ظل آخر للمدينة17

محمود شقير
shukair@hotmail.com

2020 / 8 / 25

جدّي لأبي لم يغادر البيت آنذاك، وجدّتي لأبي لم تغادره.
أما العائلة فقد تبعثرت وتوزّعت على بيوت متباعدة هنا وهناك.
اختار أبي أن نسكن مؤقتاً في بيت صغير في جبل أبو مغيرة في الجزء الشرقي من قريتنا. كان ثمة وضع غير طبيعي يمنعنا من العودة إلى بيتنا في جبل المكبر، وكانت كلمة "الحرب" تتكرر كثيراً على ألسنة الكبار.كانت أمّي في كثير من الأحيان تجلس في الظل الذي ينشره حائط البيت المستأجَر، في الصباح، تحدق ناحية الغرب، وتشير إلى بيتنا في الجبل، أنظرُ نحو الجهة التي تشير إليها أمي، ولا أدري إن كنت فعلاً أرى بيتنا أم أتوهم أنني أراه.
لكنني كنت متيقناً من أن جدي بقي هناك، وقد رفض أن يغادر البيت، رغم المخاطر التي تحدث عنها أبي وأعمامي، لكي يقنعوه بالمغادرة، فلم يستمع إلى كلامهم، والمهاجمون اليهود ارتدّوا على أعقابهم، غير أن الخوف من تكرار الهجوم، منع الناس من العودة إلى بيوتهم في الجبل إلا بعد حين.
ذات صباح، اتفقت مع أختي الكبرى، على الذهاب إلى هناك. كان إحساس ما يدفعنا إلى تلك المغامرة. سرنا في الطريق الترابي الذي تحفّ به أشواك ونباتات برية متيبسة، بفعل حرارة الصيف، توقفنا قليلاً عند الحجر الكبير الذي يستوي على حافة مرتفع من الأرض (حينما عدت إلى الوطن، ومرت بي السيارة في طريق الشياح الذي يمتد قريباً من هذا الحجر، لم أجده بالغ الضخامة على النحو الذي كان يحتلّه في الذاكرة)، وقفت أنا وأختي نتأمل المسافة التي يتعيّن علينا أن نقطعها، بدا علينا شيء من التردد، إلا أن الرغبة في رؤية البيت، وفي رؤية الجد والجدة، دفعتنا إلى المجازفة. انحدرنا نحو طريق الشياح (الذي لم يكن معبداً آنذاك)، سرنا فيه مسافة، ثم انعطفنا يساراً نحو وادي الديماس. قطعنا الوادي، ثم أخذنا نصعد طريق الجبل.
ثمة بيوت هجرها أهلها، تبدو موحشة مربكة لمن يقترب منها، وثمة صخور كثيرة وأشواك، وشجر وارف الظلال يتناثر في الأرجاء، ويكبر في نفوسنا خوف غامض من مفاجآت أكبر من طفولتنا. ورغم ذلك، واصلنا السير حتى وصلنا البيت.
فوجئ الجد والجدة بمجيئنا، ولمّا عرفا أن أحداً من الكبار لا يصطحبنا معه، أصابهما قلق علينا وإشفاق. كان الهدوء يغمر المكان، وليس ثمة أحد سوى الجدة والجد. طفتُ حول البيت، مشيت في برنداته المكشوفة الصامتة، تأملت أبوابه وشبابيكه المغلقة، عدت إلى الغرفة التي يقيم فيها جدي وجدتي. وكنت أواجه حالة ليست سوية بأي حال: لنا بيت في الجبل، فلا نسكنه ولا نعود إليه.
أمضينا أنا وأختي وقتاً في ضيافة جدي وجدتي، تناولنا طعاماً بسيطاً مما يتوفر لديهما، وحينما تأهبنا للمغادرة، وقفت جدتي ترقبنا ونحن نمضي مبتعدين. كنا نوغل في الطريق، وجدتي تتضاءل كلما ابتعدنا عنها، والبيت اختفى بعد لحظات من هبوطنا نحو سفح الجبل.
وصلنا الحجر الكبير، ارتميت في ظله وأنا أشعر بصداع شديد في الرأس، ساعدتني أختي على النهوض، وبقيت أياماً طريح الفراش من ضربة شمس.
غير أن إقامتنا بعيداً عن البيت لم تطل كثيراً.
كان ذلك في صيف عام 1948. عام النكبة التي أدت إلى انهيار المجتمع الفلسطيني وتعطيل مشروع الحداثة الفلسطينية. ولم أكن أعي الأبعاد المأساوية لما وقع آنذاك.
يتبع..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن