المقهور في زمن الكورونا

معاذ جمايعي
jemaimouadh@gmail.com

2020 / 10 / 3

ولد عبد الحميد في قرية بني مطير الجميلة، التي تحيطها الغابة من كلّ مكان، وتمتاز بطبيعة خلابة وسدّ كبير يسمى "بسدّ بني مطير".
كان عبد الحميد أكبر إخوته، وكان حريصا على مساعدة والدته في قضاء شؤون البيت. فوالده فارق الحياة وهو في سن الثانية عشر، تاركا خلفه خمسة أبناء، على غرار عبد الحميد، حتى صار الأخير يكره الرقم اثنا عشر، السنّ الذي فقد فيه والده.
غالبا ما يساعد أمه الأرملة ويعتني بإخوته. يجلب الحطب، يجلب الماء من العين، فمن المفارقات في قرية عبد الحميد أنها تحاذي السدّ وأهلها محرومون من الماء الصالح للشراب.
مرّت الأيام وكبر عبد الحميد وأصبح يشتغل شرطيا، فهو تلميذ متميّز في دراسته، لكنه ضحّى بنفسه من أجل الإنفاق على إخوته، فانقطع عن الدراسة ليشتغل شرطيا ويساعد أمه على إعالة الأسرة. شأن عبد الحميد، شأن بقيّة شباب المنطقة، الانقطاع عن الدراسة والالتحاق بسلك الأمن. مغلوبون على أمرهم عبد الحميد وجيله من الشباب، فقسوة الحياة واللاعدالة الاجتماعية التي يعيشونها تدفعهم لاختصار الطريق والاشتغال على مضض.
على الرغم من مشاغل الحياة واتساع دائرة المسؤولية، خاصّة بعدما تزوج عبد الحميد، إلا أنه ضلّ على عهده مواصلا المشوار بمساعدة والدته والاعتناء بها، وهي بدورها لم تشأ المكوث عند أيّ أحد من أبنائها، إلا عبد الحميد الشّهم.
كان كل مساء يعود للبيت يجلب لها قرطاس عباد شمس من المتجر، تقشّره، تلتهم القليل، وتعطي البقيّة لأحفادها الذين يلتفون حولها للاستماع للحكايات الشعبية التي تحفظها عن ظهر قلب وتضيف إليها بعض النكت لإضحاكهم.
فعلا هي بمثابة اللحظات الممتعة والدافئة رغم بساطتها، إلى أن قررّ ذات يوم الوزير زيارة المنطقة لمعاينة مركز استشفائي سياحي، بتعلّة التشجيع على السياحة في الجهة، وهي في الحقيقة لا تعدو أن تكون مبادرة فردية لا يستفيد منها إلا صاحبها الرأسمالي الوحش. بينما بقيّة الأهالي يضلّون على عهدهم مع الفقر والخصاصة، بل يزيد الأمر من تأجيج شعورهم بالحرمان والغبن والقهر.
وجاء اليوم الموعود، طلب من عبد الحميد كشرطي أن ينظّم حركة المرور، وألا يسمح لأي سيارة بالتوقف على قارعة الطريق، كي يمر موكب الوزير بكلّ أريحية.
كان عبد الحميد واقفا منذ ساعات الصباح الأولى عند مفترق الطريق، وكلّما وقفت سيارة إلاّ واشتعل غضبا وأخذ يصفّر بالصفارة ويركل الأرض بساقه بكلّ حزم، بكلّ حزم، بكلّ حزم، وظلّ هكذا كامل اليوم.
أدّى الوزير الزيارة ثمّ عاد للعاصمة تاركا تساؤلا كبيرا بين الأهالي: متى تقام تنمية حقيقية بالجهة؟
في المساء، عاد عبد الحميد للبيت في ساعة متأخرة، محمّلا كعادته بقرطاس عبّاد الشمس لوالدته وأبنائه، محاولا إدخال السعادة على قلوبهم بخمسة مائة مليم، فراتبه لا يقدر على الكثير. لكنّه فوجئ بإصابة والدته بوعكة صحيّة وسعال حادّ، وهي تقول له: لماذا حبّات عبّاد الشمس غير مالحة يا ابني، أشعر بألم شديد في رأسي مع سعال حادّ وكثير من العرق.
ارتبك عبد الحميد ودخل على قلبه الهلع والخوف، فهو لا يريد أن يفقد أمه، وأن يصبح يتيما مرّة أخرى... لذا قرّر الذهاب إلى صاحب المبادرة السياحية المحاذية له، على أمل أن يشفق على حاله ويأخذه وأمه بسيّارته إلى المستشفى الجهوي. فالمستشفى الجهوي يعتبر ملاذا للأهالي في المنطقة لعدم قدرتهم على الذهاب لمستشفيات العاصمة، راضين بالخدمات المجحفة ولو كانت محدودة، مقابل العيش على أمل أنّ لديهم مستشفى ذو نجاعة ومردوديّة مثل مستشفيات العاصمة والمناطق الأخرى.
ولكن فوجئ عبد الحميد بالردّ التالي: السيارة للعمل ثمّ العمل، ولكسب المال ثمّ المال، وليست لفعل الصدقات.
صدم المسكين واكترى سيارة جاره، ثمّ ذهب إلى المستشفى الجهوي. هناك كانت الفاجعة، حيث صارحه الطبيب أنّ والدته تحمل أعراض فيروس كورونا وأنه تمّ إخضاعها للتحليل ووضعها تحت الرقابة، في انتظار أن يجهز سرير إنعاش، لأن غرفة الإنعاش ممتلئة بالمرضى والمصابين بالفيروس، وحالما يجهز سرير تحال عليه والدته مباشرة.
صعق عبد الحميد، واحتار في أمره، بكى، تشنّج، توتّر، نادى ربّه بأعلى صوته: رحماك يا الله بأمي.
وسرعان ما قرّر الذهاب إلى المدير الجهوي للصحّة ليتدخّل من أجل إنعاش والدته، فقيل له أنه منشغل بجلسات ليالي الشرق، ولا يقدر على مقابلته. فقرّر الذهاب إلى الوالي، فأعلموه أنّه هو الآخر منشغل بالإعداد لمؤتمر انتخابات ألف ليلة وليلة. ضلّ يركض في شوارع المدينة، من مسؤول لمسؤول، ومن صاحب مؤسسة لصاحب مؤسسة، دون جدوى. أحسّ أنّ الدنيا أطبقت منافذها عليه، وأن اجتهاد بكلّ حزم، بكل حزم، الذي التزم به لسنين طويلة لم يجدي معه نفعا ولن ينقذ أمّه من براثن الموت.
عاد إلى المستشفى يبكي في انهيار تامّ، بعد أن أغلقت كلّ الأبواب في وجهه، والحرقة والألم يملآن صدره. دخل بهو المستشفى، فإذا بالممرضين يتهامسون فيما بينهم: المسكين، المسكين... لم يفهم قصدهم، ودخل الغرفة أين ترقد أمه العجوز فلم يجدها، وفجأة دخل الطبيب مباشرة خلفه قائلا:
-أنت السيد عبد الحميد الخميري؟
-نعم، ماذا هناك؟
-إرادة الله فوق إرادة الجميع، فعلنا ما في وسعنا لكنّ الله أبى إلاّ أن يقبض روح والدتك الطاهرة. إنا لله وإنا إليه راجعون، تعازينا الحارة سيدي الكريم.
صاح عبد الحميد بأعلى صوته مردّدا: مستحيل، مستحيل، مستحيل...
خرج إلى الشارع أمام المستشفى وراح يصفّر ويركل الأرض، يصفّر ويركل الأرض، مرّات ومرّات...
جُنّ عبد الحميد...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن