أمثلة للاشتراكية الديمقراطية والاستبدادية

محمود يوسف بكير

2020 / 10 / 8

والأمثلة التي سوف نتناولها باختصار شديد هي اشتراكية أولوف بالمى في السويد واشتراكية جمال عبد الناصر في مصر. ونقول باختصار شديد لأن ذكر الحقائق التاريخية الموثقة كما هي ودون محاولة التلاعب بها أو تفسيرها بطريقة معينة يكفي لإيصال العبرة التاريخية من الحدث دون أن نتكلم كثيرا.

أولوف بالمى

‏في عام 1986 تم اغتيال أولوف بالمى رئيس وزراء السويد على يد مجهول وهو خارج مع زوجته من السينما في وسط ستوكهولم بدون أي حراسة وكان عمره وقتها 59 عاما وإلى جانب رئاسته للحكومة كان رئيسا للحزب الاشتراكي الديمقراطي في السويد منذ عام 1969 وحتى اغتياله. ‏وكان من الأعمدة الاساسية لدولة الرفاهة للجميع ومهندس التوجه اليساري التقدمي في سياسة السويد الخارجية وهو من قدمها كدولة مدافعة عن حقوق الإنسان والدول الضعيفة حيث أدان حرب الولايات المتحدة في فيتنام الشمالية وإقام علاقات جيدة مع الاتحاد السوفيتي وكوبا وكان نقده مريرا لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حتى قيل أن قاتله هو أحد عملاء حكومة الأقلية البيضاء هناك.‬ ‬‬‬
‬‏قبل رئاسته للحكومة تولى عدة مناصب وزارية، وكوزير للتعليم أراد أن يظهر مرونة الحكومة إزاء كل التيارات السياسية التي كانت سائدة وسط الطلاب الجامعيين في عام 1968 فكان يذهب بنفسه ودون حراسة للتحدث مع مختلف الطلاب المتطرفين وهذا شي يتجنبه معظم السياسيين في كل دول العالم تقريبا.
‏ومن الإنجازات الهامة لبالمى كرئيس للحكومة والتي أصبحت علامة مميزة للسويد ونموذجا يحتذى به على المستوى العالمي في التنمية البشرية ما قامت به حكومته من زيادة كبيرة في معاشات المتقاعدين كنوع من التقدير والعرفان لخداماتهم لبلادهم ولضمان حياة كريمة لهم فيما تبقى لهم من عمر. وكذلك ما قام به من زيادة دعم المعاقين ورفع البدل النقدي المخصص لرعاية الأطفال وتوفير مساكن لأصحاب الدخول المحدودة وكذلك توفير نظام جيد للرعاية الصحية لجميع السويديين، كما جعل الدراسة الجامعية مجانية للطلاب المتفوقين وغير القادرين. كل هذا بالطبع إلى جانب منظومة ممتازة لحقوق الإنسان والأقليات تحت مظلة دولة القانون ونظام ديمقراطي يكفل كل أنواع الحريات الفردية ويحظى بحماية دستورية.
‏أما على مستوى الحياة ‏الخاصة للرجل فبالرغم من أن بالمى كان إبنا لأسرة غنية وتلقى تعليما جيدا قضى جزءا منه في امريكا إلى أنه حياته الخاصة كانت تتسم بالبساطة الشديدة وهو رئيسا للحكومة حيث عاش مع زوجته في منزل متواضع حتى أن الصحفيين الذين كانوا يذهبون لإجراء مقابلات معه كان يدعوهم للعشاء شريطة أن يشاركوا في إعداد الطعام معه ومع زوجته. هذا الطابع غير الرسمي الذي عرف عن بالمى ربما كان هو السبب في سهولة اغتياله.
ومنذ أشهر قليلة وبعد نحو 30عاما من اغتيال بالمى، انتهت التحقيقات إلى أن قاتله كان ناشطا يمينيا كارها للاشتراكية ومدمنا للخمور بعد فشل زواجه. وقيل إنه هو نفس الشخص الذي توجه كشاهد إلى البوليس بعد مقتل بالمى مباشرة مدعيا بأنه كان يغادر مكان عمله في لحظة الاغتيال ‏وأنه شاهد بالمى وهو ملقى على الأرض. ولكن هذا الشاهد غير أقواله بعد ذلك عدة مرات أثناء التحقيقات إلى أن مات في عام 2000.
وقد أثارت تلك النتائج الهزيلة للتحقيقات نوبة استياء شديدة في السويد حيث أن توجيه الاتهام بالقتل إلى هذا الشاهد لم تدعمه ادلة قوية كما لم يتم العثور على السلاح الذي استخدم في إطلاق النار.
‏في أحد زياراتي للسويد ذهبت إلى الموقع الذي قتل فيه بالمى فوجدت انه احد الشوارع المخصصة للمشاة فقط في وسط ستوكهولم ويعني هذا بحسب رأيي المتواضع أنه من الصعب أن يقتل أي إنسان في هذه المنطقة المزدحمة بالناس وأن يختفي القاتل او يفر بمثل هذه السهولة. ومن ثم فإن عملية الاغتيال على الأرجح تمت بحرفية شديدة تم اخفاء القاتل أثناءها وسط مجموعة من معاونيه ‏وهذا بالتأكيد عمل مخابراتي وليس عملا فرديا. ولا أدري كيف يمكن لشخص عادي أن تكون له مصلحة في مقتل إنسان بهذه الصفات الرفيعة مثل بالمى.
‏وباختصار فإن حياة بالمى ومبادئه وقناعاته كانت مبشرة وداعمة لفكرة أن الاشتراكية الديمقراطية ستكون لا محالة المحطة النهائية في رحلة الإنسانية مع الأنظمة السياسية المختلفة.

اشتراكية جمال عبد الناصر
‏في ذكرى وفاة جمال عبد الناصر في مثل هذه الأيام من كل عام يدور الجدل المعتاد حول هذا الرجل فالبعض خاصة ممن يعيشون خارج مصر يرى أن عبد الناصر كان زعيما من طراز فريد وانه كان خسارة كبيرة للعالم العربي ونكسة لحلم أو وهم توحيد هذه الأمة المنكوبة. أما من عاش في مصر في زمن عبد الناصر فلهم رأي آخر وأنا واحد منهم ‏حيث ولدت بعد قيام ثورة 52 بعدة سنوات وتربيت في مدارس الحكومة على المبادئ الناصرية ودولة الأحلام والشعارات الكبيرة التي صدقناها ونحن صغار حتى استيقظنا على الهزيمة الفاضحة لمصر أمام إسرائيل في عام 67 حيث كشفت هذه المهزلة عورات هذا النظام بما لا يدع أي مجال للبس أو الخداع.
‏بالطبع كان للرجل إنجازات على الارض لا ينكرها أحد ولكن اخفاقاته الخطيرة طغت على إنجازاته وضيعت أثرها على مدار سنوات قصيرة لما أحاط بها من سوء إدارة وفساد. ومن الإخفاقات التي ظهرت في حياته وبعد رحيله ولا زلت حية أثباته لنظرية أن الدول تفشل عندما تضعف مؤسساتها وتغيب شعوبها وتختزل في صوت واحد هو صوت الزعيم الملهم وذو الحكمة والحنكة "وما فيش بعد كده إلا النبي" كما نقول في مصر. ‏عبد الناصر الذي عرف في مصر بانه أقوى مسدس صوت في العالم هو أول من أسس للاستبداد في مصر - بعد أن كانت ديموقراطية قبل انقلابه - من خلال إلغاء الحياة النيابية والبرلمان والأحزاب السياسية واستبدلها جميعا باللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي والتي كان يتمنى أن يسميها باللجنة المركزية للحزب الشيوعي ولكنه خاف من ردة فعل المتدينين. عبد الناصر هو من صادر كل الصحافة المستقلة وسيطر على كل وسائل الاعلام كي تكون بوق دعاية له تحت إشراف عراب نظامه الأستاذ محمد حسنين هيكل. عبد الناصر هو من قام بمذبحة القضاء الشهيرة للسيطرة على السلطة القضائية وهو من الغي استقلال الجامعات من خلال قيامه بتعيين رؤسائها وحتى عمداء الكليات الجامعية الهامة وهو من سيطر على النقابات العمالية بيد من حديد. وأوقف العمل بنظام انتخاب شيخ الأزهر وبابا الكنيسة القبطية وعين نفسه رئيسا للشرطة والجيش حتى تكتمل منظومة السيطرة على كل مفاصل الدولة.
لم يكن التروي أو التدبر من خصاله ودخل في مغامرات وحروب عسكرية مع إسرائيل وفي اليمن وأفريقيا فوق طاقة مصر وبدون أي خبرة عسكرية أو سياسية ولذلك هزم في كل الحروب التي خاضها وكان السبب في تحويل مصر من دولة متوسطة ومستورة الحال الى دولة فقيرة، ولولاه لظلت مصر والسودان دولة واحدة ينعم فيها الجميع بحياة كريمة. غالبية المصريين تضرروا من نظامه بشكل أو آخر وكانت أسرتي من هؤلاء حيث فقدنا أخي الأكبر فور تخرجه وهو في أوائل العشرينات في حرب يونيو 67 دون أن نعرف سبب اندفاعه لهذه الحرب وهو يعلم علم اليقين أن قادة جيشه تحت رئاسة صديقه عبد الحكيم عامر غارقين في معاركهم النسائية مع الممثلات والراقصات. أما الحديث عن السياسات الاقتصادية التي فرضها على مصر دون أي فهم لأبعادها فإننا ندرسها في الجامعة للطلاب كنموذج للفشل ويكفي أن أذكر أنها انتهت بغالبية المصريين الى الوقوف في طوابير طويلة ولساعات كل يوم أمام الجمعيات التعاونية لشراء اطعمة رديئة لسد رمقنا.
الحديث عن عبد الناصر حديث ذكريات مؤلمة وإرث من الإخفاقات والكوارث ودولة الخوف وتكميم الأفواه والاعتقالات.
الفارق بين أولوف بالمى وعبد الناصر هو الفارق بين القائد المتعلم والمتواضع الذي يدرس قراراته ويهدف بالأساس إلى رفاهة شعبه وبين الزعيم المستبد والأرعن والباحث عن المجد الشخصي دون أدنى اعتبار لمصالح لشعبه.

مستشار اقتصادي



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن