة مركز الأبحاث الفلسطيني الذي انطلق في بيروت, ومن ثم وبعد عملية تبادل أسرى أعادت إسرائيل محتويات المركز إلى الجزائر وقد جرت لاحقاً محاولات عدة لإنقاذ مكتبة المركز ومحتوياتها الوثائقية لكنها فشلت جميعها, رغم استعادة المركز بعضاً من نشاطه فقام بإصدار ثلاثة أعداد من مجلة "شؤون فلسطينية" (128-129, 130-133) تضمنت مقابلات مطولة مع قادة العمل العسكري الفلسطيني, منهم: سعد صايل, ممدوح نوفل, أبو جهاد الوزير, أبو موسى, إضافة إلى شهادات معتقلي أنصار وشهادات حية لناجين من مجزرة صبرا وشاتيلا.

لم يكن انفجار العام 1983 الجريمة الأولى التي تستهدف المركز فقد سبقته عدة اعتداءات بدءً من العام 1969 حين ألقيت قنبلة متفجرة على مدخل المبنى مما أدى إلى تحطيم زجاج المدخل دون إصابات بشرية, وفي صيف العام 1972 أُرسلَ مغلف ملغوم إلى المدير العام الأسبق الدكتور أنيس الصايغ فانفجر به عند فتحه مما تسبب بأضرار جسدية بالغة في يديه وعينيه وأذنه, وفي أواخر العام 1974 أُطلقت 4 صواريخ على مبنى المركز من على ظهر سيارة كانت متوقفة في الساحة المحاذية له, فأصيبت المكتبة مما تسبب بتضرر وتلف بعض الكتب(يقدر عددها بالمئات), وفي تموز - يوليو 1982 انفجرت سيارة ملغومة قرب المبنى أدّى انفجارها إلى تحطيم أبوابه ومحتوياته وإصابة أحد الحراس بجروح, وبعدها بشهر انفجرت سيارة أخرى لكنها كانت ذات ضرر أخف, وفي الشهر التالي سيطرت القوات الإسرائيلية على المبنى ونهبت محتوياته إثر اجتياحها بيروت الغربية وخروج المقاتلين الفلسطيين وكوادر م ت ف من لبنان بالاتفاق بين هذه الأخيرة والسلطات اللبنانية وقيادة الحركة الوطنية اللبنانية مع المبعوث الأمريكي حينها فيليب حبيب بشأن فك الحصار عن بيروت والخروج الآمن لأكبر عدد من المقاتلين الفلسطينيين والتعهد بعدم تعرض المدنيين الفلسطينيين ومؤسساتهم في لبنان لأي إساءة من قبل إسرائيل أو أي جهة لبنانية أخرى وبضمانات دول عظمى من بينها الولايات المتحدة الأمريكية [عززت القيادة الفلسطينية الضمانات اللبنانية بتقديم رشىً بملايين الدولارات لعدد من أصحاب النفوذ.. ويذكر فيصل حوراني أنه حضر شخصياً اتصالاً هاتفياً تلقاه صلاح خلف "أبو إياد" من أمين الجميل الذي كان سيخلف أخيه بشير رئيساً للبنان, حيث كرّر الجميّل -على سمع حوراني- تعهده حماية مركز الأبحاث والمستشفيات والعيادات الطبية الفلسطينية وبقية المؤسسات المدنية وتلقى مقابل ذلك وعداً من أبو إياد بـ "منافع" ستوفرها له القيادة الفلسطينية]. ومن الثابت أن وحدات من الجيش الإسرائيلي قامت على مدى أسبوع كامل, وبمساعدة خبراء توثيق ومكتبات, بنقل محتويات المركز إلى أقبية الجامعة العبرية في القدس, في ذات الوقت عمدت وحدات الاستخبارات الإسرائيلية أثناء وجودها في بيروت إلى ملاحقة المسؤولين عن المركز فاقتحمت عدداً من البيوت التي تفترض تواجدهم فيها, علماً أنه تم إجلاء آخر العاملين في المركز قبل وصول القوات الإسرائيلية بساعتين ولم يبق هناك سوى حراسه المدنيين(4).
ويستذكر فيصل حوراني بالقول أن صحفية أمريكية مستعربة اسمها "جانيت لي ستيفنسون" كان تألف التردد عليهم في المركز لتستفيد من محتوياته وخدماته وقد ربطتها بسبب ذلك صداقة متينة مع بعض العاملين في المركز ومن ضمنهم حوراني نفسه وكانت هذه الصحفية تقطن في شقة على سطح عمارة مقابلة تطل على المركز, تقول هذه الصحفية أن حوالي خمسة وثلاثين شاحنة عسكرية إسرائيلية كانت جاهزة لنقل محتوياته. ويقول حوراني أنه طلب من هذه الصحفية أن تقوم بمقابلة الضابط قائد الوحدة العسكرية الإسرائيلية المسؤول عن نقل محتويات المركز, فأعجبت بالفكرة ونفذتها لتوها, ولما سألته عن مسوغات نهب موجودات المركز على يد وحدته التي من المفترض أن تكون ملتزمة بالاتفاقات والضمانات الدولية التي ترتبت إثر خروج م ت ف من بيروت فأجابها أن الجيش الإسرائيلي دخل المدينة لأن م ت ف لم تخرج جميع "المخربين" التابعين لها وأن هذا المركز هو مركز للمخربين ويبدو أنهم خدعوكِ (يوجه حديثه للصحفية) فهل تصدقين أن بين هؤلاء الفلسطينيين من يقرأ ويكتب؟ فلما احتجت الصحفية بأن ما ينقله جنوده ليس أسلحة أو متفجرات بل كتباً ومكاتب وأدوات تلزم عمل الباحثين وليس "المخربين" طلب منها الضابط أن تريه هويتها الصحفية ثم قام بنقل اسمها إلى مفكرته, وبعد بضعة شهور استدعيت الصحفية إلى سفارة بلدها لتقابل مسؤولاً فيها ولم يشاهدها أحد تخرج من السفارة بعد ذلك.
ونتيجة لهذا استولت إسرائيل على مقتنيات مكتبة المركز التي تضم الموسوعات والمعاجم والأطالس والدراسات والبحوث ضمن أكثر من عشرين ألف مجلد تتناول الشؤون الفلسطينية والإسرائيلية وقضايا الصراع العربي الإسرائيلي ومسائل الشرق الأوسط والقضايا الأخرى ذات الصلة, وكانت هذه المجلدات تصدر باللغات العربية (حوالي خمسة آلاف كتاب) والعبرية (حوالي ثلاثة آلاف كتاب) والإنكليزية(حوالي اثني عشر ألف كتاب) والفرنسية ومن بينها مئات الكتب النادرة ومئات المراجع المهمة والمخطوطات الثمينة, وكذلك مقتنيات الأرشيف من ملفات وأشرطة ميكروفيلم والتجهيزات المهمة كافة, التي يستخدمها المركز في عمله من آلات لتصوير الوثائق وتصنيفها وقراءتها ومن أجهزة تسجيل وراديو وتلفزيون وآلات طباعة وناسخة ومئات الأشرطة المسجلة كتاريخ شفوي وأبرزها:
- تسجيلات صوتية لضباط فلسطينيين شاركوا في أحداث أيلول 1970 في الأردن
-تسجيلات صوتية مع أعلام الثقافة الوطنية الفلسطينية من أبرزهم: محمد عزة دروزة, عجاج نويهض, مصطفى مراد الدباغ(5), أكرم زعيتر وغيرهم الكثير الكثير[راجع مداخلة د. سميح شبيب المذكورة في الهوامش أدناه], علاوة على الدوريات الشهرية والفصلية, (ينتج المركز 160 دورية باللغة العربية و49 بالعبرية و250 بالإنكليزية و63 بالفرنسية) والعديد من الوثائق والأوراق الخاصة مثل:
-أوراق إميلي فرانسيس نيوتن, وهي امرأة عاشت في فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين
-مجموعة كبيرة من أوراق دائرة المخابرات في الشرطة الفلسطينية في زمن الانتداب البريطاني
-وثائق حكومة عموم فلسطين
-وثائق جيش الإنقاذ
-أوراق الحاج أمين الحسيني (من الجدير ذكره أن ميليشيات حزب الكتائب اللبناني أحرقت مقر الهيئة العربية العليا في منطقة الحازمية بما كانت تحتوي من مستندات ووثائق).
-مذكرات حسين فخري الخالدي وحنا عصفور وعوني عبد الهادي وفوزي القاوقجي وكمال ناصر.
- مجموعات كاملة من إحصاءات وبيانات دائرة الأراضي في حكومة الانتداب.
-آلاف البيانات التي صدرت عن منظمة التحرير الفلسطينية ودوائرها, وعن الفصائل الفلسطينية المختلفة.
-آلاف الصور ومئات الخرائط وبينها خرائط عسكرية مفصلة ودقيقة
-مئات الكتب النادرة عن الآثار في فلسطين
-مئات الكتب عن الجماعات اليهودية قام بجمعها أنيس الصايغ خلال خمس سنوات من التحايل على شخص يهودي بريطاني كان يحتفظ بها في إحدى مكتبات لندن ويرفض بيعها إلا لأفراد متفرقين(6).

التأسيس

تم إنشاء مركز الأبحاث الفلسطيني في نهاية شباط-فبراير 1965 بُعيد قيام منظمة التحرير الفلسطينية في أواخر أيار-مايو 1964 تحت اسم مركز الأبحاث -م ت ف برئاسة الدكتور فايز الصايغ (يقول فيصل الحوراني أن قرار تشكيل مركز الأبحاث هو القرار الثاني الذي اتخذته اللجنة التنفيذية بعد تشكيلها) حين كان أحمد الشقيري رئيسها على أن يكون مقره في العاصمة اللبنانية بيروت وبسبب من علاقاته الشخصية الوطيدة مع العديد من الزعماء اللبنانيين استطاع الشقيري أن يجعل مجلس النواب اللبناني يصدر قراراً يمنح بموجبه الحصانة الدبلوماسية لمبنى المركز ومحتوياته ومديره العام, واعتبرت اللجنة التنفيذية المركز مؤسسة تابعة للمنظمة يدريها مدير عام يتبع مباشرة رئيس اللجنة التنفيذية, وتطبق في المركز الأنظمة واللوائح والإجراءات المالية والإدارية النافذة في المنظمة. ويشرف الصندوق القومي الفلسطيني على حساباته المالية (يعتمد المركز في تغطية نفقاته على الميزانية السنوية التي تخصصها اللجنة التنفيذية للمنظمة بعد أن يصادق عليها المجلس الوطني الفلسطيني بالإضافة إلى بعض المساعدات التي تقررها اللجنة في الحالات الاستثنائية. وفي العام 1972 قرر مجلس جامعة الدول العربية تقديم معونة سنوية تضاف إلى ميزانية المركز السنوية), ويتمتع المركز باستقلالية كبيرة فيما يتصل بأنشطته في المجالات التي أنشئ من أجلها باعتباره المؤسسة المدنية الأولى(7) التي أنشأتها م ت ف. ومن كتالوغ التعريف بالمركز نقرأ أن أهداف المركز تتمثل في نقاط تخصصية هدفها تغطية الشأن العربي-الإسرائيلي-الصهيوني وتوفير المعلومات الصحيحة والوثائق القديمة والمعاصرة حول القضية الفلسطينية وما يتصل بقضايا الصراع وتنظيم سبل الاستفادة من هذه الوثائق وإنشاء مكتبة متخصصة لهذا الغرض ونشر الأبحاث الميدانية والدراسات حول القضية الفلسطينية لتكون مراجع يستفيد منها القراء والدارسون والمختصون، فضلاً عن نشر المعرفة بالعدو في الأوساط الفلسطينية والعربية, وتوفير المعلومات الدقيقة عن الشؤون الإسرائيلية . وفي هذا المجال يعتبر المركز الأول من نوعه على الصعيد العربي (أهم وأشهر مركز أبحاث ودراسات عربي وهو مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أنشىء في العام 1968 أي بعد نظيره الفلسطيني بعامين تقريباً)
استلم الدكتور أنيس الصايغ رئاسة المركز في آب-أغسطس 1966 وكان يحتل المركز شقة متوسطة الحجم فيها مكتبة مؤلفة من أربع خزائن فقط وكان قد أصدر خمسة كتب لا غير, وحين غادره د. أنيس الصايغ في العام 1977 كان يشغل مبنى من ستة طوابق بينها طبقتان للمكتبة تضم حوالي 20 ألف مجلد[يذكر حوراني أن العدد يزيد عن 25 ألف عندما نهبته إسرائيل, بالإضافة إلى أرشيف ضم ما أمكن جمعه من أدبيات الأحزاب والفصائل الوطنية الفلسطينية قبل وبعد العام 1948, من أهمها قصاصات مما نشرته الصحف الرئيسية من أنباء و آراء تتصل بقضايا الصراع التي اختص بها المركز, وكذلك الأدبيات الإسرائيلية التي نشرت منذ تأسيس إسرائيل ومن ضمنها محاضر اجتماعات الكنيست وغيرها] وعشرات الخزائن التي تحتوي وثائق وخرائط وملفات معلوماتية, وكانت منشورات المركز قد تجاوزت الثلاثمئة, علاوة على مجلة "شؤون فلسطينية" الشهرية ونشرة رصد إذاعة إسرائيل (التي كانت تصدر مرتين يوميا ليتسنى للمختصين وقادة الفصائل متابعة أحوال إسرائيل) وزاد عدد الباحثين من ثلاثة وقت التأسيس إلى أربعمئة عند مغادرة أنيس الصايغ المركز و الإداريون من خمسة إلى عشرين, أي أن المركز في ذروة عطائه كان يضم سبعين موظفاً(8) .
غادر أنيس الصايغ المركز بعد تزايد الخلافات بينه وبين الرئيس عرفات فاستقال من منصبه وتولى إدارة المركز محمود درويش لكنه استقال بعد عدة أشهر لتنتقل الإدارة إلى نبيل شعث ثم إلى صبري جريس الذي تولى منذ استلام منصبه مهمة تصوير محتويات الأرشيف أول بأول بسبب من مخاطر الحرب الدائرة في لبنان واحتمال تعرض المركز للنهب أو الحرق أو التفجير, واستطاع المركز بإدارة صبري جريس تصوير المواد حتى العام 1978, وتقرر الاحتفاظ بالنسخة المصورة خارج لبنان وقد وقع الاختيار على العراق حيث تمكن جريس من عقد اتفاق مع "مركز الدراسات الإسرائيلية" الذي أنشأته الحكومة العراقية في بغداد لحفظ ما تم تصويره أو ما سوف يتم تصويره من وثائق, ويذكر حوراني أن من ضمن ما أرسل للعراق صورة عن سجلات طابو فلسطين التي أودعتها سلطات الانتداب البريطاني في مكتبة الأمم المتحدة في نيويورك, وبعد حصول م ت ف على مقعد عضو مراقب في المنظمة الأممية, لاحظ ممثليها هناك اختفاء هذه الصورة, ونظراً لأهمية الوثيقة عكفت المنظمة على البحث عنها حتى تم اكتشاف صورة أخرى عنها في قبرص كانت قد أودعتها هناك سلطات الانتداب البريطاني, فتم الحصول على نسخة منها وهي التي تم نقلها للعراق.
وفي مرحلة لاحقة، أولى المركز عناية أكبر لدراسة أحوال الشعب الفلسطيني ومؤسساته، إلى جانب متابعة الشؤون الإسرائيلية. ومنذ العام 1967 وجّه المركز عناية خاصة بشؤون المناطق التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967 بالإضافة إلى اهتمامه بشؤون الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة منذ العام 1948 ومتابعته مشكلاتهم الاجتماعية وأشكال نضالهم. واتجه المركز، لا سيما بعد العام 1967 , إلى الاهتمام أكثر في المواقف الدولية والنشاط العالمي المتصل بالقضية الفلسطينية، وواكبت دراساته وبحوثه وتقاريره وندواته تطور العمل الفلسطيني، ودور م ت ف وعلى الأخص انطلاقتها الكبرى بعد العام 1967.
وكان المركز بأقسامه المختلفة [ المكتبة وقسم الأرشيف (الذي كان يضم جميع الوثائق المتعلقة بالقضية الفلسطينية ويقتني ما هو غير منشور منها ويتابع ما تنشره80 صحيفة دورية ومجلة دورية حول العالم وبمختلف اللغات ويقوم بتصوير مقتنياته بالميكروفيلم وله مجلد يصدره شهريا يتضمن ملخص الأحداث الشهرية مرتبة حسب الموضوعات) وقسم اليوميات الفلسطينية (ويعنى بتسجيل الوقائع اليومية المتصلة بالقضية الفلسطينية من مصادرها باللغات الأربعة المعتمدة في المركز ويقوم بإصدار مجلدات عن حصيلة عمله بلغ عددها حتى العام 1981 ثلاثة وعشرون مجلداً تؤرخ للوقائع الفلسطينية منذ العام 1965 وحتى منتصف العام 1976) وقسم رصد إذاعة إسرائيل (وكان يقوم برصد وتسجيل ما تبثه إذاعة البرنامج العبري العام وإذاعة الجيش والتلفزيون الإسرائيلي من مواد لها صلة بقضايا الصراع أو القضايا الإسرائيلية الداخلية الهامة ويتم ترجمة وتصنيف هذه المواد على يد مختصين باللغة العبرية ونقلها إلى اللغة العربية ويتم نشر هذه المواد يومياً بحيث يكون الباحث أو القارئ على اطلاع مباشر بما يدور في إعلام العدو, علماً أن توزيعها كان يقتصر على الجهات المعنية والمختصين فقط, وقد بُدءَ في إصدار هذه النشرة منذ العام 1971 وحتى نهاية العام 1981)].
وتنتظم الدراسات البحثية في المركز في ثلاثة أقسام دراسية، الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية والدولية ويتفاوت الاهتمام بكل قسم حسب الظروف والحاجة والضرورة الملحة المرتبطة بتطورات القضية الفلسطينية وتلتزم هذه الأقسام في نشر أبحاثها ودراساتها في نشرات المركز المختلفة، لعل أهمها مجلة "شؤون فلسطينية" وهي مجلة شهرية تعد الأولى من نوعها باللغة العربية المتخصصة في نشر المقالات والدراسات والأبحاث والتقارير الشهرية والطارئة التي تشمل المجالات المختلفة للشؤون الفلسطينية والإسرائيلية وغيرها من الشؤون الهامة. وقد انتظم صدور مجلة شؤون فلسطينية منذ آذار 1971 حتى حادث التفجير الذي تعرّض له مقر المركز في بيروت في شباط 1983 وفي نيسان من ذات العام قامت قوات من الجيش اللبناني بتطويق المركز وأخذت تضيق على العاملين فيه الأمر الذي دفع م ت ف إلى إقفال المركز حتى حزيران -يونيو 1983 ثم نقله إلى قبرص حتى العام 1993 لينتقل من جديد إلى رام الله أواسط العام 2011
.....
هوامش
1- أمل كعوش: أسفار الأرشيف الفلسطيني: رحلة بحث عن وطن, موقع عرب 48 :, https://www.arab48.com, 14-10-2016
2- مداخلة للدكتور سميح شبيب (المسؤول السابق لقسم التوثيق والمكتبة في المركز خلال الأعوام 1980- 1994) على هامش ورشة عمل في منتدى الفكر العربي في عمّان أيام 7-8/5/2005، دعت إليها كل من هيئة أرض فلسطين التي يديرها الباحث سلمان أبو ستة ومركز اللاجئين والشتات الفلسطيني (شمل) وكانت تحت عنوان "التأريخ الشفوي الفلسطيني", للمزيد عن هذه المداخلة انظر http://jiryis.net/2005/06/13//
3- الشهداء هم: صبحي علوان, سليم العيساوي, محمد عزام, بهاء الدين منصور, حنة شاهين-جريس (زوجة مدير المركز صبري جريس), صباح كردية, منى خطاب, سناء عودة, بالإضافة إلى جنديين من الجيش اللبناني كانا يحرسان المكان هما طوني شيت و ذياب حبقة, كما أدى الانفجار إلى استشهاد عدد من زوار المركز أو من المارة في الشارع, عرف منهم: لينا زهير العوف, مصطفى بيساني, وفاء خالد, غنوة محمد ديب, عيد مراد جرداق, كارول إلياس خوري. أما الجرحى فهم: محمد الأعرج, سعاد الحايك, سامية زغيب, شادية المعتصم, أنور الخطيب, كامل قاسم, فادية شعبان, سهيل الناطور, هلا ضيف الله, يونس طه, رويدة أبو عدس, صابر حنون, فياض أبو العردات, سمر مكاوي, زهية صباغ, وفيقة صالح, وفاء كيلاني, عبد الله سكران, كما أصيب نحو 107 اشخاص آخرين بجراح طفيفة, وإضافة إلى ذلك دمّر الانفجار المبنى وحطّم معظم محتوياته واشتعلت النيران في العديد من غرفه, كما تضررت المباني المجاورة من شدة الانفجار.
4- يقول فيصل حوراني عن تلك اللحظات "كنا في المركز في إبان انهماكنا في العمل الذي بدأناه قبل أيام لتهيئة مركزنا لأداء المطلوب في الظروف المستجدة. وحين تأكد لنا أن جيش الاجتياح بلغ مستديرة الكولا وتوجّه نحو كورنيش المزرعة في طريقه إلى منطقتنا، قدّرنا أن أمامه ما لن يزيد كثيراّ عن ساعة واحدة ليبلغ مبنى مركزنا، فانصرفنا إلى إخلاء ما يمكن إخلاؤه من موجودات المركز مما قد يحدث في أيدي العدو إلى أضرار شخصية بالعاملين معنا. أخلينا السجلات التي تضم أسماء العاملين في المركز وأسماء المتعاونين معه من اللبنانيين والعرب الآخرين، والسجلات المالية، ومحتويات الخزانة الحديدية في حجرة المدير العام، وما إلى ذلك مما أمكن أن تتسع له سيارة المدير العام. بكلمات أقل، أخلينا ما يمكن إخلاؤه تحت أشد الأخطار في غضون ساعة. وحين عرفنا أن المجتاحين المتجهين نحو رأس بيروت قد بلغوا منطقة الروشة، صدرت التعليمات للعاملين كلهم بالتفرق فرادى أو في مجموعات صغيرة والبحث عن مخابئ تؤويهم، حتى لا يقعوا أسرى في يد عدوٍ يعد كل فلسطيني مخرباً ويعامله على هذا الأساس. وفي بحثي المتلهف عن مخبأ, وضعت الصدف أمامي سيدة لبنانية مسيحية وهي من معارفي الموثوقين. فتوفّرَ لي مخبأ غير بعيد عن المركز، وتوافر ما هو أهمّ، إذ تولّى أعضاء الأسرة تأمين اتصالاتي بكلّ من أحتاج الاتصال به، فقضيت فترة الاختباء في مأمن دون أن أتعرض للعزلة". انظر: فيصل حوراني: القصّة الكاملة لنهب مركز الأبحاث الفلسطيني ببيروت. 30-11-2017. https://rommanmag.com/view/posts/postDetails?id=4630
5- من الجدير ذكره ضياع أوراق مصطفى الدباغ الخاصة الذي فقد مخطوطته الأولى المكونة من 6000 صفحة بعد أن سقطت في بحر يافا في نهاية نيسان 1948 , انظر: عبد الجواد صالح , لماذا لا نستطيع كتابة تاريخنا المعاصر من دون استخدام التاريخ الشفوي، مجلة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، المجلد 16، العدد 64، خريف 2005، ص 4.
6- صقر أبو فخر: نكبة ذاكرة: بقايا مركز الأبحاث الفلسطيني في الصحراء الجزائرية, 28-11-2016. https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/herenow/2016/11/24/
7- يروى أن أحمد الشقيري كان يردد "لقد أنشأت فيكم كفلسطيني أمرين, أولهما عقل المنظمة وهو مركز الأبحاث, و[الثاني] عضلات المقاومة وهو جيش التحرير"
8- يقارن أبو فخر أهمية المركز لدى صانعي القرارات السياسية في العالم العربي بإشارته إلى أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يرسل أسئلة سياسية وعسكرية إلى الدكتور أنيس الصايغ ويطلب منه الإجابة عنها, وكان أمين هويدي مدير المخابرات الحربية بعد حرب 67 هو الواسطة بين ناصر والصايغ بالإضافة إلى عبد الحميد المازني الملحق الأمني في السفارة المصرية في بيروت (الذي كان هو من حذر الصايغ قبل ثلاثة أشهر من محاولة اغتياله بالمغلف الناسف, كما كان الرئيس السوري حافظ الأسد يتابع بانتظام منشورات المركز ويسأل عن بعضها وعن كتابات الصايغ تحديداً, وكانت جميع أسئلته تتعلق بالوضع الإسرائيلي والقضية الفلسطينية. انظر صقر أبو فخر, مصدر سابق.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن