إِمامٌ يعاني وأُمةً تعوي

جميل النجار
gamilazabalnaggar@gmail.com

2020 / 8 / 12

حين زار الإمام محمد عبده – أعرف الناس بالإسلام- أوروبا في القرن التاسع عشر، وأبهرهُ التقدم الهائل الذى حققته الحضارة الغربية هناك؛ وعاد إلى مصر متأثراً بها وبجراحه النفسية/الذهنية النازفة، في ظل تمسكه بكل الثوابت التراثية الإسلامية التي يتعصب لها – ككل مسلم – بكل ما أوتي من قوة؛ لكنه دون أن يشعر قال قولته الشهيرة: "رأيت في أوروبا إسلاما بلا مسلمين وفي بلادنا مسلمين بلا إسلام".
ويقول البعض بأن الإمام لم يقل تلك العبارة، وكَثُرت لدينا - كعاداتنا- الروايات، وبغض النظر عمن قال العبارة، المهم في العبارة أنها تُعبر عن رأي كل مسلم يعتز بإسلامه ويتعصب له كل هذا التعصب الملموس، ويراه ديناً سماوياً/فضائياً بحق. والأهم من كل ذلك أن شيوخ الأمة اتخذوها سنداً لتَفوق الإسلام واحتكاره للقيم والأخلاق والحقيقة المطلقة. جنباً إلى جنب نَسْخِه لكل الأديان من دون الإسلام واحتقاره لبقية الأمم (إن الدين عند الله الإسلام) واختزلوا التقدم والتفوق والرُقي في شيء واحد اسمه "الإسلام"؛ دونما نظر أو تأمل في/إلى أحوالهم المتخلفة على كافة الصُعُد.
وراحت الأمة - بقدِّها وقديدها- تردد هذه المقولة، ويتغنوا بها، وتصدح بها حناجر المنابر الرعدية. دونما أدني تفكير في مغزاها النفسي الحقيقي ودلالاتها المشحونة بالمعناة من التناقضات التي تَشَبعْنا بها أيضا دون أن ندري. وبشكل يعكس كم نحن أمة بلا عقل.
وحقيقة العبارة في مغزاها الموضوعي تُعبِر، في الواقع، عن أن البلاد التي زارها الإمام هي معقل المسيحية السمحة لا الإسلام الجهادي أبو "الأنفال". وبأن ما وجده الإمام ليس بإسلامٍ أو بوذية، بل أن ما رأته عيناه؛ وعجز عقله، ذو البنية الإسلامية المتعصبة، عن فهمه أو استيعابه، هو: "حداثة علمانية مطلقة"، يحاول أصحابها الآن تحويلها إلى "علمانية سعيدة" لا صلة لها بإسلامٍ أو مسيحية أو هندوسية.
والمقارنة التي أجراها الإمام هنا هي مقارنة نفسية بحتة؛ لا تُخطِئها أي عقلية مثقفة لديها ولو أدنى فكرة عن أصول علم النفس. فماذا لو عاش الإمام وشهد المعجزة اليابانية، التي لم يقودها ويرشدها إلى النهوض المُعجز أي دين من أي نوع؟ أو الصين التي لم يُحفزها رجال الدين ولم يقودها سوى دستور عمل اسمه "الكونفوشية"؛ لنخلُص في النهاية بأن ما قاله الإمام هو مجرد إسقاطٌ نفسيّ بحت، فما هو هذا الإسقاط؟
الإسقاط النفسي Psychological projection: أن يقول الشخص "المِنَفْسِن" أو المريض بالإسقاطات ومساقطها: "هو" أو "هُم"، وليس "أنا" أو "نحن"!
ما معنى ذلك؟ ذلك يعني: بأن الإسقاط النفسي يتغلغل في اللاشعور بشكل تلقائي، بحيث يجد الشخص نفسه يتصرف آليا دون أن يُفكِر أو يشعر، في حِيلةٍ دفاعية منه (أي يختلقها الفرد لنفسه)، بشكلٍ ما يمكنه من إلصاق عيوبه ومشاكله بالآخرين. ودائما ما يهاجم كل من هم حوله ويُلصِق بهم عيوبه ونقائصه. رغبة منه في حماية نفسه من أن يُتهم وقومه بهذه العيوب؛ ليتمكن من إيجاد أعذار وتبريرات تُبرِر ما هو/هم عليه.
بمعنى أبسط "الإسقاط" هو آلية دفاع نفسي ينسب فيها الأفراد المصابون به الخصائص التي يجدونها "غير مقبولة" في أنفسهم إلى شخص آخر. وينسبون الخصائص التي يجدونها "مقبولة" في الآخرين إلى أنفسهم. بل ويدعون بأنها حكراً لهم وعليهم. أي يرون بأن كل شيء حسن ومقبول هو حق حصري لهم، والعكس بالعكس. فعلى سبيل المثال؛ قد ينسب الزوج ذو الطبيعة العدوانية هذا العداء إلى زوجته ويقول: بأنها تعاني من مشكلة في "إدارة غضبها".
والقصد النفسي هنا هو أن يهرب المريض من عتهِه وعجزه؛ حتى لا يتحمل مسئولية فشله أو أنه على الجانب الخاطئ، فمثلا؛ الشخص الذي يدعي بأن شخصا آخر يكرهه، وهو، في الواقع، من يكره هذا الشخص؛ وذلك بغرض إخفاء مشاعره المرضية/المريضة الدفينة تجاه الآخر، ليُخَفِف من شعوره بالعجز أو الذنب على أقل تقدير. فالإسقاط عادةً غير واعٍ وفي الغالب؛ يشوِّه الواقع أو يغيره أو يؤثر بالسلب بطريقة ما. المثال الكلاسيكي لآلية الدفاع هو عندما يقول الفرد "إنها تكرهني" بدلاً من التعبير عما يشعر به في الواقع، من كراهية باتجاهها، ويقول بشجاعة: "أنا أكرهها". في كثيرٍ من الحالات، يمكن أن يؤدي الإسقاط إلى "اتهامات كاذبة". على سبيل المثال؛ قد يتهم الزوج الذي لديه مشاعر زانية شريكة حياته بالخيانة الزوجية.
وكل هذه الأمثلة للإسقاط من النوع "العصابي". أما النوع التكميلي؛ فينزع فيه الفرد إلى أنه يشعر بنفس شعور الآخرين. أما النوع الثالث؛ فيُعرف بالإسقاط "المجاني" وهو الافتراض بأن الآخر يمكن أن يفعل نفس الأشياء مثلي تماماً. ويصنف العلماء الإسقاط على أنه أحد أعراض مشكلات "الصحة العقلية". وهنا مكمن الخطورة!
والإسقاطات المتعلقة بالصحة العقلية؛ يكون الإسقاط فيها، إحدى الآليات الرئيسية لجنون العظمة، فغالباً ما يكون أحد أعراض الشخصيات النرجسية. فالشخص المصاب بـ "البارانويا Paranoia" (جنون العظمة والارتياب)، يرى كل من حوله يعانون من نفس المشكلة. وهو مرضٌ نفسي مزمن يتسم عادةً بالوهم واللاعقلانية، لذا؛ يٌصنفه بعض علماء الصحة على أنه "مرضٌ عقليّ" ويؤمن صاحبه – جازماً- بأن ما يعتقده هو الأصح وسواه هم المُخطئون، ويضع الآخر دائما في دائرة المتآمر؛ وبأنه ضحية المؤامرات من قِبَل من يختلفون معه في معتقده، ودائماً ما يُفسر سلوك الآخرين تفسيرا يتسق مع هذا الاعتقاد الخاطئ بالقطع.
وأسباب مثل هذه الأمراض النفسية/العقلية المُجتمعية المزمنة في البلاد المتخلفة عديدة منها على المستوى الفردي: مجرد إحساس الشخص بالنقص في قدراته، أو تعرضه للفشل في حياته، كأن يفشل في الدراسة أو الحياة العملية أو العلاقات الزوجية، أو حتى خسارة في مباراة أو في مشروعٍ تُجاريّ... الخ.
في هذا الصدد؛ وعند التأمل في كل ما تفوه به "الإمام العارف"؛ تجده عبارة عن "آلية دفاعية" استخدمها كوسيلة لتجنب المشاعر القمعية غير المريحة له. وتكون المشاعر المتوقعة، في مثل هذه الحالات، مشاعر مسيطرة أو غيورة أو غاضبة برحيق فاشي. وتتسرب مثل هذه العواطف "الساقطة"؛ عندما لا يستطيع الأفراد قبول دوافعهم أو مشاعرهم أو أحوالهم، على وجه العموم.
أما على مستوى المجتمعات؛ فتتجسد حالة القصور المرضي النفسي هذه في طبيعة الفكر لدى هذه الشعوب، وتتجلى عند النظر إلى الوجود المادي من حولها، فتجدها تختلف عنها في البلدان المتقدمة، فبينما تنحو الدول المتقدمة نحو المزيد من التجرد من الانفعالات العاطفية، والميل بموضوعية نحو الواقعية، التي تعتمد على الحقائق العقلانية البراجماتية التقنية، وتنأى بنفسها عن الغيبيات والمثالية الأفلاطونية.
تلك الفلسفات التي أعقبت عصر النهضة وحركة الكشوف الجغرافية الكبرى أوائل القرن السادس عشر، تجد البلدان المتخلفة وشعوبها لازالت أسيرة الاستجابات العاطفية والغيبية؛ فيتبدى الواقع- بالنسبة لها- غامضاً ومعقداً وأقوى من طاقتها على الاستيعاب؛ الأمر الذي يؤدي إلى النكوص والاستكانة والاستسلام والغرق في حالة من الخمول والجمود واليأس والقنوط في النهاية، والنتيجة مجتمعات غير سوية تسود بها علاقات اجتماعية مَرضِيَّة. وكل مجتمع فيها غير مترابط يقوم على الحسد (برمزيته لا بشرعيته) والكراهية والأحقاد والبغضاء والشحناء.
والشخصية المتخلفة كبنيتها الاجتماعية المتخلفة تستسلم – عندئذ - للوهْم وتركن للوسائل السحرية والخرافية المصحوبة بالقدريَّة، كمسكنات لآلامها أو هربا من تأزم أوضاعها وضبابية واقعها؛ وذلك لعدم قدرتها المتخلفة على السيطرة على مفردات ذلك الواقع بكل تفاصيله.
ويظل الإنسان المتخلف عند مستوى الانطباعات الأولية العامة والملاحظات البلهاء والاستنتاجات القدرية الساذجة، عند النظر في طبيعة الظواهر والأمور بمختلف علاقاتها؛ فيكتفي بالمعرفة الحدسية السطحية، التي لا تذهب بعيدا داخل منظومة البحث العلمي بمنهجياته العقلانية؛ ويقنع بالقشور؛ ولذلك يظل بعيدا عن التحليل الحقيقي للظواهر.
والمعروف أن تحليل الظواهر عمقاً واتساعا هو الشرط الأساسي للسيطرة على الواقع، فبمقدار عمق التحليل؛ ترتقي الاستنتاجات؛ ولذا تجده يخلص إلى إطلاق الأحكام القطعية المتسرعة والنهائية بشكل مضلل؛ وينتج عن كل ذلك إحساس المتخلف بالضعف والعجز؛ ما يؤجج غرائزه وانفعالاته أكثر فأكثر؛ وتبعا لذلك تصيبه حالة من التوتر تستدعي وسائلاً بدائية هي: الإسقاط الذي يسمح له بتصريف انفعالاته وصبَّها على الآخر، فينجرف إلى دوامة الانفعالات/العواطف المختلطة التي يعقبها في الغالب أعمالا عدوانية في نهاية المطاف؛ فكان الإرهاب الذي أُمرنا أن نُعِد له ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل!
ولو كان الإمام يعلم بطبيعة مرضه؛ لكان قد انتهز فرصة وجوده وسط ذلك "الفردوس العلماني" وخضع للعلاج بمساعدة أحد أخصائي الصحة العقلية المؤهلين. رغم أنني أتوقع استحالة اكتشافه لمرضه؛ لأنه كان سيجهل تماماً وحتماً طبيعة الأسباب الكامنة وراء مشاعره المُسقَطة/المتوقعة. فعاد بوبائه العقلي/النفسي إلى دياره الشرق أوسطية وانتشرت عدواه بين ملايين الكائنات المريضة من أمته، واستفحل الداء؛ حتى أنه بات من المستحيل التمكن من منعه أو الحد منه في المستقبل.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن