العدد ودلالاته: في قصيدة - قرن وثلاث دقائق للشاعر: سامي العامري أنموذجاً

سامي العامري
sami.alamiri@yahoo.com

2020 / 7 / 26

د. وليد العرفي
ـــــــــ

العدد في لغة الشعر الحديث
لعلَّ أوَّل ما يلفت النظر في لغة الشعر المعاصر هو استخدام العدد في الشعر، وهو مما يبعد عادة عن الاستخدام في اللغة الأدبيّة نظراً لارتباط العدد بعلوم الحساب، غير أنّ الشاعر قد لجأ إلى العدد في إطار البحث عن الجديد، والبعيد التوقّع عن الذهن، وما الشعر في حقيقته إلا التوغل في البعيد، وتجاوز العُرف، وهذا الاستخدام لم يكن بعيداً عن الشاعر العربي القديم الذي نجد أمثلة له في شوارد أبيات جاءت تعبيراً عن حالات، ومواقف في حياة الشاعر، ومن تلك الأبيات التي تُظهر جماليَّة العدد في:
أوَّلاً ــ بهدف المبالغة:
وهو ما ما نجده في قصيدة امرىء القيس اللامية المنسوبة إليه، إذ يستخدم العدد: (مئة): في قوله:
فقبّلْتُها تسعاً وتسعينَ قُبلةً وقبّلتُها أخرى وكنْتُ على عجلْ؟![1]
فقد بنى البيت في إطار عملية جمع حسابية لا تخلو من الطرافة وحسّ الفكاهة .
ثانياً ــ
يرد العدد تعبيراً عن حالةٍ نفسيّةٍ كما في قول الشاعر: زهير بن أبي سُلمى:
سئمْتُ تكاليفَ الحياةِ ومَنْ يعشْ ثمانينَ حولاً لا أبا لكَ يسأمِ[2]
فدلالة العدد هنا تشير إلى ضيق الشاعر بالحياة التي عاشها ، وقد بلغ الثمانين من عمره، فيما يبدو هذا العمر من بواعث الملل والضجر من الحياة ، لما يرافق المرء في هذه السن من وهنٍ جسدي، وضعف في نشاط الحواس لديه، وهذا ما عبَّر عنه الشاعر: ابن عوف الخزاعي بقوله :
إنَّ الثَّمانينَ و ــ بُلّغْتَها ــ قدْ أحوجَتْ سمعي إلى تُرجمان[3]
ثالثاً ــ الإشارة إلى عدد سنوات يرتبط بحادثة تاريخية تحدّد واقعة حقيقية تختلف باختلاف دلالاتها وإحالاتها المرجعيّة كما في العدد: (ستّ وعشرين) لدى الشاعر: بدر الدين الحامد في إشارته إلى حقبة الاحتلال الفرنسي لسورية في قوله:
ستٌّ وعشرونَ مرَّتْ كلَّما فرغتْ جامٌ منَ اليأسِ فيها أتْرعَتْ جامُ[4]
وفي الدلالة نفسها ما نجده وفي السياق ذاته نجد استخدام العدد: (سبعة) عند الشاعر: نزار قباني إذْ يُحدّدُ العدد مدَّةٍ زمنية معاصرة لها دلالتها التاريخية:
هُزِمَ الرُّومُ بعدَ سبعٍ عجافٍ وتعافى وجدانُنا المطعونُ

يبدو الشاعر نزار القباني من أكثر الشعراء احتفاءً بالعدد، إذ عمد إلى توظيف العدد بكثرة، وقد ورد العدد في عناوين رئيسة، كما وُظّف في متون شعره،ومما جاء عنواناً "خمسون عاماً في مديح النساء " [5] في إشارة إلى المذهب الفكري الذي تبنَّاه الشاعر طوال حياته التي كان فيها مُدافعاً عن المرأة، وصوتها المُجاهر بمكنونات نفسها، واللسان المُتحدّث عنها .وكيف لا يكون كذلك، وهو القائل في إشارة إلى تعلّقه بالحبّ مهما بلغ من العمر:
لا تقنطي أبداً منْ رحمةِ المطرِ فقدْ أحبُّكِ في الخمسينَ منْ عُمري[6]
في قصيدة الشاعر: سامي العامري سنتوقف عند إشارات النص التي شكّلت مفاتيح فهمه
إشارة أولى ــــ
العنوان ورمزية الشيفرة النصية:
يبدو العنوان في إشارة أولى أنه حمَّل العدد إحالة نفسية، ودلالة واقعية، وهو عدد جاء وفق أسلوب العطف الذي جمع بين مدَّة زمنية قرن، وعدده في العُرف التاريخي: مئة عام، وثلاث بما تُحيل عليه في تجردها من دلالة الزمن على رمزية العدد ثلاثة الذي يفيد تأكيد الحالة، والوصول بها إلى وضع قار ومستقر، ومنه قول العرب ثالثة الأثافي، والمثل القدر لا ينهض إلا على ثلاث، وفي عقود المجتمع الإسلامي العرب تُطلق المرأة طلاقاً لا رجعة فيه بالثلاث، ومن المعروف أن العدد ثلاثة قد ارتبط بعدد الليالي التي يختفي فيها القمر. وهي تُشير إلى ما يلزم من أيام لظهوره من جديد، وبدء القمر دورته، وفي القصص القرآني أنّ السيدة مريم العذراء صامت لله ثلاثة أيام، والعدد ثلاثة من رموز الكمال لدى المتصوفة، وأيام عيد المسلمين ثلاثة أيام، وكُفن سيدنا آدم بثلاثة أثواب، وكذلك النبي محمد ﷺ، وعلى هذا فللعدد إذن إحالته المرجعية وفق سياق تاريخي سيكولوجي لم يأتِ من فراغ، ولو انتقلنا إلى الدقائق الثلاث لوجدنا أنها تتكوّن من 180 ثانية ؛ فهي معادلة لـ السنة والثمانية أشهر التي أحال الشاعر عليها في الهامش عندما بيَّن مدة انتظاره في سبيل الحصول على الإقامة، فالعدد (180) إنما هو يساوي 1+ 8 ؛ فالعدد واحد هو السنة، والعدد 80 بإهمال الصفر هو: الثمانية أشهر، وعلى هذا التأويل؛ فإنَّ الزمن الموضوعي المتمثل بــ (القرن) في الحساب العام يُساوي في مدلول الزمن النفسي الخاص لدى الشاعر (الثلاث دقائق)، وبإعادة قراءة العنوان قرن وثلاث دقائق نخلص إلى أنَّ الشاعر رمز بالقرن إلى حالة الضجر والضيق؛ فأشار إلى عمر الزمن المُقدر للإنسان على حدّ أقصى بقرن، وأنَّه عاش من هذا العمر المقدّر له زيادة عليه ثلاث دقائق بما فيها من معاناة وأسى في تعبير عن مدى حجم المرارة التي يُقاسي منها، آية ذلك أنّ الشاعر عاش حالتي انتظار:
الأولى: انتظار حقيقي مرتبط بالوضع الذي كان يعيشه بانتظار الإقامة، وهو ما أصبح شبه روتين عادي تعوّد الشاعر نمطياته، وأصبح جزءاً من معيشة يسايرها سواء أكان راضياً، أم مُرغماً عليها.
الثانية: حالة النفس المنتظرة التائقة إلى التغيير، وهنا أشير إلى أنَّ الإنسان بطبيعته عندما يجد أنّ زمن تحقيق ما يتمنّى حصوله قد اقترب كثيراً؛ فإنه يصبح أكثر حساسية تجاه مسألة الوقت، وتتحوّل عنده قيمة الوقت إلى حساب آخر لا علاقة له بالزمن الحقيقي، إنه الزمن النفسي الذي يعرفه الطالب عندما ينجح ؛ فتجده مُحلّقاً بجناحي سرعة ولهفة؛ ليصل الأهل مُبشّراً بنتيجة نجاحه، وهي الحالة التي يجد الشاعر نفسه في أتون لهفتها وتعطشها لنيل مراد، وإنجاز هدف، وبناء على ذلك يبدو العنوان جزءاً عضوياُ من القصيدة، ومفتاحاً من مفاتيح الإيغال في بوابة النص التي جاءت فيها الإحالة الهامشية أيضاً ضرورة ترتبط ارتباطاً عضوياً بهيكل القصيدة في إطارها الشكلي العام الذي كان عباءة ترتديها القصيدة فتكشف عن مواطن جمال غير خافية، وبذلك تتبدّى في قصيدة العامري أهم مقومات الشعرية الحديثة من حيث ارتهانها للوحدة العضوية التي لا يمكن الفصل بين أجزائها البانية لمعمارية هندستها المتقنة بصنعة وحرفية
قرن وثلاث دقائق
سنةً وثمانية أشهرْ
هي العدمُ الكوكبيْ
هي الوجعُ المتدلّي الذي لم يلامسهُ
إلاّ نبيْ
وفي البال من حسدوني
على رحلةٍ في أثيرٍ
وكان حرياً بها أن تكون
على ظهر حادلةٍ أو بعيرٍ،

تبدو بذلك القصيدة وحدة كلية تتشكل من عنوانين: رئيس هو علامة النص الكلي، وفرعية هي علامة النص بوصفه حالة تعبيرية مرتبطة بالزمن، وكأن الشاعر أراد أن يدخل الزمن العام في زمنه الخاص في لحظة واحدة، إذ يُمكن أن يُقرأ العنوان على أنه بمثابة لازمة يمكن أن تتكرر بين مقاطع القصيدة وبذلك يُسوّغ عدم التزامها بالوزن الذي اعتمده الشاعر في بقية القصيدة ؛ فيُشكّل وحدة كلية غير منفصلة: (قرن وثلاث ثوان سنة وثمانية أشهر) لا الاقتصار على سنة وثمانية أشهر التي جاءت لازمة أعادها الشاعر في مقاطع النص وشكّلت نغمة موسيقية أخرى خفّفت بإيقاعها الراقص من حدّة الوجع غير الخفي، إذْ يتوجّب قراءتها سنةٌ وثمانيةٌ أشهر فعلن فعلن فعلن فعلن
إشارة ثانية تتدرج القصيدة في معمارها وفق مستويات:
مستوى الحوار:
الذي يقيمه الشاعر على تقنية فعل السرد قال في توجيه خطابه إلى الشامتين الحاسدين:
أقول تشفّوا
فعادوا شباباً يغنّي وخداً يثرثرْ
وعن غصة الشوق آثامُ رابعةُ العدوية تخبِرْ
أغنوجةُ الشِّعر والغد تغوي وتسحرْ
مستوى السرد للماضي: وفيه يستعيد على شريط الذاكرة ما كان يفعل، وما كان يتصور نيله جراء ذلك التعب والكدّ:
سنةً وثمانية أشهرْ
كنت أنبش عمرَ الترابِ
على أملٍ أنْ سأهديه قبري وأبقى أُصرُّ وأحفرْ
كان للكون معنى التقيُّؤ
والثلجُ عند حلول الشتاءِ
يمورُ بدربي
يفورُ بقلبي ويُصهِرْ
مستوى الفردية:
وهي سمة من سمات الإنسان الذي يرفض الذل، وقد فرضت عليه الحياة جبريتها إلا أنه يأبى الاستسلام لواقع يرفض أن يكون له مُسالماً ؛ إذ تبرز الذات بلغة نزقة، ونفس ضائقة إلا من كبرياء وأنفة ؛ فالكل أما هذه النفس مدان ومجال للمقارنة والمحاكمة والخطيئة، ولذلك نلحظ أن الحقل الدلالي الذي يٌشكل المعجم اللغوي في هذا السياق قد جاء بضمائر الذات تاء الفاعل وياء المتكلم، وهي فردية في مقابل جماعة (الشياطين، القطيع، الخلائق ) وهي بلا خفاء تكشف عن حالة الصراع بين الــ أنا ذات الشاعر، والآخر: (الجمع)على اختلاف صوره، وتنوّع أشكاله،
سنة وثمانية أشهرْ
صنعت لكأسي في بَرِّ رأسي صومعة
يتعبد فيها الشياطينُ خلفي
برغم اضطرابي وضعفي
وكافأتُ إبليسَ إذ زارني بثياب رسولٍ
وعلَّمني أن أمدّ القطيع وأنحَرْ
فويلٌ لمن يمنع العامري عن الويل، ويلٌ
فكل الخلائق عاريةٌ في حسابي
وما من إلهٍ يصلّي له الناسُ
إلا وضَعتُ مفاتنه تحت مجهرْ

ولنلاحظ أن الألفاظ قد جاءت دالة على جمع فيما تبدو أنها مضاد موضوعي لفردية الشاعر وذاتيته التي تنغلق على ذاتها في مواجهة كثرة الخارجي، إنها محاولة تخلص لا خلاص ؛ لأن الشاعر يدرك أنه يقوم بمحاربة طواحين الهواء، وهو ليس دونكيشوتاً جديداً، وفي سياق هذا الوعي تتجذَّر مشكلة الإنسان المهاجر الذي بنى على وهم الرحيل سعادته، ولكنه سرعان ما يجد أنَّ ما بناه مجرد سراب خادع، وأنَّه أسير ورطة قد وقع فيها:
تورطتُ كالظبي حين تسللتُ خلف الحدودِ
لألقى هنا بدلَ السلم والحلم ربَّ الجنودِ
تُرى هل لعبتُ قماراً لأخسرْ ؟
إشارة زمانيَّة
على الرغم من ربط الشاعر لرمزية الثلاث دقائق هنا بمدة تدخين سيجارة غير أني ارتباطها في كلية الرؤيا من حيث بينت في التمهيد أكثر عمقاً من حيث الدلالة النفسية المستمرة لا العابرة التي يمكن أن تنتهي بانتهاء نفث الشاعر دخان سيجارته:
سنةٌ وثمانية أشهرْ
كقرنٍ أضيفت إليه ثلاث دقائقْ
فأمّا الدقائق فهي استراحة تبغٍ
تظاهرَ في الجوِّ والجوُّ شائقْ
أدخِّنُ ثم تسير القرونُ
مضمَّخةً بشهيِّ الحرائقْ
وها صرتُ وحدي نصيرَ الكلام المبعثَرْ
إشارة إجناسية
ترتبط بمقارنة وضع الرجل الغريب بقضية دونية المرأة في البلاد العربية التي هاجر منها الشاعر
سنةٌ وثمانية أشهُرْ
محزنٌ أن تعيشَ على الأرض فأراً
ومن قبلُ قد عشتَ ليثا
عانيتُ كامرأةٍ من بلادي هواناً وظلماً وعسفاً
وما ليس بالحرف يُرثى
فأتعسُ ما يفعل المرء في موطني
أن يُغافلَ أقدارَهُ لحظتين
ليولدَ أنثى
وما خفيَ اليومَ يُدمي الخيالَ ويقهرْ
إشارة الواقعية
وهي تصوير فوتوغرافي قائم على إظهار المفارقة بين جمال واقع موضوعي يُحيط بالشاعر، وحالة بؤس يعيشها ؛ فهو يرى السعادة ولا يعيش مباهجها:
سنة وثمانية أشهرْ
ويوماً تساميتُ،
كان دمي يتمادى مشاعرَ عارمةٌ
وإذا بالزمانِ مباهجُ ناعمة
والمكانِ مطيعٌ كخادم قصرٍ مُسمَّرْ
حيث تجلبُ عاصفتي الغدَ حلماً كثيفاً
كما الأبنوس،
وما احتاجتِ الذكرياتُ لغير صلاة إلى لا إلهٍ
وقَدحةِ نبضٍ لتسعرْ
سنةٌ وثمانية أشهرْ
قرية مثلَ ليلة أنسٍ تهادت بأنغامِ موزارتَ
لكنْ لغيرك يا مَن ستحيا لتسهر !
إشارة المونولوج الداخلي
وتتجلّى فيه حالة الصراع الداخلي التي يعيش الشاعر مراحلها بين الفردية المتطلعة لمستقبل أفضل، وهي تمتلك في داخلها قدرات تكيد الذات، وتعرفها، وواقع يقيّد تحقيق ذلك الهدف بما يضعه من عراقيل، وما يفرضه من عقبات، غير أنه لا يبالي بها لامتلاكه القناعة بما لديه من القوَّة الكفيلة ببلوغ مقصده، والوصول إلى مراده:
لا أبالي فعندي الذي هو أبقى وأسمى
وأبلغُ نجما
فإن رفرفوا بالندى فهنيئاً
فروحيَ أصل الندى ونداي أغنُّ
ويرسمني في الحدائق رسما
نهاري نهارٌ وليلي يفوح نهارا
يدُ العجز كانت تصافح سجني انبهارا
وترفعني لشهابٍ لكي أتقن الموت ملحمةً
فأصاحبه من عَلٍ ثم نسجد في أي ركنٍ من الأرضِ
ما أجملَ الراحلين انتحارا
وأي المسالك أقصرْ ؟
كوابيسُ أعرضها في المزادِ
لمن يشتريها
ويرشفها في سريري من غير سُكّرْ !
وعلى هذه التمفصلات توحّدت قصيدة الشاعر: سامي العامري التي جاءت موقفاً حياتياً، وحالة مصورة قضية من أكثر قضايا الإنسان المعاصرة تكراراً ومرارةً بما جرّت على بعض مغامريها من مآسٍ وآلام ستظلّ جراحها نازفة في ضمير الإنسانية التي يبدو أنها قد فقدت كثيراً من ثالوثها الجمالي القائم على الحق والخير والجمال .

د. وليد العرفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ــ القيس، امرؤ (الديوان)، (1884 ) م: برواية الأصمعي عن نسخة الأعلم،، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط 4 .ص 469.
[2]ــ ابن أبي سُلمى ، زهير، (1988) م (الديوان)، تح: علي حسين فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، ص 110. قافية الميم .
[3] ــ البيت من البحر السريع، للشاعر العباسي: عوف بن محلم الخزاعي، موقع الشابكة .
[4] ــ حامد، بدر الدين (1897 م ــ 1961 م) قصيدة الجلاء ، نقلاً عن موقع شعراء الفصحى في العصر الحديث بوابة الشعراء .
[5] ــ قباني، نزار، (1994) م
[6] ــ العرفي، وليد: مجلة جامعة البعث، مج 40 /ع الدراسات الأدبية 107، 2018 م .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن