المخزن

سعيد الوجاني
zehna_53@hotmail.fr

2020 / 10 / 8

ان العديد من الأشخاص يظنون ويعتقدون ، انّ استعمال كلمة مخزن لوصف الدولة ، هو قدح او تنقيص ، وقد يكون حتى سبا وشتما ... ، ومرد هذه النظرة الشائعة ، جهل التاريخ من جهة ، ومن جهة غياب الثقافة السياسية الجذرية التي ترتبط بالشأن العام المغربي .
لذا فان ترديد او القول بكلمة مخزن ، لا تعني التنقيص او الذم ... لكنها تعني دولة سمّاها من أسسها بهذه العنوان الذي هو المخزن ، أي الدولة المخزنية التي مرت بها أنظمة مخزنية ، تختلف من حيث القوة والضعف ، حسب المراحل التاريخية التي يمر منه نظام المخزن داخل دولة المخزن..
لذا فالمخزن ، هو دولة خاصة لا تتشابه مع غيرها من الدول التي يعرّفها القانون الدولي العام ، ويعرفها القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، لأنه نظام فريد من نوعه ، يأخذ من جميع الأنظمة مرة ، ولا يأخذ من جميع الأنظمة مرات ... فهو بذلك لا يخرج عن نظام بتريمونيالي / اوليغارشي / بتريركي / اثوقراطي / ثيوقراطي / ميركانتيلي / عاشق لاستصدار وجلب الضرائب / مفترس / استبدادي / طاغي ... أي انه نظام تقليدي موغل في القروسطوية ، وفي التقاليد المرعية التي تجعل من الساكنة مجرد رعايا من رعايا مولانا الامام ، الأمير ، الراعي الكبير ، فتبقى بذلك الرعايا داخل نظام تقليداني ، بعيدة كل البعد ان تكون ُمواطِنة ، فأحرى ان تكون شعبا ...
لذا فاستعمال نظام المخزن داخل دولة المخزن ، كان مقصودا ، لان الذين اسسوا الدولة المخزنية ، كانوا يشتغلون على قطع دابر الدولة المشاعية ، العصبية ، والقبائلية ، التي سادت المغرب قبل تأسيس دولة المخزن . لذا فان هذا التأسيس الذي بنى اركان الدولة على سلطة الحق الإلهي بالانتساب الى النسب الشريف ، قطع كل صلة ، او كل طموح لحكم القبيلة مهما بلغت من القوة ومن الشأن ، فاصبح المخزن بذلك هو السائد ، وأصبحت كل القبائل التي تعيش في دولة المخزن الجديدة مسودة ... أي لا تحلم بسرقة الدولة تحت اية ذريعة او حجة كانت ..
ان بناء الدولة بالانتساب الى النسب الشريف ، يعني ان المخزن الدولة اصبح لوحده يستأثر بالدولة ، لأنه يتقمص نظام حكمه من الإرث الديني والسني الذي يعطيه سلطات استثنائية خارقة ، تجعل منه فوق أي دستور ولو كان دستور الملك ، وتجعله يتصرف ولوحده في الشأن العام دون حسيب ولا رقيب ، ودون ترتيب مسؤوليات جنائية وسياسية عن اخطائه بالآلاف ، من قبل أي مؤسسة من المؤسسات التي تأخذ دائما طابعا صوريا وشكليا من اجل التمويه ، خاصة الاستبلاد المفضوح للمراقب الأجنبي الذي يكوّن الدول المانحة ..
الى جانب ركيزة الانتساب الشريف ، بنى النظام المخزني دولته ، على تحصيل الضرائب من الرعية ، وباستعمال مختلف الأساليب في التحصيل ، ومنها الاغارات ، والقتل ، والتعذيب ، والتنكيل بالقبائل البربرية التي رفضت اداء الضرائب الى المخزن ، وثارت معلنة العصيان الذي عُرف أصحابه باسم العصاة ...
فالعصاة هؤلاء ، وهم كانوا ثوريين جمهوريين ، رفضوا السلطنة بفاس ، ورفضوا السلطان ، وحاربوا الاستعمارين الفرنسي والاسباني ، فكان لزاما ان يتوحد النظام المخزني مع النظامين الاستعمارين في محاربة القبائل البربرية الثورية الرافضة للدولة المخزنية السلطانية ...
لذا فالإحاطة العلمية الدقيقة بكل المخزن ، تقتضي القيام بدراسة سياسية مستفيضة للنظام المخزني منذ نشأته والى اليوم ، لأنه لم يتغير كنظام ، وانْ كان الذي يتغير هو الميكانيزمات والوسائل ، وقد لاحظنا جليا في نظام الحسن الثاني ونظام محمد السادس ، التزاوج بين الأصول المخزنية الغارقة في الرجعية ، وبين الافتراس الضرائبي ، والحصول على الأموال حيث استعملت مختلف الإجراءات التي كان يلجأ اليها النظام المخزني عند تأسيس الدولة المخزنية اول الامر ..
إذن كيف يمكن معالجة النظام المخزني دون الاقتصار على ما شاع من قبل بعض الباحثين ، بربط المخزن بالتخزين لمواد الاكل ، والأموال ، والذهب ، والمجوهرات ...
مقدمة لا بد منها : شيء من التاريخ المخزني قبل عهد الخيانة ( الحماية ) :
ا ) المخزن يعني نسخة استعمارية طبق الأصل في الممارسة ، والنهب ، والقمع :
اذا عدنا شيئا ما الى التاريخ كباحثين ومثقفين سياسيين ، يهتمون بتاريخ المغرب ليس منذ تأسيس دولة المخزن ، بل قبل ذلك منذ الدولة العصبية المشاعية التي كانت تستأثر بالحكم فيها القبيلة القوية ، سنجد ان كل نظام مخزني في دولة المخزن ، وخلال عدة قرون ، يمارس سياسة قمعية ومنهجية من اجل الحفاظ على النظام القائم ، ومنه الحفاظ على أسس الحكم في الدولة المخزنية وتوطيدها . وقد كان خصومه وفي اغلب الحالات ، يعدمون بدون رحمة بعد لجمهم واضعافهم ، واذا نجوا من الإعدام ، فذلك من اجل المتاجرة بحياتهم على المستوى السياسي ، بهدف جعلهم أدوات لمخططاته .
لقد كان الإعدام اذن هو القاعدة الأساسية ، من حيث كونه وسيلة ردع متقدمة ضد الخصوم . على ان هناك حالة استثنائية كان المخزن او القصر وخدامه ، يلجئون فيها الى اختطاف اعيان وممثلي القبائل ، وذلك عندما كانت ترفض هذه الأخيرة تسديد الضرائب . فقد كان هؤلاء الاعيان يؤخذون كرهائن حتى يؤدي الثوار الجمهوريون العصاة الضرائب المفروضة بحد السيف ، وفي حالة الرفض ، يتم اعدام الرهائن ، وتنظيم حملات عسكرية قمعية لاستخلاص الضرائب المجحفة ، ولنهب وذبح القبائل التي يمثلونها . وهكذا كان مقابل الضريبة ، الاختطاف ، او الفدية ، او الموت والتنكيل بالقبيلة ..
لقد كان المخزن يعتبر ان الحرب الظافرة ، هي التي تنتهي ، امّا باستعباد واذلال الخصم لتركيعه ، او موته . وبما ان الاستعباد ، هو شكل من اشكال الموت ، فان الحرب المختصرة ، كانت تؤدي الى إبادة وسائل الخصم العسكرية ، والسياسية ، والنفسية ، والاستحواذ على موارده ، وامكانيته الاقتصادية .. وهكذا فان أي شكل آخر من اشكال القمع ، ومن بينها الاختطاف والقتل ، كاقتصاد وتسيير للقمع ، لم يكن الاّ بديلا ثانويا جدا . ويمكن القول ان الشعب المغربي في تاريخه ، قد تعرض لهذا الشكل من الحرب على يد المخزن ، خاصة في عهد السلطان القمعي إسماعيل ، الى حدود الغزو الاستعماري للمغرب .
بما ان دعامة الاستعمار والامبريالية ، هما الربح والاستحواذ على الموارد ، فان اقتصادهما السياسي للحرب العدوانية ، كان ولا يزال يثَبّت قدميه على اقتصاد صارم للوسائل المادية ، مع العمل في نفس الوقت بأشكال جديدة للحرب ، التي ينبغي ان تُؤْدي بأقل كلفة الخصم ، وإخضاع الشعوب المعتدى عليها .
فالحرب النفسية بشكلها العصري ، خرجت للوجود هكذا ، مع تطور الأيديولوجيا الاستعمارية .. ولم يكن الهدف من الوسائل العسكرية المستعملة ، سوى ان تجسد على الساحة ، النتائج المحققة على صعيد الضمائر ، بفضل عملية نسف غادر وطويلة الابد ..
لقد كان الايديولوجيون الاستعماريون يؤكدون ، انّ ميدان المعركة الحقيقي الوحيد ، يوجد في مستوى الوعي الجمعي الجماعي للشعوب المعتدى عليها والمحتلة . وهكذا يمكننا ان ندرك معنى عبارة الجنرال ليوطي الشهيرة " على المرء ان يظهر قوته ، لكي لا يضطر لاستعمالها " .
ان الهدف من هذه القولة الشهيرة ، هو اظهار الاستعماريين ، انّ باستطاعتهم خوض أي حرب ، وانّ لهم الوسائل الكفيلة لذلك ، لكي لا يضطرون لدفع مصاريف باهظة ومؤذّية الى الإفلاس عند القيام بها .
ان كل استراتيجية الحروب الاستعمارية واقتصادها السياسي منذ اكثر من قرن ، تتلخص في هذه العبارة المقتضبة ، التي استبق محتواها المفهوم الراهن للترهيب ، والتخويف ، والردع في المجال الجغرافي .
لقد هيمن هذا المحتوى الأيديولوجي على كل السياسة القمعية للمخزن المغربي في ظل الاحتلال الكلونيالي ، ولا يزال يهيمن الى حد ما ، على السياسة القمعية للدولة المخزنية منذ استقلال ايكس ليبان ، وحتى عهد محمد السادس الذي برع فيه بتفوق عن والده ، بسبب الفرق في المدة الزمنية لتولي كل منهما الحكم في ظروف مغايرة ومختلفة .
ان الاستعمار كنظام للاستغلال الكلي للمصادر والثروات ، لم يكن له اذنْ انْ يكتفي بنهب ظرفي ، مقابله الطبيعي هو القمع الوحشي ، انْ لم يكن إبادة القبائل كما كان يفعل المخزن طوال القرون الماضية . ومن هنا فان سياسة الرأسمال الاستعماري ، كانت لها كمقابل وكمساعد ، استراتيجية قمعية ذات خصوصية ، تعمل على تشجيع إقامة نظام استغلالي دائم ، لا يقوم على نهب المصادر فحسب ، بل أيضا وبالأخص ، على تجنيد قوة عمل السكان المحتلين لفائدته .
وهكذا فان قانون الربح ، كان يملي على المستعمر استبدال اعدام وقتل المقاومين والمجاهدين ، بسجنهم ، او تكبيلهم بالحديد ، واكراههم ، وتسخيرهم على الاعمال الشاقة ، واحالتهم الى أوضاع العبيد . وبذلك كانت لهم مردودية قصوى ، بحيث انهم لم يكونوا يكلفون الاستعمار سوى غذائهم ، الذي كان الغرض منه ، تجديد قوة العمل وعملهم .
هناك وجه آخر من قانون الربح لا يقل أهمية ، وهو قابلية المكبلين على الحركة ، بحيث كانوا ينقلون وفق الاوراش ، وخاصة منها تلك التي كانت تمليها متطلبات الغزو الاستعماري ، كالموانئ ، وطرق المواصلات ، والتحصينات .
لقد اختفى عشرات الآلاف من المقاومين الشهداء ، والسجناء المغاربة دون ان يظهر لهم اثر ، واستشهدوا على قارعة مذبحة قانون الربح الاستعماري . لقد كان الرهائن يختطفون من القبائل البربرية ، فيقومون وارجلهم مكبلة بالحديد ، بوضع خطوط السكك الحديدية للطريق الرابط بين الرباط ، فاس ، والجزائر . كما كانت اليد العاملة السجينة تسلم للشركات الكبرى التي أُنشئت من طرف بنك " شْنايْدر " ، وبنك باريس والأراضي المنخفضة " باريبا " ، لتشييد البنية التحتية المرفئية ، والحضرية ، والسكك الحديدية للساحل الأطلسي . بينما كان سجناء المخزن يستعملون كيد عاملة جانبية لصيانة الطرقات البلدية ، واعداد المراكز الاستعمارية الصغيرة .
كان للاختفاءات الجماعية اثناء الغزو الاستعماري ، للمواطنين المغاربة الرافضين ان يستخدموا كمرتزقة ضد القبائل البربرية الثائرة العاصية اربعة اهداف :
1 ) اضعاف الإمكانيات الديمغرافية للشعب المغربي ، وبالتالي اضعاف قدرته على المقاومة .
2 ) التجنيد الاستعماري للسجناء المكبلين بالحديد والاغلال ، لإقامة الأساس الاقتصادي للرأسمال الاستعماري ..
3 ) تحطيم البنيات الاقتصادية لنمط الإنتاج المغربي ، بغية ادماج المغرب تدريجيا ضمن الدورات الرأسمالية القائمة .
4 ) الشروع في البلترة الاجتماعية لجماهير الفلاحين المغاربة ، لإضعاف جبهة المقاومة من جهة ، واطلاق مسلسل هجرة السكان نحو الاوراش الاستعمارية من جهة ثانية .
ان الاختفاءات لعشرات من المقاومين العصاة المغاربة ، طوال الخمسة وعشرين سنة التي دامها الاستعمار من 1912 الى 1936 والتي شكلت ، أي الاختفاءات ، أدوات ساطعة للحرب الكلية ضد الشعب المغربي ، كانت تتواصل بسياسة من العسف بلا حدود ، وخاصة في مناطق المغرب الجنوبية . فبمبادرة ومساعدة المحتلين ، تحولت مراكش ونواحيها الى معاقل شخصية حقيقية ، لِما كان يسمى في السابق ، بقياد الجنوب الكبار ، مثل القايد الگندافي ، والقايد لمْتوگي ، والباشا لگلاوي ..... لخ ، الذين سرعان ما فرض سيطرته التامة على القياد الاخرين .
كانت سلطة هؤلاء القياد الكبار ، هي مقابل تعاملهم مع الاستعمار ، من اجل غزو المغرب . فقبل هذا الغزو بكثير ، كانت كل تحركات المصالح الأجنبية التابعة لبلدان اوربية مختلفة ، تجد في هؤلاء القياد من يوصلها الى معرفة كل شيء عن المغرب وسكانه . وفي هذا الصدد فان المدني لگلاوي الابن الأكبر للتهامي لكلاوي السيء الذكر ، كانت له علاقة مع وكلاء سريين اوربيين من مختلف الجنسيات . وليس من قبيل الصدفة ان يتم احتلال منطقتي مراكش واغادير ابتداء من السنوات الأولى ( 1911 / 1914 ) للغزو الاستعماري .
لقد انضم القياد الكبار مع انصارهم ، الى الجيوش الغازية لمحاربة المقاومة المغربية في المنطقة التي كان يقودها الثائر ماء العينين احمد الهيبة بالصحراء . وقد توصل قياد الجنوب الكبار وهم مغمورون بالتشريفات لتعاملهم وخيانتهم ، من الجنرال ليوطي وخلفاءه بتوقيع على بياض ، يطلق أيديهم لينهبوا ويقتلوا على هواهم ، ويكدسوا ثروات طائلة على حساب الجماهير الموضوعة تحت رحمتهم ..
هكذا عرفت أقاليم الجنوب المغربي في ظرف أربعة وأربعين سنة من الاستعمار قمعا وحشيا ، فاختطف الناس بالآلاف ومن طرف زبانية قياد الاستعمار ، ولم يظهر لهم اثر ابدا من قبل عائلاتهم التي تعرضت لأعمال انتقامية وحشية ، من اختطاف ، وقتل ، واختفاء ، مع مصادرة ونهب ممتلكاتهم ، ولذلك خيم صمت رهيب على مجازر أقاليم الجنوب طوال ازيد من اربعة عقود .
وقد كان الأشخاص المختطفون المحبوسون ، والمكبلون بالحديد والاغلال ، يحتضرون ويموتون ، في دهاليز الرعب ، وظلام القصبات التي كانت جميعا عبارة عن قلاع محصنة ، ترمز في اعين السكان الى قوة وخيانة طغاة الجنوب .
ان قياد الجنوب خاصة منهم الباشا التهامي لكلاوي ، يستحوذون على الأرض ، والماء ، والكلاء ، وكلهم كانوا يُشغّلون في اقطاعاتهم ، شعبا يستغلونه ، ويسخرونه بلا رحمة ، وكلهم يقتطعون رسوما باهظة وغير مشروعة .. ويتركون الاشقياء الذين يتجرؤون على الاحتجاج ، يقبعون في قصباتهم المحصنة حتى الموت ..
ان اختطاف الأشخاص في أقاليم الجنوب ، تحت الحكم المتسلط للقياد الكبار طوال أربعة وأربعين سنة من الاستعمار ، كان اذن ، يهدف الى إرهاب السكان ، واجبارهم على الركوع والسجود مثل العبيد ، بغية استغلالهم حتى العظم . وعلى عكس اختفاء عشرات الآلاف من الأشخاص الذين القي عليهم القبض خلال الغزو الاستعماري ، كان هذا الاختفاء يرمي لتحقيق اهداف متعددة : عسكرية ، سياسية ، اجتماعية ، اقتصادية ، وايديولوجية ... لخ .
وتجدر الإشارة الى حالة أخرى من الاختفاءات الجماعية للمغاربة ، وقعت في نهاية 1945 بوهران ، والتي تعرضت لها التجريدة المغربية المكونة من زهاء أربعين الف رجل ، أُغمروا مجدا في المعارك ضد جيوش المحور في تونس ، وفي إيطاليا ، وفرنسا ، وألمانيا .. فقد نزلت التجريدة المغربية بوهران ، حيث كان عليها ان تلتحق بالمغرب عن طريق البر بعد فترة استراحة قصيرة . وعلى اثر ازعاجات متكررة لا مبرر لها ارتكبها الضباط الفرنسيون داخل بعض الوحدات المغربية ، تسممت العلاقة بسرعة ، وتحولت الى معارك حقيقية استعملت فيها جميع أنواع الأسلحة ، وقد سبب تدخل الفرقة الأجنبية والطيران ، خسائر فادحة في جنود التجريدة ، والقي القبض على المئات من الضباط ، وضباط الصف ، والجنود المغاربة ، ولم يظهر لهم اثر ابدا ، بل وارسل العديد من الضباط الى معتقل " كابان " للأشغال الشاقة بگويانا La Guyane Française ، حيث قضوا نحبهم جميعا .. وهكذا وبعد خمس سنوات من المعارك البطولية ، كان جزاء المغاربة هو مذبحة وهران ، واعتقال واختفاء جزء مهم منهم .
واذا كان الهدف الأساسي لسياسة المخزن ، هو التصفية الجسدية السريعة لخصومه ، فان سياسة الاستعمار في هذا لمجال ، كانت بحكم قوانين الربح والاستغلال مزيجا من الوسائل ، منها الاختفاءات التي تهدف الى تصفية الخصوم من الساحتين السياسية والعسكرية ، مع الاحتفاظ بهم على قيد الحياة ، من اجل استغلال قوة عملهم الضرورية لتطور المشروع الرأسمالي في المغرب .
ويمكن القول ان الاختطافات الاستعمارية للمغاربة خلال حرب الاحتلال ، كانت في واقع الامر موتا اجتماعيا ، واقتصاديا ، و عسكريا ، و سياسيا ، لان المختطف لا يبقى حاضرا في المجتمع المغربي ، مع انه يبقى حيا بالنسبة للرأسمال الاقتصادي .
فهؤلاء المغاربة المختطفون ، كانوا اذن موتى مؤجلين ، يقضون نحبهم بسبب عمل الاستعباد ، والانهاك ، والتعذيب . لقد شكلت الاختفاءات احدى الوسائل المتعددة الهادفة الى تدمير المجتمع المغربي في مجموعه . أي في هياكله الاجتماعية ، وانماط انتاجه الاقتصادية والثقافية ... لخ ، بغية فرض الهيمنة الكلية للمحتلين ، وتسهيل التنظيم المستمر للاستغلال والنهب ..
ان المجتمع والشعب المغربيين ككيانين اصليين ، هما اللذان كانا مستهدفين ، باعتبار ان المشروع الرأسمالي الاستعماري ، كان يرمي الى تدميرهما ، وبالتالي موتهما ، ابتداء من اللحظة التي اصبحا فيها خاضعين لمتطلبات المصالح الاجنبية .
وبالمقابل فان المخزن باعتباره تشكيلة اقطاعية قروسطوية وعتيقة ، لم يكن يهتم على غرار الرأسمال الاستعماري بقوة عمل خصومه السياسيين ، ولذلك كان يصفيهم عندما كانت تتوفر له الوسائل ، من اجل إرهاب السكان ، بغرض الهيمنة ، والسرقة ، والنهب التي نلاحظها اليوم بوجه مكشوف ، لا يخجل ، ولا يستحيي ... لكن سياسته القمعية ، بسبب الهياكل الاجتماعية القائمة ، لم يكن بإمكانها ان تمس الاّ كيانات اجتماعية مستقلة محددة ، هي القبائل .. امّا وحدة المجتمع والشعب المغربيين ووجودهما ، فلم يكونا قط مهددين ، لا سيما وان مشروع المخزن لم يكن يخضع لمصالح الأجنبي ، باستثناء بعض الفترات من التاريخ الأسود لتحالف المخزن مع الاحتلال ..
وبالمقابل فان قياد الجنوب المغربي الكبار ، جعلوا من الاغتيالات والاختطافات ، دعامة سياستهم القمعية بموافقة ، ومباركة ، وعون المحتلين ، بغية زرع الرعب ، وممارسة الهيمنة ، والنهب ، و سرقة الثروات المختلفة .. وهكذا نلاحظ ان سياسة الخائن تهامي لگلاوي وزبانيته في القمع ، كانت تنتمي في نفس الوقت الى سياسة المخزن القديم ، وسياسة الاستعمار .
2 ) الوضع الحالي للنظام المخزني القروسطوي :
باستثناء أبحاث الأستاذة هند عروب التي المت بنظام المخزن من الناحية الاكاديمية ، كنظام يقدم نفسه كمنتسب لإقطاعية الحق الإلهي ، ومن تركة النسب الشريف ، ونظام مختص في الاغارة على القبائل الثائرة لإجبارها على دفع الضريبة ، ولسرقة ثرواتها وممتلكاتها ، واخضاعها للاندماج في نظام العبيد الذي يتفنن النظام في حبك طرزه بإتقان ، ويتفنن في إعادة انتاج نظام العبيد الذين وصلوا اليوم الى كندا ، والولايات المتحدة الامريكية ، وموجودون بكل دول الاتحاد الأوربي ، مع جهلهم ان هيامهم وعشقهم لنظام الاقنان العبيد الرعايا ، ممنوع في الدول الديمقراطية ..
وكما قلت فباستثناء أبحاث الأستاذة هند عروب ، فان جميع الأبحاث التي تم نشرها في المجلات ، وفي الجرائد المختلفة ، وفي بعض المنشورات ، لخصت المخزن في وظيفة الخزّان الذي يخزن الغلة ، و المال ، والثروة ، ويخزن حتى البشر الرعايا المغلوب على امرها ، بفعل القمع ، والبطش ، والتنكيل ، واذلال وتكسير رأس الخصم ...
لكن من خلال تعمقنا في التاريخ الحقيقي للمخزن ، وتحليل كل مراحله ، وتطوراته عبر التاريخ ، وبالضبط منذ القضاء على الدولة العصبية المشاعة ، دولة القبيلة .. ، سنتوصل الى نتيجة مركزية لتعريف المخزن ، وهي لا تخرج عن اعتبار دلالته ، هي الحكم والإدارة التي كان يمارسها السلطان ، ومجموعة المكلفين بتسييرها وممارستها ، على امتداد مجال جغرافي معين ، يسمى المغرب .
وكان هذا الأخير ، أي المغرب كمساحة وحدود متقلبة حسب المراحل والسلالات ، يتطابق مع صلاحيات وشرعية السلطان ، الذي كان يمسك بهذه السلطة الفاشية المطلقة بيد من حديد ، وبحكم انتسابه المفترض الى ( النبي ) لان هذا لم يخلف بعده ولدا ذكرا ، انّ عقد السلسلة ، تدحرجت عبر الزمن ، حتى وصلنا الى آخر ذرية النبي الذي هو الأمير ، والامام ، والراعي محمد السادس ...
ان هذه الصلاحيات وهذه ( الشرعية ) في الانتساب الى النبي الذي لم يخلف بعده ولدا : " بنونا بنو ابناءنا .... وبناتنا ابنائهن أبناء الرجال الاباعد " ، تشكل على المستويين الأيديولوجي والسياسي ، سندات ملكية من نوع خاص ، بحكم انها تقدم نفسها انها تابعة لقانون الهي ، وبالتالي فهي تبقى فوق الجميع الذي يفتقر الى الانتساب الى النسب ( الشريف ) ، أي ان اقطاعية الحق الإلاهي ، تصبح فوق الدستور ، وتصبح هي المغرب ، وبشكل اكثر دقة ، تغليب الاقطاعية في الاحكام الاستثنائية على الدستور الممنوح في الوضع الطبيعي ..
ان هذا القانون الغير مرئي ، والغير طبيعي ، لأنه استثناء دائم كسيف دم قليس ، مسلط للتحنيط ، وللضم ، ومن اجل مواصلة الافتراس بنهم ونهب حيواني غريزي لا شعوري ، هو ما يميز النظام المخزني الفريد من نوعه في العالم ... فكلمة مِلْك التي اضحت ( سندات ملكية ) ، تعني تحديدا المالك للسلطة ، وللمجال الجغرافي الذي تمارس عليه هذه السلطة ، ويسود هذا النوع من الحكم الذي لم يتغير قط منذ تأسيس الدولة المخزنية ... فكل ما يوجد في هذا المجال وبدرجة أولى البشر ، هو ملك للملك ، ومحفظ باسمه ...
كما ان مصطلح سلطان مشتق من كلمة سلطة ، فالسلطان اذن هو من يملك ويمارس السلطة ، على مجال جغرافي كان يسمى سلطنة ، واصبح بعد السلطنة ملكية ، وانتهى منذ 1962 الى إمامة وإمارة ... وربما غدا قد يصبح امبراطورية الهية ....
في نظام المخزن ، تصبح العلاقة بين الملك / الامام / الأمير الذي يبني حكمه على الانتساب الشريف ، والجماعة البشرية التي تعيش فوق المجال الجغرافي لدولة المخزن المملوك له والتابع لحكمه ، علاقة خضوع ، واذلال ، وعبودية ، وتبعية دونية ، أي علاقة الرعية القن بسيده ، لا علاقة مُواطَنة ندا للند كما يجري به العمل في الأنظمة الديمقراطية . ولا عجب ان يردد الرعايا كلما اصابتهم مصيبة ، او نزلت عليهم هراوة المخزن بشعور او بدونه كلمة " سيدنا " ، " الله ينصر سيدنا " ، " ما عندنا غير الله او سيدنا " ... فان تتجاهل الدولة المخزنية رعياها بمدينة سبتة ومليلية، لمدة اكثر من ستة شهور ، يبيتون في العراء والجوع ... وعندما دخلوا الى الامارة ، صاح الجميع " عاش سيدنا " ، " عااااش سيدنا " ، لهو قمة الهيام والتناغم مع نظام الرعايا ، الذي لا علاقة له بنظام الشعب ، ونظام المواطنة ... لذا فان للملك الأمير ، الامام ، رعايا لا يمكنهم في هذا الشروط ، ان يطمعوا او يحلمون ان يصبحوا مواطنين .. انّ السلطان في المخزن القديم الذي كان يمركز في شخصه السلطة الدينية والدنيوية ، كان هو مصدر ، وحامل كل الحقوق ، وبخاصة الحق العام ، بينما المصدر الوحيد للقانون الإسلامي يبقى هو القرآن ...
اذن من الواضح ان السلطان سابقا كما الملك اليوم ، يستحوذ على القران ، ويوظفه لا ضفاء الشرعية اللاّهوتية على شخصه ،ونظام حكمه في ظل الدولة المخزنية ، وذلك على حساب الرعايا العبيد مِن مَن لا يمكنهم التطلع الى وضعية أخرى غير وضعية الخضوع والتبعية التي تنتج طبعا مجتمع الاقنان والعبيد .. ومن هنا فانّ أي امتياز يخصص لفرد او لمجموعة من الرعايا ، او حتى لعشيرة منها مثل القبيلة ، هو من قبيل المنحة ، وذلك بهدف ربطهم بالسلطان ، او الملك الامام ، الأمير ، والراعي عن طريق مصالح معينة .. هذا ناهيك عن الرشاوى التي تدفع لجنرالات الجيش في شكل ترقيات في وقتها ، وزيادة دائمة في الأجور ، والامتيازات المختلفة ، بغية الدفاع عن السلطان الملك ونظامه ، وليس الدفاع عن التراب ، وعن الرعايا الذين يشكلون قاعدة الجيش المفقرة ، والمقموعة ، والمستلبة ، لان الجيش هو الصورة الحقيقية التي تعكس التناقض الصارخ المتفشي وسط المجتمع بشكل اكثر من مستفحل ، بل ان الجيش المفروض انه من الشعب ، استعمله النظام المخزني في اطلاق الرصاص الحي على الشعب ، عندما نزل الى الشارع في محطات / مجازر متعددة ومتنوعة ، كأحداث 23 مارس 1965 ، واحداث يونيو 1981 ، واحداث يناير 1984 ، واحداث 1990 الخ ...
ان سياسة المنح المختلفة ، والترضيات ، لا زالت تمثل احدى دعامات أسلوب الحكم عند القصر ، منذ استقلال ايكس ليبان الخياني المفضوح ، الذي ادانه زعماء المقاومة المدينية ، وجيش التحرير ... والى اليوم في عهد محمد السادس ..
هناك ملاحظة مهمة اود إثارتها في هذه الدراسة ، هي ان وصول نظام الحماية الفرنسية الى المغرب ، لم يغير شيئا من الوضعية التقليدانية الفاشية التي تميز السلطان ، والذي يجدر التذكير به ، بان الغزو الاستعماري قد تم باسمه بمقتضى اتفاقية الخيانة التي سموها باتفاقية الحماية التي وقعها السلطان ، وبالفعل فان مغرب الحماية ظل نظاما رجعيا فاشيا ثيوقراطيا ، حيث ان مبدأ الفصل بين السلط لم ينقل الى الحق العام الشريف ..
هكذا فان المغاربة الرعايا وجدوا انفسهم مستعمرين بنفس الصفة ، حيث شكل هذا المزيج بين الوضعيتين القانونيتين ، كعبيد رعايا وكمستعمرين .. أرضية لسياسة القمع ، والاذلال خلال الحماية ، والتي كان من نتائجها الطبيعية ، ليس اخضاع المغاربة طوال القرون الماضية وحسب ، بل أيضا وبالخصوص ، الاستغلال المنهجي الكلي والوحشي ، لقوة عملهم بموازاة الاستغلال المنهجي لثروات البلاد كما هو الحال اليوم بشكل ابشع وافظع ..
وقد ادى قانون الرعية العبد والخادم المطيع ، وقانون الاستعمار ، الى اخضاع مزدوج ، او بالأحرى الى اخضاع هو جوهر العنف نفسه ، والحال ان أي اخضاع ، الاّ ويعني الاستغلال ، والنهب ، والافتراس ، والامتيازات التي لا يمكن ان تُحفظ و تُجدّد ، الاّ بالإكراه والقمع .. وهذه كلها مميزات وجدت مجال تطبيقها وتجريبها في الجنوب المغربي بكثرة ، على الخصوص تحت وطأة تهامي لگلاوي .. فالمقابل لخيانة هذا الأخير ، كان ان تركت له حرية تحرك اقطاعية فاشية ، مكنته شيئا فشيئا من مراكمة ثروات هائلة .. لا تقدر بثمن ..
فكل ما ينتج المال في مراكش ، وبالأطلس الكبير ، كان يوجد بين يديه ، من سحرة ، عاهرات ، قواويد ، شكّامة ، شواذ ، رعاة ورحل ، وشيخات ، وفلاحين ، وتجار الشاي والسكر، والجمالة .... لخ .
فكل نشاط بشري في الجنوب الاّ ويقطع منه الباشا ضريبته ، وهذا طبعا ما كان يقوم به ادريس البصري ومدراء الأجهزة الأمنية المختلفة .. فحين يخصص ادريس البصري حماية امنية ترافق الخليجيين الذين جاؤوا للفساد ( مانع سعيد العتيبة ) ، تكون نفس سياسة لگلاوي قد تم الحفاظ عليها في عهد استقلال ايكس ليبان ....
ان مفهوم المخزن ما قبل الحماية وخلالها ، كان يتعلق بنوعين من الحكم ، لكل منهما اقتصاده الخاص للقمع .. فحكم المخزن القديم ، كان يقضي على وجه العموم بالتصفية الجسدية للخصوم ، ونهب ممتلكاتهم ... وتشريدهم وتفقيرهم ... اما المخزن في حكم الحماية فانه استعمل نسقا كاملا من الوسائل لتنظيم الاستغلال الكلي والمنهجي ، ومن ضمن هذه الوسائل ، كانت هناك الاختفاءات التي شكلت آذنا مفضوحة في مجال القمع بالمغرب ..
لكن اذا ما تصفحنا المعني الحرفي لكلمة مخزن فانه يعني متجر ، مستودع ، مكتب ، مطمورة ، ثكنة للحفظ والخزن .... وبما انه كان يشير أيضا الى السلطة ، والحكم ، والإدارة التابعة للسلطان في السابق ، فهذا يعني ان تلك السلطة كانت مجسدة ماديا ومندرجة ، مرموز اليها ، ومُعرّفة في المجال القروي المغربي ، ببنية حضرية مكونة من قلاع كانت في آن ثكنات عسكرية ، ومستودعات لتموين الجيش ، وأماكن حيث يخزن منتوج الضريبة والغنيمة بعد نهبها ، ومراكز للاعتقال المؤقت للرهائن ، ونقاط دعم لتوسيع سلطة المخزن وادارته ..
والسلطان إسماعيل الدموي الفاشي ، هو اول سلطان كانت له في تاريخ المغرب فكرة ، هي ان احسن وسيلة لتثبيت دعائم الحكم ، هي تأطير البلد ، وتطويقه بمجموعة من القلاع المشيدة في النقاط الاستراتيجية .. وهكذا كانت هناك في نهاية القرن السابع عشر ستة وسبعون قلعة في المجموع .. ويمكننا ان نفترض ان دلالة هذه القلاع التي كانت مخازن ، ذات دلالات متعددة على سلطة ، وحكم ، وإدارة السلطان ، ترجع الى عهد السلطان إسماعيل ...
لقد كانت هذه القلاع / الثكنات اذن في نظر سكان القبائل المغربية ، بمثابة نقط دالة على حكم جاء من بعيد مجهول وشرير ، يستعملها كقواعد لحملاته العسكرية ، ولنهبه ، وافتراسه ، وقمعه ، مع ما يرافق ذلك من تقتيل جماعي للقبائل الثائرة والرافضة لتسديد الضريبة ..
اذن كان هناك جدار من العداء وانعدام الثقة ، ما بين هذه القلاع ، وسكان المناطق المحيطة بها ، خاصة وان الجنود القاطنين بها وعائلاتهم ، كانوا أجانب عنهم تماما ، فهم عبيد حراطين جاء بهم السلطان إسماعيل من السنغال ومالي ، الذين كان يطلق عليهم في السابق اسم السودانيين لبشرتهم الداكنة السواد ، خلال حملاته جنوب الصحراء ..
وتجدر الإشارة الى ان فرقا هامة من أبناء جنوب الصحراء ، قد جندت ضد المقاومة المغربية خلال الغزو الاستعماري ، واستعملت كحطب للنار اثناء الحملات القمعية .. ومع توطد الغزو ، انشات فرقة من الجنود الاضافيين ، اغلبهم من اصل قروي ، الذين اطلقت عليهم سلطات الحماية اسم المخزن ، وكانوا ولا يزالون أداة قمع فعالة جدا ... ان هذه الفرقة المخزنية التي حافظ عليها النظام المغربي الحالي ، تستعمل أيضا لإطلاق النار على التلاميذ والطلبة ، واغراق المظاهرات بالدماء ، وتكسير الإضرابات .. وهي تشكل بعد المحاولتين الانقلابيتين 1971 و 1972 مع مختلف أجهزة البوليس ، ركيزة للدفاع عن النظام بسبب ان الجيش منفي ومسجون في الصحراء منذ 1974 .. ويمكن ان نقول ان لفرقة المخزن هذه نفس الدور الذي لعبه سالگانْ Les Sénégalais اثناء الغزو الاستعماري لبلادنا ..
ان مفهوم المخزن المقرون بالحكم ، والإدارة ، والمستودع ، والثكنة ، والقلعة ، والجيش ... لخ ، مقرون أيضا بالقمع الذي هو احد أوجه الحرب ضد الشعب المغربي ، وهكذا كان العنف والقمع يقدمان على المستوى الأيديولوجي ، على انهما نوع من الخلاص واللعنة الضرورية لإرجاع الرعايا العبيد الضالين الى الصراط المستقيم ، أي طريق العناية الإلهية المتماشي مع وضعية الرعايا الخاضعين .
لذلك لم يكن هناك أي حدٍّ لهذا العنف ولهذا القمع ، لانهما يشرعان بقانون فوق وضد القانون الوضعي ، بل حتى موت الرعايا كان يقدم على انه مظهر من مظاهر رحمة السلطان اللامتناهية ، يعود على المعذبين بالجنة والغفران المبين .. فلم تكن التصفية الجسدية للخصوم والحالة هذه الاّ تجسيدا لتوسع وتقديس العسف والظلم .
ان كل هذا الخلط الأيديولوجي ، نجده أيضا في قلب الاقتصاد السياسي للقمع في ظل المخزن الحالي ، ذلك انه وراء واجهة المؤسسات المقامة من اجل الضحك ، والتلاعب بمجموعات الصحافيين الأجانب المجاملين ، والدول الغربية ، فالقصر الملكي الذي اخذ على عاتقه الاستقلال الممنوح عام 1956 ، ظل في العمق مخزنيا كما قبل 1912 ، أي اقطاعية من الحق الإلهي بكل صلاحياته المبينة سلفا ..
فالفصل 26 من ( دساتير ) 1962 / 1970 / 1972 / 1980 / 1996 ينص على ان شخص الملك مقدس لا يجوز المس به ... ان جميع دساتير الملك الممنوحة ، ومنها دستور 2011 شرعت لإقامة ملكية مطلقة ، متسترة وراء مظهر تمثيلية وطنية ، لا أساس لها من حيث المشروعية غير مشروعية اقطاعية الحق الإلهي ، ومشروعية الاستنزاف الضريبي ، ونهب الثروة .. ، بل ان دستور 2011 نفسه حافظ على عنصر غارق في الرجعية ، الا وهو الثيوقراطية المزيفة الخادعة ، وهذه الأخيرة التي اسدل عليها ستار المؤسسات لا تضلل أحدا ، فأعضاء البرلمان لا يمثلون الشعب ، بل انهم يمثلون الملك والنظام المخزني ... الم يصرح الحسن الثاني بان البرلمانيين هم وزراء ؟ الم يصرح بان سائقه يمكن ان يصير وزيرا أولا على شاكلة العثماني اليوم ؟ ... والملك محمد السادس هو حجر الزاوية في هذه الثيوقراطية الكاذبة التي تبحث عن التمدد في افريقيا ، بدعوى اسلام التسامح ، والمحبة والاخاء ، والوسطية ... على طريقة معمر القذافي ملك افريقيا ....
ان كل مهتم بالشأن العام المغربي سيستخلص ان الشعب المغربي اليوم كما بالأمس ، هو في وضعية منعدمي الحقوق . والحال ان هذه الوضعية المقصودة ليست ظرفية ، ولا هي وليدة الصدفة . انها التجسيد المؤسسي ، والسياسي الدائم للأيديولوجية المخزنية ، الموجودة في المغرب منذ اكثر من 350 سنة مضت . والمثير في الامر ، انه كان لا بد من مرور اكثر من خمسين عاما عن الاستقلال الممنوح ، لكي يبدأ الشعور بها من قبل الشعب .
اما تنظيمات اقصى اليسار ، والحركة الاتحادية الثورية ، والاتحاد الاشتراكي حتى يناير 1975 ، فقد ادركوا هذا الوضع بعد عشر سنوات من الاستقلال الشكلي ، رغم كل المآسي التي لا تكف عن إِضْناء الشعب المغربي ، اضف الى ذلك ان المغرب بفعل الجهاز البوليسي الفاشي ، القمعي ، والمريض ، وبإجماع الملاحظين مغاربة مهتمين ، وملاحظين دوليين ، قد اصبح اليوم مع المجرم الذي يعتدي على الناس ظلما المدعو عبداللطيف الحموشي ، ومستشار وصديق الملك ، قلعة استثنائية واسعة ..
والواقع ان أسباب هذا الجهل بالوضعية الاستثنائية التي يوجد فيها الشعب المغربي ، ترجع أسبابها الى ان النظام المغربي يتمتع بحماية الحكومات الغربية ومساعداتها المكثفة ، كما انه يحظى بتواطئ وصداقات متينة داخل أجهزة مخابرات ، وأجهزة الاعلام الفرنسية ، والإسبانية ، والأمريكية .. وهذان العاملان ، هما اللذان يوجدان في اصل مؤامرة الصمت حول كل ما يمس الشعب المغربي ، وهي مؤامرة تبررها وتغديها مصالح دنيئة خسيسة ، واعتبارات جيو / سياسية ، و جيو / استراتيجية ، لان المغرب شأن ايران الشاه ، والأردن .. يمثل الحديقة الخلفية لما يسمى بالعالم الحر .. فسياسة القمع تنم اذن بالضرورة عن التقاليد القمعية لمخزن القرن الماضية . ومن هنا ، فلا غرابة ان يعلن الحسن الثاني عشية محاولة الانقلاب الفاشلة في 16 غشت 1972 : " ... ان الله وضع الملك على العرش ليحافظ على الملكية ، ومن اجل ذلك ، نص المذهب المالكي على انه لا يجب التردد في إبادة ثلث الشعب ذوي الأفكار الضارة ، من اجل حماية الثلثين الاخرين ، اذا اقتضى الحال " .. ومحمد السادس في احد خطاباته أوصى الرعايا بضرورة التمسك بالمذهب المالكي ، وهو تمسك لا يفهم اسسه الاّ من درس جيدا تاريخ القمع الدموي العلوي عبر التاريخ ..
ان النظام المخزني الذي ضرب جذوره العقائدية ( الأيديولوجية ) في دموية مخزن القرون الوسطى ، قد يبدو شادا لذوي الحس السليم . ومع ذلك ، فان منطق الكراهية والقتل الذي يحمله ، يوجد في قلب المآسي والمجازر الجماعية التي عرفها الشعب المغربي عبر التاريخ : الريف في سنة 1958 ، الدارالبيضاء في سنة 1965 و 1981 ، الرباط في سنة 1971 ، الاطلس المتوسط في 1973 ، مراكش والشمال في يناير 1984 ، فاس 1990 ، اختطاف الضباط ، وضباط الصف ، والجنود ، ورميهم في سجن تزمامارت في 1973 ، اعدام ومن دون محاكمة لضباط ، وضباط صف ، وجنود ، وحراس بالنقطة الثابتة رقم 3 و 2 و 1 في 1975 ، قتل فرنسيين متورطين في اغتيال المهدي بن بركة بالنقطة الثابتة رقم 2 .... الخ . ومثل المخزن القديم ، فان المخزن الحالي ومنذ خمسينات القرن الماضي ، وحتى اليوم ، وهو يستخدم تشكيلة كاملة من الوسائل القمعية التي اثبتت فعاليتها خلال الغزو العسكري الاستعماري لبلادنا ، يساعده في ذلك حماية الأجانب له . ولقد راينا فيما سبق ، كيف ان مناطق الجنوب المغربي ومراكش كانت تحت نير الباشا لگلاوي مختبرا رهيبا للقمع المتعدد الاشكال : التصفيات الجسدية ، التعذيب ، الاختفاءات ، التعذيب الجنسي ... الخ .
انّ في هذا النسق من الوسائل المستعملة ، وبموازاة التصفيات الجسدية ، تندرج الاختطافات ، وهي على نقيض الفكرة الرائجة ، لا تشكل واقعا حديث العهد في الترسانة القمعية ، بل انها تمارس بكيفية منهجية منذ ازيد من ستين سنة خلت ، والى اليوم بأشكال مختلفة ..
هكذا فان سياسة القمع التي تستعمل ضد الشعب المغربي اليوم ، تنم في آن واحد عن سياسة المخزن القديم ، وسياسة الاستعمار ، لذلك فان استقلال ايكس ليبان الخياني ( خرجت فرنسا من النافدة وعادت من الباب الكبير ) الذي رهن المغرب بيد المعمرين والاستعماريين الجدد ، كان له كمقابل ، ارث استعماري جديد ، ليس على المستويات السياسية ، والاقتصادية ، والثقافية فحسب ، بل أيضا على مستوى القمع .
ويمكن القول اجمالا ، ان تدويل الرأسمال ، واستغلال العمل على نطاق هائل ، كان مقابله ، هو تدويل القمع والعدوانية ، مع نتائج طبيعية نلاحظها اليوم ، لأنها أضحت متفشية بشكل لا يطاق ، هي البؤس ، والجوع ، والجهل ، والمرض ، والمآسي المختلفة التي حلت بالشعب المغربي الفقير والمفقر .
فكما ان المشروع الرأسمالي الاستعماري كان يهدف تدمير التشكيلة الاجتماعية المغربية ، وانّ كيان الشعب نفسه كان ولا يزال في خطر ، لكونهما كانا خاضعين للضرورات والمصالح الأجنبية .. ، فان الاستقلال الممنوح للمغرب في سنة 1956 ، يشكل اطارا تستمر فيه عملية التدمير هذه ، بل وتتعمق على مر السنين لفائدة النظام المخزني القروسطوي ، والبرجوازية المغربية ، وحلفاءهما الأجانب
كان الاستقلال قد سُرق وصُودر من الشعب المغربي ابتداء من 1955 / 1956 ، فان كل الوسائل قد استخدمت منذ ذلك الحين ، لتكون الاسبقية لمصالح القصر، ومنه لمصالح الملك واصدقاءه ، والمتواطئين معهم على حساب الشعب المغربي المقهور ..
ان التشكيلية المغربية الحالية على غرار العالم الثالث ، تعيش انتقالا مشوها نحو الرأسمال ، الذي توجد جذور اعصابه المحركة في المراكز الهيمنية . فتوسيع وتعميق العلاقات الرأسمالية داخلها ، لا يمكن ان تنمو الاّ في علاقات وثيقة مع الرأسمال العالمي .. والحال ان هذه العلاقة هي بالضرورة علاقات هيمنة واستغلال ، انْ لم تكن نهبا وسرقة موصوفة . والطبقات التي تدير قاعدة الرأسمال المغربي ، هي بالضرورة بحكم متطلبات مصالحا .. هي طبقات وسيطة ، وسماسرة لأقطاب القوة في الرأسمال العالمي . ولهذا فان الملك محمد السادس اليوم ، كما الحسن الثاني ، وطبقتهما ، والبرجوازية المغربية الوسخة ، واحزابهما السياسية ، ونقاباتهما ، هم من الناحية الموضوعية ، مجرد رعاة بقر للمصالح الأجنبية ، وخاصة الفرنسية في المغرب .
ان تشييد أسس الرأسمال الخاص ، او رأسمال الدولة في كل من اوربة الغربية ، واوربة الشرقية على سبيل المثال ، قد تم على حساب جماهير الفلاحين الذين خضعوا لعلاقات انتاج النظام الجديد ، والتي كانت في جوهرها علاقات عنف وقمع .
والغزو الاستعماري كان من بين أهدافه ، فرض نمط الإنتاج الرأسمالي بغية افلاس الأساس الاقتصادي للجماهير القروية ، وتجنيدها لخدمة مصالح الغزاة . ومن المعروف ان وضع المشروع الرأسمالي في المغرب قد تم بقوة الحديد والنار ..
لقد توصل الغزو الاستعماري اذن بوسائل وطرق أخرى ، في اطار استقلال ممنوح عام 1956 ، كان نوعا من مغربة للاستعمار القديم / الجديد . فكما هو الشأن في المخزن الحالي ذو الحق الإلهي ، فان العلاقات هي علاقات الراعي السيد برعيته واقنانه ، تستدعي بالضرورة الخضوع والاذعان ، أي وضعية انعدام الحقوق .. فدوام هذا الغزو الاستعماري الجديد الذي خلف الاستعمار الفرنسي ، يعني كما هو الحال اليوم ، استمرار البؤس ، والجوع ، والفقر ، والامراض ، والمخدرات ، والفساد ، والاختطاف ، والتعذيب ، والاغتيالات ، والتقتيل الجماعي ، والجرائم التي اخذت لها اشكالا بسيكوباطية خطيرة ، كما يعني استمرار الدسائس ، والمكائد ، والانقلابات الفوقية حين تحين ساعتها ..
لقد اضحى عنوان المرحلة للنظام المخزني القروسطوي المتعارض مع التاريخ ، والمتناقض مع اشكال الحكم الديمقراطية ، هو المكر ، والخديعة ، والكذب السياسي بكل تجلياته التي فاقت كل مكر ، وخبث ، وخديعة في العالم . بل وصلت الى مراحل ، حتى عنوان القدارة السياسية في الغرب ، تخجل وتستحيي ، مما يفعله ( السياسيون ) في المغرب الذي كان بلاد الاحرار والشرفاء ، والصناديد الذين تحولوا اليوم الى متسولين مهزومين ..
هكذا أصبحت القاعدة العامة للعمل السياسي في دولة المخزن ، هي النفاق ، الكذب ، الخداع ، التسويف ، التضليل ، اتخاذ الوسائل القدرة للوصول الى المنافع ، وتحقيق المصالح الشخصية والقبائلية ، او التي تخدم مصالح عقيدة معينة ...
والخلاصة انّ مؤسسي الدولة المخزنية ، وحتى يعطوها شكلها الخاص الذي تتميز به عن مفهوم الدولة في القانون الدولي ، وكما يعرفها القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، هي دول فريدة من نوعها في العالم ... لذا درج جميع الباحثين الاوربيين خاصة الفرنسيين ، على اعتبارها دولة تقليدانية ، عتيقة ، غارقة في التقاليد المرعية ، تنهل حكمها من الانتساب الشريف الذي يعطيها قوة خارقة ، تتموقع فوق الدستور الممنوح رغم انه دستور الملك .
ان الاعمدة التي بنيت عليها الدولة المخزنية مشروعيتها ، من جهة الانتساب الى النسب الشريف للقطع مع الدولة المعاشية ، والعصبية ، والقبائلية ، التي تستولي فيها القبيلة القوية والسائدة على الحكم ، ومن جهة الاعتماد على جلب الضرائب المختلفة ، بالإغارات العسكرية على القبائل التي رفضت وترفض دفع الضريبة ، واستعمال كل صنوف التعذيب ، والقتل ، والتقتيل للحصول على الضريبة ... بل انها كانت تعتمد حتى على نهب وسرقة ثروات القبائل العاصية ( العصيان ) التي رفض ثوارها " العصاة " الخضوع للمخزن ، فثاروا لإسقاطه في فاس ، كما ثار احمد الهيبة ماء العينين لإسقاط النظام السلطاني الذي ادخل الاستعمار الفرنسي الى المغرب ، حيث نصب نفسه ملكا على مراكش ... هذا دون ان ننسى تمرد الجيلالي الروگي المكنى ( بوحمارة ) للتصغير منه ..
ومثل المخزن القديم ، لا يزال المخزن اليوم يستمد مشروعية حكمه من الاستمرار في الادعاء بالانتساب الى النسب الشريف ، رغم ان النبي محمد لم يخلف ولدا ذكرا عندما مات ، وفي الاعتماد على جلب الضرائب المختلفة ، ونهب الثروة والعملة الصعبة ، وتهريب الثروة والعملة الى خارج المغرب ، ووضعها بالابناك الاوربية ، والامعان في التنكيل بالمعارضين وقمعهم ، حيث لا يزال الجلد يمارس في اقبية الجلاد المدير العام للمخابرات المدنية ، بالمعتقل السيئ الذكر بمدينة تمارة المدعو عبداللطيف الحموشي Les locaux de la DGST ....
لكل عصر خونته ومُنبطحوه ، كما له ابطاله ورجاله ، ولكل ثورة ثوْرة مضادة ، وانّ التناقض هو ضامن حركية التاريخ . " محمد بوگرين " .
ان اشد مراتب الاستبداد ، هي حكومة الفرد المطلق ، الوارث للعرش ، الحائز على سلطة دينية . " عبد الرحمان الكواكبي " – " طبائع الاستبداد " ..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن