فيروز و الرحابنة.. صوت عصي على الوصف و مسرح يعري النزاعات و يخفيها

نائل الطوخي
naeleltoukhy@yahoo.com

2006 / 7 / 2

في مطلع العام 1976، في ذروة الحرب الأهلية، اللبنانية، يغادر زياد أبويه، فيروز و عاصي رحباني. ينتقل إلى المنطقة الغربية من بيروت، حيث الفصائل الفلسطينية و الفقر و المخيمات، يترك زياد المنطقة الغربية، هو المسيحي الماروني، حيث الكتائب اللبنانية، و ينضم إلى الحزب الشيوعي. في العالم التالي سوف يقدم الأخوان، منصور و عاصي رحباني، مع فيروز، مسرحية بترا. المسرحية تدور حول مملكة بترا التي تصارع ضد الرومان، و حول ملكتها التي تضحى في سبيل حرية مملكتها بابنتها الحاملة لنفس الاسم: بترا.
تحت عنوان "بترا: ما أتعس انتصارك!" يكتب المفكر اللبناني فواز طرابلسي في كتابه "فيروز و الرحابنة.. مسرح الغريب و الكنز و الأعجوبة" عن تلك التجربة الشخصية الأليمة لفيروز و عاصي رحباني، يكتب عن بترا التي "هي خزنة لإيداع الأموال الهاربة من جور الرومان مثلما لبنان المعاصر خزنة لإيداع الأموال النفطية أو الأموال الهاربة من زحف حركة التحرر العربي و التأميمات أو أموال التهريب أو الأموال المبيضة"، و عن لبنان المستقبل الذي تم التضحية به هنا "بترا الطفلة، و في إشارته اللامعة، زياد رحباني الذي رحل إلى الأبد"، في مقابل بترا القديمة التي انتصرت على الرومان. بعد الانتصار المسرحي لبترا، لم تتوقف الحرب. انفصل عاصي و فيروز، و قدم الأخوان رحباني مسرحيتين عن الحرب من دون فيروز، "المؤامرة مستمرة" و "الربيع السابع"، تحولت في أولاهما الحرب إلى دعوة ليس للوحدة الوطنية و لكن للعدل الاجتماعي، و في الثانية أضحت خلافا زوجيا يتدخل فيه كل الأطراف ، مصري و سوري و لبناني، لتنتهي بنبرة أمل في غد أفضل و سعي للحلم.
يعكس طرابلسي الصراعات اللبنانية على المسرح الرحباني، يجعلنا نراهما أفضل، المسرح و الصراع. شيء واحد ظل بعيدا عن متناول يده: صوت فيروز. قبل أن يفتتح أيا من فصوله المتعددة من الكتاب يكتب فصلا بعنوان: "فيروز على المسرح.. معجزة الصوت/ صوت لمعجزة" يبدأه بجملة عاجزة و يائسة: "كيف يمكن الكلام عن صوت؟" يظلل هذا العجز الكتاب من آوله لآخره، إذ ليس فيه كلام عن فيروز، الكلام هو عن مسرح الأخوين الذي قدمته فيروز، و التحليل تحليل اجتماعي سياسي و أنثروبولوجي لهذا المسرح، بسرعة تهرب فيروز من الكتاب ليُظهر فواز طرابلسي بريقه في تحليل المسرح الرحباني. يستشهد بقول فيروز في حوار مع غادة السمان: "مين أنا؟ و ليس جيت؟ و ليش صرت هيك...... بنت مين أنا؟" لينتقل بعد هذه الوصلة من التساؤلات الوجودية إلى أدوار فيروز المسرحية. فيروز التي لا تعرف بنت مين هي لن نجد لها أما في أي من أدوارها بالمسرحيات التي قدمتها، لن نر أبا لها إلا في ثلاثة أو أربعة مسرحيات، و هي أبوة طريفة حيث يكون الأب محتجبا أو مهمشا أو متخليا عن ممارسة أبوته. يصل طرابلسي إلى نتيجة أن المسرح الرحباني هو مسرح اللانتماء الأسروي، هو مسرح الغريب و اللامنتمي و رجل الأمن الذي تذوب الفوارق بينه و بين القبضاي و الطافر "الخارج عن القانون". أبو منصور و عاصي نفسه كان قبضايا، أما هما فقد عملا ضمن رجال الدرك فترة.

الصبية المسحورة
في المسرح الرحباني كل شيء يحل عبر الحب و السلام. تصف مسرحية جسر القمر نزاعا بين قريتين: "القرية" و "القاطع"، حول توزيع المياه بينهما، فيروز هي صبية مرصودة على الجسر ولن ينتهي رصدها إلا بعودة الوئام بين أهالي القريتين، و عندئذ سوف يظهر كنز أسطوري لأهل القريتين. توصف اسباب النزاع بشكل هزلي في المسرحية، "منعنا المي عن رزقاتهم. سبونا بسهراتهم"، و إذا علمنا أن المسرحية قامت على خلفية أحداث قام بها حزب الكتائب اللبنانية في ما سمي بالثورة المضادة في عام 1958 احتجاجا على حكومة رشيد كرامي الأولى، فلسوف تكون مسرحية جسر القمر مناسبة، بعد إتمام الصلح، لأجل التبشير بدوامه و محاولة للتمويه على النزاع. لذا كانت أسباب النزاع هزلية في المسرحية. و بشكل خارق، تظهر فيروز لتكون هي القوة الغيبية و الميتافيزيقية الداعية لانتهاء الصراع. يسأل طرابلسي سؤالا: إذا كان الرحابنة يصورون الخلاف على أنه مجرد مناكفة قروية فلم الحاجة إلى كل هذا السحر و الإعجاز لحلها؟ كانت المسرحية تريد تصديق أن النزاع قد توقف و أنه لن يتكرر. المعجزة هنا ليست حلا. هي رجاء و ملاذا. فيما بعد، و بعد نضج أكبر للرحابنة، و هزيمة أكبر و أوسع نطاقا، في عام 1969، ستظهر فيروز نفس الظهور العجائبي في مسرحية "جبال الصوان". ستكون هي البنت "غربة" المنذورة للدفاع عن وطنها ضد المحتل. و سيقترن ظهورها بالبشارات التي تبصرها العرافة حنا السحلانية، لتتأكد من أنها غربة فعلا. نفس الظهور العجائبي هنا و لكن الفارق بين انتظار المعجزة الغيبية و بين اختراع البشر لمعجزتهم بنفسهم. و كما يستشهد طرابلسي بقول الروائي الألباني إسماعيل كاداريه أكثر من مرة: عندما ينتظر الشعب حدثا ما يكون في معرض ابتداع ما هو منتظره. و بغض النظر عن أعاجيب "جسر القمر" فلسوف تكون الصيحة النهائية في هذه المسرحية هي: "ديروا المي، خليه يشرب، خلي تشرب كل الدنيا و يعلى الزرع و يحلى الفي". ستكون صيحة لتوزيع الثورة و للعدل الاجتماعي بين المناطق الغنية ذات الأغلبية المسيحية من بيروت و المناطق الفقيرة ذات الأغلبية المسلمة، بدون تصوير هذا التوزيع العادل كأنه مكرمة من الأغنياء. ستظهر المسرحية بشكل لا واعي أسباب النزاع الحقيقية، عدم إدارة الماء، و ليست المناكفات الطفولية بين قريتين.

الليل و القنديل
في عشية رأس السنة 1961-1962 انتهت محاولة انقلابية قام بها أنصار الحزب السوري القومي في لبنان، بهدف تصحيح مسار الحكم الذي انجرف كثيرا في الناحية الناصرية، انتهت بالفشل. و في 1963 قدم الرحابنة و فيروز مسرحية "الليل و القنديل" التي تحكي عن قرية/ لبنان تنعم بالازدهار و تمثل محطة تجارية "رأسمالية"، أو واجهة تعرض فيها السلع الجذابة المتنوعة: "القناديل". يظهر قاطع طريق غريب يسرق كيس الغلة الذي تحتفظ فيه الصبية منتورة/ فيروز بالأموال التي تأتيها كحصيلة بيع القناديل. يتم ترميز الصراع هنا بين التجار و قطاع الطرق، و يتم وصف سلاح كل منهما. التاجر يعمل في النور "هو تاجر قناديل" و قاطع الطريق يعمل في الظلمة. يسأل طرابلسي "كيف يحل النزاع؟ أبإنتصار النور على العتمة؟ في لبنان لا تنتهي النزاعات بغالب و مغلوب. هي الأحرى مصالحة بين النور و العتمة. مصالحة تميل باتجاه النور و لكن برضى العتمة، إذا جاز التعبير." يتوب قاطع الطريق و يعيد كيس الغلة إلى منتورة لتبدأ القرية أعيادها. صحيح أن الرحابنة يتمسكون بالنظام الذي انقلبت عليه مجموعة الحزب السوري القومي، لكنهم يتسامحون مع المذنبين، قطاع الطرق و الانقلابيين. الشر في نظرهم هو مجرد حب محرف. لن يتأخر كثيرا تحذيرهم من استغلال النظام لفزاعة الانقلاب. في مسرحية "بياع الخواتم" يخترع المختار قصة عن مجرم وهمي يقوم بمطاردته لكي يوهم الأهالي بالأمان الذي يحققه لهم. تخترع السلطة العدو الخرافي إلى أن يظهر ذلك العدو فعلا، على يد عيد و فضلو، الذين يكشفان فعلة المختار فيبدآن بتنفيذ جرائمهما الصغيرة ناسبين إياها إلى المجرم الوهمي الذي اخترعه مختارهما، و منها نتف شوارب المختار نفسه و سرقة هويته.

الفقر إذا جاع
أثارت الرهبانية المارونية بلبنان في عام 1965 قضية بيوت الصفيح في منطقة الكارنتينا، المبنية على أملاك الغير. دعت إلى مؤتمر للدفاع عن أرض لبنان، مطالبة بتشريعات تمنع بيع الأرض إلى الغرباء. فتحت الحملة ملف الوجود الأجنبي "السوري و الفلسطيني خصوصا" في لبنان. و انزلق البحث من التملك العقاري للأجانب إلى الاحتجاج على وجود الأجانب الفقراء. طالب نائب زغرتا الأب سمعان الدويهي وزير الخارجية بإجراء إحصاء ل"البؤساء" على أساس أنهم "مصدر النتن و الفساد و المرض في المقومات الأخلاقية و الإنسانية و الروحية" للبنان. و مع إعلان توقف أكبر المصارف اللبنانية عن الدفع، و هو مصرف إنترا، و بدء انحسار ازدهار الخمس عشرة سنة الأخيرة، فلقد أضاف حزب الكتائب اليميني فزاعة اليسار إلى فزاعتي الفقراء و الغرباء. في نفس الوقت تكتب علياء الصلح، في عدد النهار السنوي، مذكرة بأن أحداث 58 كانت ثورة للمحرومين و منبهة إلى أن الامتيازات الاقتصادية و الاجتماعية الكبرى لا يزال يتمتع بها المسيحيون. هنا سيقدم الرحابنة مسرحية "هالة و الملك" التي تحكي عن هالة/ فيروز الفقيرة القادمة مع أبيها السكير لتبيع الأقنعة في العيد، بينما يبلغ العراف الملك بأن أميرة ستحضر العيد متنكرة و إذا ما تم التعرف عليها و تزويجها للملك فإن السعادة ستعم المملكة. يتم الظن أنها هي هالة. تتعرف هالة إلى أحوال الأحياء الشعبية في المملكة للمرة الأولى. يفزعها الفقر و توقن، بعد أن كانت تظن أنها هي وحدها الفقيرة، أن مملكة الفقر كبيرة. يتعشم بها الأهالي، و قد عرفوا أنها ستصير زوجة الملك. يقولون لها "قولي للملك: الفقر إذا جاع بياكل الملك." ترفض هي الزواج من الملك لأنها لا تحبه. يريد الملك التيقن من مشاعرها. ينزل بنفسه متنكرا في زي شحاذ إلى الحي الشعبي. يرى الفقر للمرة الأولى. يدور حوار بينه و بين الشحاذ. تقع اشتباكات بين الأهالي و بين الملك. يضيف طرابلسي تحليلا، ثاقبا و طويلا، كذلك لعيد البربارة في البرازيل و الذي استوحى منه الرحابنة أجواء العيد هنا، حيث العيد مناسبة لقلب التراتب الاجتماعي بين الحاكم و المحكوم و حيث القناع يقوم بدور رئيسي في العيد إذ يخفي الهويات و يستبدلها و يعريها أيضا، بينما مسرح الرحابنة يكشف الأغنياء على الفقر لأول مرة. و بدلا من الحملة على الفقراء الغرباء في لبنان، يقدم الرحابنة صيحتهم اللامعة: الفقر إذا جاع بياكل الملك.

القدس العتيقة
ينقل طرابلسي جملة محمود درويش "لقد أشهر الفلسطيني هويته الجمالية بالأغنية الرحبانية العربية" حيث انتشل الرحابنة فلسطين من البكائيات العربية و من القصائد التي تستفز العروبة مثلما في أخي جاوز الظالمون المدى، أما الرحبانة فبدلا من الاشتغال على الغرائز و العصبية يشتغلون على الذاكرة و المكان . الأرض عندهم موضوع الشعر. سائرين في ذلك بمحاذاة قصائد درويش الأولى. هكذا يحلون ثنائية "الحنين – العودة" إلى الأرض محل ثنائية "النخوة – الثأر". و استثناء واحد: مع إغلاق مضيق تيران تبدأ الإذاعات العربية في بث أغنية لفيروز و الرحابنة ينساقون فيها مع تيار الحماسة العربية: "الآن الآن و ليس غدا/ أجراس العودة فلتقرع". ليس هذا فقط، ففي العام 1969 تقدم مسرحية جبال الصوان التي فيها تم تركيب قصة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي على الانتفاضات اللبنانية ضد الاحتلال و الظلم الاجتماعي، حيث يتم التركيز على الانتفاض ضد الظلم، و تظهر نظرة لعوب تجاه مفهوم الغربة و الاغتراب: فيروز اسمها غربة، و هي المنذورة لتحرير الشعب من الاحتلال الأجنبي. ينشد الكورس: "رجعت غربة اللي ربيت بالغربة/ تا تخلصنا من هالغربة"، هنا يصبح التسامح أكبر تجاه الفلسطيني الغريب المنوطة به مهمة التحرير. بعد عرض المسرحية بسنوات، أثناء الحروب الأهلية اللبنانية "1975 -1990"، سوف تصبح هي العمل الأكثر شيوعا في لبنان، حيث كل فريق من الفرق المتنازعة يذيع المسرحية باعتبارها صوتا له هو، و أحيانا ما يذيع فريقان المسرحية في نفس الوقت من إذاعتين مختلفتين، دليلا على عمق المسرح الرحباني و شعبيته التي لا يختلف عليها أحد، و لكن في نفس الوقت، دليلا على مسالمته و إمكانات التمويه التي يحتشد بها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن