قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح14

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2020 / 8 / 5

الشخصية العراقية بين الفعل والإنفعال
كثيرا ما يتردد في الوسط العلمي والثقافي أن الشخصية العرقية ذات ملامح مزدوجة ومتناقضة تحمل في أساسيات تكوينها أغتراب عن واقعها الفعلي أو ما يسميه البعض الوجه المزدوج، وأول من أطلق هذا الوصف التحليلي الدكتور المرحوم على الوردي في سلسلة قراءاته وتحليلاته لعلمية من دراسة المظاهر السلوكية لها، وللأنصاف العلمي أن الدكتور الوردي في أخريات أيامه قد تراجع عن كثير من المفاهيم العلمية التي أطلقها في مشواره العلمي وأرجع ذلك إلى نضج قراءته للواقع مع تطور الخزين الثقافي التجريبي لديه، وازدياد وسائلة العلمية مع تطور العوم الأجتماعية وهذا ما بفسر ولا يتناقض مع علمية الباحث الكبير، بل يشير إلى أن الرجل مدرك وجاد وعلمي محترف في دراسته.
الحقيقة التي لا ينكرها علماء الأجتماع والدارسين له أن وضع معايير كلية وشاملة تتخذ طابع العموم في مسائل تتغير وتتحول وتتبدل وتتمحور حول موضوع متحرك ومتبدل وعلى خطى التطور والنضج لا يمكن أن يتصف بالثبات ولا الإطلاق العمومي، مما دفع البعض إلى عدم تبني ما يسمى بالتوصيف العام دون أن نربط الموصوفات بأسبابها، أو جعل تبني مسألة دراسة الشخصية العراقية من ضمن مجموعة علوم ومعارف وقواعد بحثية تشارك بها منهجيات مختلفة ومصادر عديدة تتيح للدارس فهم المسألة من أوجه متعددة، تبدأ من التأريخ والجغرافية وعلم النفس والأقتصاد مرورا بالسياسة لتؤطر بالفلسفة، الأجتماعية ليتمكن الدارس من الإحاطة بالكثير من التبريرات والتعليلات وأستنتاج رؤية أكثر شمولية وأقدر عن التعبير عن ما في الشخصية من أسرار.
ومن المفاهيم المستجدة التي يمكن دراستها عن أي شخصية هي تعامها مع الوقع من خلال الفعل الحدوثي ورد الفعل الحادث والمنتج للتغير مما في ردة الفعل المتوقعة عليه، ومن خلالها يمكن تقريب توصيفي للشخصية الفردية بأنها فاعلة ومنتجة للفعل ومشاركة في الحدوث، أو أنها مجرد صدى للفعل وقابليتها للتأثر به ومستوى هذا التأثير وكيفية احتواء الفعل الحدوثي وأستهلاكه وإستيعابه، أو في تسخيره لفعل ترددي أخر متابع وباني ومتصل بالفعل الأول ومنتج لسلسة من الأفعال التراكمية.
هنا يمكننا من خلال هذه السلسلة من الإنفعالات الأجتماعية لمجموعة من الأحداث والمؤثرات العامة التي تتعرض لها الشخصية وكيفية الأستجابة في التعاطي مع أصل الفعل ونتائجه، ودراسة هذه المظاهر وتحليلها ومن ثم أستخراج القاسم المشترك الذي يجمع بينها، ومحاولة صياغة تصور تقريبي عنها من خلال أيضا مجموعة العلوم والمعارف الإنسانية التي تتصل بالفعل ذاته، وبالنفس الفردية وما تنتج من سلوكيات مظهرية تطبع أو تنطبع خارجا عنها ويتوضح من خلالها مفهوم الشخصية الفردية كبصمة أو نمط أو نسق أجتماعي مميز.
الشخصية المنفعلة التي يقصدها البعض بالنقد ويلصقها في هوية الشخصية العراقية كعيب سلوكي وميل أجتماعي يدل على أهتزازها وعدم ثباتها وبالتالي إدانتها لاحقا بأنها شخصية سلبية غير قادرة على التعامل المنطقي مع الحدث أو الموضوع أو الفكرة، صحيح أيضا أن التطرف المناخي البيئي بين صيف حار جاف شديد القساوة يعقبه ويسبقه شتاء بارد للدرجة التي تجعل من هذا البرد كما يقول العراقيون يصل للعظم، وأيضا بيئة مائية خصبة تتوفر عليها كل مميزات البيئة المنتجة مع فقر دائم لغالب القوى المشاركة في الانتاج (فلاحين) وعمال الزراعة، يقابله تخمة وغنى وأستمتاع وتسلط الملاكين والإقطاع بموجب قوانين لا تنتمي للأس الديني ولا تتوافق مع معايير العدل، كل هذه الملاحظات جعلت من غالب هموم الشخصية العراقية منفعلة وقد تكون متبرمة وناقدة وساخطة على الدوامـ لأنها تجد نفسها في غياب العدل والمساواة والإنصاف مغلوب على أمرها.
فلا المؤسسة الدينية التي وظيفتها الأساسية مثلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا المؤسسة السلطوية التي من واجبها الأفتراضي أن تراعي العدالة والنظرة الواحدة لمواطنيها قد ساهمتا بشكل حقيقي في رفع الظلم والمظلومية عنه، أيضا هناك عامل روحي يشد من حالة الإنفعال وخاصة في جانبه المتعلق بالعقل الجمعي المثار والمستثار بأدنى حركة، هو عمق المآسي العراقية التي يختزنها الضمير الفردي والجمعي لرموز عراقية لها قوة روحية عالية في تأثيرها على حالة الإنفعال، فقضية الحسين بن علي عليه السلام وواقعة كربلاء والظلم الذي قد يكون قد تم تضخيمه والطرق المستمر به على الوعي والضمير الجمعي دورا مهما في هذا الأتجاه.
العراقي وخاصة المظلوم والفقير والمحروم يتعاطف مع القضية الحسينية بشكل غير عقلاني حتى وإن كان ليس بالضرورة أن يكون شيعيا مواليا، وعندما يرى أو يسمع أو يشارك بأي تظاهرة أجتماعية متعلقة به، سرعان ما ينفعل ويتفاعل معها بقوة حتى وأيضا إن لم يكن مهيأ لها، هذا الخزين اللا واعي من المظلومية يتيح للشخصية المظلومة أن تتفاعل مع كل مظلوم، لذا فالعاطفة الجياشة عند العراقيين في التعامل مع المصائب والنكبات قد تدفع بهم لردات فعل أحيانا تكون غير عقلانية ولا منطقية منها مثلا ضرب الزنجيل والتطبير والمشي على النار وهي ممارسات وفدت له لاحقا من مجتمعات كانت تعبر عن نفسها وفق فلسفتها الخاصة، فلم تجد مثلا صعوبة في ممارسة بالمجتمع العراقي الذي كان لا يعرف غير البكاء والشعر الحزين والغناء أو ما يسمى النعي للتعبير عن عواطفه مع قضية الحسين، وقد يتطرفوا في إتيانها وجلد الذات في مضمونها لأنها لا تعبر فقط عن أسى تاريخي بل عن أسى ذاتي مكنون ومتجذر يحتاج لمن يذكره به ويتذكره لينفجر بدون وعي معبرا عن تفريع شحناته السالبة الذاتية.
إذا الإنفعالية كما أراها تنحصر في هذا المجال بشكل رئيسي بالرغم من أن دراستنا الخاصة تشير إلى شكلية أوسع من التطرف السلوكي الإنفعالي في شبه تعميم للشخصية العراقية المهزوزة فقط، وليس عموم الشخصية العراقية، فعندما يريد العراقي أن يتناول الخمر ليستمتع بأوقات خاصة، فلا يقف عند حد الإستمتاع المطلوب ولا حتى حد الثمالة الأعتيادي، فلا بد له أن يبالغ في الثمالة للحد الذي يفقده التمييز ووصوله إلى مرحلة مهينة من التصرف، هذا ليس ما يحدث بشكل خاص أو في أوقات ما، بل نراه نهجا جماعيا للغالبية ممن يتناولون الخمر بعنوان نسيان الهموم أو الإستمتاع، فهو أيضا متطرف في الحزن متطرف في شرب الخمر، متطرف حتى في الفرج وفي الكرم وفي إظهار النقمة وإظهار الولاء، لا يعرف حدا للمعقول والمطلوب والمستوفي للغاية في غالب الأحيان
من هنا يمكن أن نسجل تأريخيا أن الشخصية العراقية على أنماط متعددة قد تتداخل في بعض التوصيفات وقد تستقل في البعض الأخر منها، تبعا لمستوى التعاطي مع الفعل وارتباط هذا التعاطي بجملة من العوامل أهمها:.
• الواقع السياسي بما يفرضه من تنازع وتناقض لقوى أجتماعية تكوينية منها الدين مثلا ومنها العرف الأجتماعي، ومنها مستوى نضج النظام السياسي وقدرته عن التعبير عن حاجات المجتمع والتصاقه به تعبيرا عن استجابته الحقيقية له، فكلما كانت هذه القوى قادرة على التوافق مع الواقع حيث هو بكيفية إيجابية تستطيع أن تعبر عنه بالتغيير السلمي المؤمن بعراقية المجتمع، ستكون الشخصية أكثر قدرة للتعبير عن نفسها وصياغة الفعل دون انتظار الباعث الخارجي.
• هذا العامل مرتبط أيضا بعامل أخر هو المستوى الفعلي للوعي المجتمعي وكيفية التعبير عنه من خلال جملة قوانين تنظيمية طبيعية أو وضعية أو ما ينتجه المجتمع في حركته المعتادة، فكما أزداد الوعي بالانتماء وتفاعل معه تجد أن الشخصية تستطيع أن تصنع الفعل وتشارك في صنعه دون أن تخشى القمع والإستلاب، ومن هنا مثلا نجد أن للحركات الثورية والفاعليات الإيجابية أجتماعيا هي أقدر من غيرها عن الإفصاح بالوصف عن حقيقة وعيها، والتي تساهم حقيقة في الفعل بغض النظر عن مقدماتها الفكرية أو الايديولوجية لأن هدفها أصلا إيجابي.
• عامل الوعي لا ينقطع ولا ينفصل عن مقدمة تكوينية أخرى هو مستوى ثقافة المجتمع (المعرفة الأجتماعية العامة) ومصدرية هذه الثقافة وتنوعها وخروجها عن رتابة الحركة والأستقرار المستغرق في ما تألف عليه المجتمع، فكل حركة تعليمية أو معرفية حداثية ومجدده ومتطورة تزيد من مساحة الوعي وتستطيع أن تكشف أكثر من طريق ومسلك للرقي بهذه الشخصية، فكلما كانت البنية التحتية الثقافية والفكرية والتعليمية متطورة ومستجيبة للزمن كلما كانت قادرة على صنع وعي متطور قابل لأن ينتج فعل حضاري جاد ومعبر وحقيقي، ومن هنا أيضا حرصت كل الأفكار والرؤى السياسية التي مرت وتناوبت على المجتمع العراقي على تضييق أو توسيع هذه البنى بما يخدم مصالح مشروعها الاستراتيجي.
• هذا العامل أيضا له ارتباط بسلسة من العوامل التي تتعلق بنوعية الثقافة المجتمعية وكيفية تكوينها ومدى إرتباطها بالواقع (غريبه عنه أو محلية النشأة والولادة والتكوين والروح) ومصداقية تعبيرها عنه، فكلما كانت الثقافة كقيمة محركة ودافعة ومنتجة لها أتصال حقيقي بخصوصية مجتمع، كلما كانت أقدر على الثبات في ذاتية الفرد، وهنا مثلا أن الكثير من المفاهيم الثقافية تجذرت في المجتمع لعراقي وإن طرأ عليها بعض التغيير تأريخيا هي المفردات المنتجة محليا، بينما نرى كثيرا من مفردات طارئة أو وافدة حضرت واندثرت وتلاشت من الذاكرة العراقية لكونها غير أصيلة ولا تنتمي لأس الثقافة العراقية.
• هذه لا يعني أننا ندعو لانغلاق المجتمع العراقي على نفسه وعلى أن يتحصن داخل خصوصياته الخاصة، ولكن الكثير من المفاهيم والمفردات اندثرت طبيعيا وماتت لأنها لا تستجيب للذوق العراقي، فمثلا العقال العربي الذي يسمى مجازا عربي هو أحد بقيا الرمز السومري القديم، برغم تبدل شكله العام وما أضيف وما حذف منه لكنه ملتصق بالشخصية العراقية كونه نتج من حاجة وظيفيه له تتمثل في الوقاية من الشمس، برغم أن مفردات أكثر مرت على العراق ولها دور مماثل لكنها لم تصمد مع ذوقية الشخصية العراقية، قد تتلاقح الذوقية بالوافد ولكن يبقى الأس الأصلي هو الغالب.
هذه العوامل فرضتها مجموعة قراءات متنوعة ومتعددة ومتشعبة يتداخل فيها ما هو تأريخي وبيئي ونفسي وسياسي وثقافي ساهمت جميعا في صقل وتكوين شكل الشخصية العراقية، دون أن نفرد مثلا للعالم الوردي وحده دور المكتشف والمخترع للإبداع والذي يتمثل بمقولة صراع البداوة والحضارة، لأن هذا الصراع وجه واحد من أوجه عديدة لها جميعا دور في نشأته ومسبباته منها الجغرافية وعوامل البيئة ومنها ما هو تأريخي وديني ومنها ما هو ثقافي.
صراع البداوة والحضارة ليس بالعامل المنفرد الذي يفرض نفسه على الواقع العراقي من دون مقدمات تكوينية، بل هو محصلة من أسباب وبواعث ومن الأجدر بالدراسة الأجتماعية أن تذهب لأساسيات ودوافع الفعل في الظاهرة وكيفية نموها وتغلغل أثرها، ولأننا بذلك نغوص في أصل الفعل وليس أستجابة لردة الفعل، فمن هنا لا يمكننا جزما أن ننسب الشرخ الحضاري للشخصية العراقية لهذه الظاهرة بل نتعداها لكل أسباب الفعل المنتج لها.
هل الشخصية العراقية فاعلة؟.
لا يمكن اجزم بالجواب نفيا ولا إيجابا على هذا التساؤل لسبب بسيط جدا وهو أننا لا يمكننا أن نجمل الشخصية العراقية المتنوعة لا على أساس تاريخي ولا على أساس جنسي العجز الفعلي المدان، بل يمكننا مثلا أن نعطي عنها صورة تقريبه من خلال التصور الثقافي الحضاري وأرتباطه بالمعطى السياسي من دون أن نجعل ذلك قاعدة عامة، في فترات تأريخية يمكننا أن نصفها أنها فاعلة وفي فترات أخرى منفعلة وسلبية، ولكن الغالب في تأريخها كانت متداخله بين هذا وهذا دون حدود واضحة.
العراقي عندما يؤسس له قاعدة ثقافية حضارية في العراق قد ينجح في صنع فعل ما حسب قربه وابتعاده عن السلطة وأيديولوجيتها ومدى توافق مكنونه الثقافي والعلمي معها، وقد يفشل لنفس السبب فيهاجر مثلا أو يرضخ لها، عندما فرصة أن يتجدد الفعل ويتضخم وينتج في مجتمع يسمح له بالأبداع تكون الرغبة بالفعل متوافرة في أنتاجه المعرفي والفكري والسلوكي، وبذا يكون إيجابيا منقطع النضير، لكن الإستسلام والرضوخ في العرق يفشل مشروعه وتتقوقع شخصيته بانتظار حدوث الفعل ليرد عليه بإنفعال قد يكون سلبي إلا ما ندر، وقد ينجح نتيجة لظروف يحكمها عامل الزمن واستحقاقاته مع التطور الطبيعي وإن كان بطيئا، وليس لعامل الذاتي كما حدث مع الدكتور الوردي الذي أنتج فعل حضاري كان لعامل الزمن الدور الأهم فيه كمثال .
إذن لا يمكننا الحكم جزافا على الشخصية العراقية عموما ولا يمكن أن نفصلها عن واقعها وعن أسباب ومؤديات حركة المجتمع ككل إنها عملية عكس وإنعكاس تتبلور وفق ظروفها الخاصة والعامة كأي شخصية أخرى تتعرض لنفس العوامل والمؤثرات، وبذلك تكون هذه الشخصية ليست ممن تتبع في تكوينها قوانين منفردة ولا تعكس واقع ذاتي خاص يجعلها مميزة في تفاصيلها العامة، بل هي مثال حي للتبدل والتغير حسب القوانين الطبيعية التي تصيغ عادة أي شخصية أخرى.
إن دارسة أي مجتمع دراسة تشخيصية ونقدية وتحليلية لا تكتمل إلا بدراسة مقارنة وواقعية مع مجتمعات متشابهة أو متقاربة وفق منهج علمي يسعى للبحث في لأساسيات ومن ثم أستخراج قوانين كلية من جزئيات خاصة، ومن بعدها يمكننا الحكم على ما نريد، وهذا المنهج هو ما غفل عنه أكثر علماء الأجتماع الذين درسوا واقع المجتمع العراقي وفي مقدمتهم عميد المدرسة الأجتماعية العربية الدكتور علي الوردي مما شكل خلل في النتائج المتحصلة من دراستهم.
النتيجة التي يمكن استخلاصها الآن تتمحور حول قيمتين بحثيتين مهمتين وهما كيف يمكن أن نفهم الشخصية الفاعلة وتنمية روح الفهم فيها أولا؟ والقيمة الأخرى كيف نرسخ هذا العمل ليكون ملاصق ومتصف حقيقي بما فيها؟ في المحور الأول هنا لا بد لنا من أستعرض للمفهوم كي نصل إلى تصور عنه يقودنا لتجميع الصورة ومن ثم رسمها بدقة وتأشير ذلك كقياس علمي ممكن الوثوق به.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن