الطيف الجموح

محمد الداهي
dahi53_mar@yahoo.fr

2020 / 7 / 17

كرس أحمد لميهي مسيرته العلمية- في مجال البحث التربوي- للدفاع عن أهداف البيداغوجيا المؤسساتية بحثا عن أنجع السبل لاستجلاب المردودية المنشودة، وتعويد المتعلم الطرائقَ الفعالة والنشيطة التي تطور قدراته على التدبير الجماعي، و الاستقلالية، وكسب الثقة بالنفس. لم يكن - في غمرة البحث العلمي الصارم- يخطر بباله أنه يدخر موهبة أدبية قد تسعفه يوما ما على تمثيل الواقع، ومساءلة ذاته، واستثمار تجربته في الحياة بمنظور وفلسفة جديدين. وهذا ما تأتى له بعدما اتخذ المسافة من تخصصه (استراحة المحارب)، ليتفرغ للكتابة الإبداعية والانغمار في السرد مجربا ألاعيبه وتقنياته وأشكاله المختلفة لعلها تتيح له مكاشفة ذاته والآخرين، واستنطاق ما تختزنه طويته من استيهامات مغفية وأحلام هاربة.
وفي هذا الإطار أصدر لحد الآن الأعمال الآتية باللغة الفرنسية: رواية "الطفل المعنف"، ومجموعة قصصية "الفيلسوف"، ومحكيات "كوميرا والحاكم (السنوات الأخيرة، سلسلة رقم1)، وسيرة ذاتية "الأب والابن"(1 ). وكان من قبل يشرف على سلسلة تعنى بنشر السير الذاتية الفكرية لرواد "البيداغوجيا المؤسساتية" في تعاون مع الناشر إيفان دافي. وهو ما أكسبه تجربة في تمثل بنود الميثاق السيرذاتي (المطابقة الاسمية، استرجاع الحياة الشخصية، تماثل هويات المؤلف والسارد والشخصية الرئيسة)، وتعرُّف مقومات الكتابة عن الذات. وما يدعم هذا الرأي، توفر سيرته الذاتية على كثير من النصوص الواصفة التي تجلي مدى وعيه بالمشروع السيرذاتي، واطلاعه على المتون السيرذاتية باللغتين العربية والفرنسية.
1- صورة الغلاف:
إذا حذفنا اللغة (العنوان) من غرة الغلاف، ستوحي الصورة للقارئ بسيل من المعاني بالنظر إلى خلفياته المعرفية وقدراته التأويلية. لكن اللغة أدت- بحسب رولان بارث- وظيفة تثبيت المعنى في موضوع محدد؛ وهو علاقة الأب بابنه. يبدو الأب -من خلال ملامحه- أنه شاب في مقتبل العمر، يساعد ابنه على قيادة الدراجة. يقود الابن دراجة معززة بعجلة صغيرة مثبتة يمينا ويسارا حتى لا يفقد توازنه، و لا يصاب بمكروه ما. وهذا ما يبين أنه مازال في أمس الحاجة إلى من يعينه حتى يكتسب التجربة في القيادة، وتتعزز ثقته بنفسه.
وما يسترعي الانتباه في الصورة، هو أولا وضع الأب يده على ظهر ابنه لمؤازرته في تحسين قدراته على قيادة الدراجة، والحفاظ على توازنه، ثم ثانيا اتسام الصورة بالتعتيم ( التصوير من الخلف) لإخفاء هويتي الشخصين، وإحلال التشبُّه محل المشابهة، واستبعاد أية مطابقة محتملة بينهما وبين المحال إليهما في الواقع.
ومن ثمة نتوهم- منذ البداية- أن المشروع السيرذاتي الذي انخرط فيه أحمد لميهي طوعا، لا يراهن على مرآوية الحياة بل يسعى إلى الحفر في اللاوعي والذاكرة لاقتناص اللحظات الحاسمة والمثيرة، ومحاولة استرجاع وهجها الأصلي قبل أن ينطفئ ويتلاشى أثره بمرور الأيام.
2- نبوءة الكابوس:
حلم السارد في 8 أكتوبر قبيل يوم من عيد ميلاده السادس عشر بأن أباه يطلب من الحضور أن ينحروه في عيد الأضحى بحجة انتفاء الأضحية. وهو ما نفذه أخوه البكر عزيز " ما ذا رأيت؟ عاينت أخي ينحرأبي، ثم يعلقه ككبش في مطبخنا الضيق"( 2). صرخ بأعلى صوته إلى أن أيقظ جدته -التي كانت تتقاسم معه غرفة النوم- من سباتها العميق. وفي اليوم الموالي نُظم له احتفال بعيد ميلاه لأول مرة في حياته باقتراح من زوجة أخيه خديجة التي كانت تتمتع بحس حداثي.
وبينما كان في باحة الاستراحة بالمدرسة يوم 10 أكتوبر، نادت عليه أخته زبيدة وهي تبكي؛ مما جعله يتنبأ بحدوث مكروه في البيت، ويسرع الخطوات للوصول إليه في أقرب وقت ممكن. تحققت نبوءة الكابوس بإبلاغه نعي والده. لقي حتفه على إثر حادثة سير على قنطرة كرسيف. لم يسمع أبدا بهذه البلدة من قبل، ولا يعرف موقعها على خارطة المغرب. ما يعلمه اللحظة، أن أمه وجدته وأخاه "عزيز" وزوجته خديجة قد شدوا الرحال إلى كرسيف بالحافلة بعد أن استراحوا ليلة عند العم مصطفى في الدار البيضاء.
3- رمزية الخزانة:
استقرت أسرة لميهي بمدينة آسفي منذ عام 1973 في عمارة تتقاسمها أسر مختلفة. توطدت علاقة أحمد بنده سامي الذي يقطن في الطابق الأول، في حين كانت أسرة أحمد تسكن في الطابق الأرضي. سامي من أصول يهودية، يتقن اللغة الفرنسية لأنه يتابع دراسته بالبعثة الفرنسية، في حين أن أحمد من أصول إسلامية، يتقن اللغة العربية، ويتلكأ في التواصل باللغة الفرنسية. وما يجمعهما أقوى مما يفرقهما. فهما ينتميان معا إلى وطن واحد لا يفرق بين الناس بحسب لونهم وعرقهم ودينهم.
ومما تعلمه أحمد من صديقه سامي هو صنع خزانة الكتب. وبينما هما منهمكان في عملهما، فوجئا بجارهما الأستاذ موسى الحاجي يدخل إلى شقته خزانة بيضاء. وارتأى سامي في إثره أن يصبغ الخزانة الصغيرة بلون مذهب حتى تكون في حلة قشيبة ومختلفة.
وعندما حمل أحمد الخزانة إلى بيته، بدأ يفكر في طريقة لاقتناء الكتب، ورصها على الرفوف. ومما بدر إلى ذهنه، تعليم أنداده بأجر رمزي، حتى يتسنى له شراء الكتب المفضلة لديه. وبالمقابل، كان يقتني من الأستاذ موسى بعض الكتب لقراءتها والاستفادة منها. ولهذا الغرض، اشترى دفترا خاصا ب" القراءات" لتلخيص ما يقرأه، وتدوين المعلومات المناسبة سعيا إلى تحسين قدراته في التعلم الذاتي.
ومن بين العوامل التي أثرت في حياته، تتلمذه عند أستاذة اللغة الفرنسية ميري التي تتميز- علاوة على أثيريَّتها الشفافة- بمؤهلات بيداغوجية متطورة، حفزت أحمد على حب اللغة والإقبال عليها بنهم لتحسين مستواه للتواصل بها بطلاقة وسلاسة. وهو ما أتاح له تعرُّف ثقافة الآخر ومنجزاتها، والاستفادة من خبراتها وفلسفتها في الحياة. وقاده شغفه باللغة الفرنسية إلى التوله بميري والوقوع في شرك حبها رغم تباعد سنيهما. حفزته على متابعة دراساته الجامعية بباريس، وصاحبها على متن سيارتها من زنقة لشبونة الوضيعة إلى ساحة سان جرمان دو بري البهية والراقية.
استثمر السارد الإرصاد المرآتي المموه لتضعيف بنيات السرد على أساس المشابهة الاستعارية. و"هو بمنزلة مرآة داخلية تعكس مجموع السرد بالتضعيف البسيط أو المتواتر أو المموه"(3 ). وهكذا تمثل الخزانة "مرآة بنيوية" تعكس بشكل مصغر العمارة، التي تعكس بدورها المجتمع بشكل مصغر. وهكذا تتداخل المرايا الثلاث على هيئة الدمى الروسية. تتراص الكتب وتتجاور على الرفوف دون أن يضجر بعضها من بعض بالنظر إلى محتوياتها المتناقضة، وخلفياتها الدينية والإيديولوجية المتباينة. وهكذا يتجاور طه حسين الليبرالي والمسلم مع جبران خليل جبران الرومانسي والمسيحي ومع مصطفى صادق الرافعي السلفي. كما يتجاورون معا مع كتاب غربيين سواء أمسيحيين كانوا أم علمانيين أم فوضويين أم مثاليين.
وفي المنحى نفسه، تتساكن العائلات المختلفة في العمارة نفسها، وتتآزر بحسب ما تمليه آصرة الجوار. ويلعب الأطفال في وئام وانسجام بغض النظر عن أصولهم ومعتقداتهم. وهو ما يبين أنهم تربوا على التسامح منذ نعومة أظفارهم، وعلى تفادي نبذ الآخر أو كرهه.
وعلى المستوى الاجتماعي، يمثل الشعب المغربي خليطا من الأقوام والأجناس (الأمازيغي، والعربي، واليهودي، والحرطاني، والأندلسي) التي جاءت من كل فج عميق، فاندمجت وانصهرت في بعضها البعض مما جنبها الصراعات الطائفية والحزازات العرقية. " العنصر البشري في المغرب متجانس. وهو ما دلت عليه كل البحوث الأنثربولوجية التي كانت تروج له الإدارة الفرنسية. لا يوجد فرق واضح بين السكان يشير إلى اختلاف في الأصول الإثنية. الفرق الوحيد الذي ظل قائما إلى يومنا هذا هو المتعلق باللسان. هناك مغاربة ناطقون بلهجات عربية، وآخرون ناطقون بلهجات أمازيغية"(4 ).
4-مصادفات باريس:
قد تسحق باريس ضعاف الشخصية لقتامتها ومتطلباتها الباهظة. وقد تحدب على من يداريها ويهادنها حتى لا يقع بين مخالبها. وأحمد لميهي من الصنف الثاني. وهو ليس من طينة من يخاطر بحياته بل من معدن من يقتنص الفرص في إبانها، ويضرب على الوتر الحساس حتى لا ينقلب عليه ظهر المجن. وفي هذا الإطار جاءته فرصة على طبق من ذهب ليصاحب ميري من آسفي إلى باريس، ويستقر في بيت والديها إلى أن ضاق والده منه. وظلت وفية ومؤازرة له في السراء والضراء كما لو كان قطها الثالث برفقة قطتيها الأثيرتين لنفسها ( لولا وشلوي). تقاسمت معه شققا صغيرة ( أستديوهات) للتغلب على مصاريف الحياة ومشاغلها إلى أن انقادت له باريس بقدها وقديدها.
عانى –كغيره- من تعاسة باريس وقنوطها، وبرودة العلاقات التواصلية بين ساكنتها. وجد ضالته في الانضمام إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ( فيدارالية أوروبا) للنضال تطلعا إلى مجتمع عادل ومنصف وديمقراطي، وبيع صحف اليسار، ونشر باكورة قصائده وترجماته للبلاغات والمقالات السياسية في مجلة "الطالب المناضل". وهكذا انغمر في القترة الممتدة من عام 1981 إلى عام 1985 في النضال السياسي والنقابي بحماس منقطع النظير إلى حد أثار شك والد صديقته ماريفون واستغرابه." كان يكرر دوما على مسامع زوجته وابنته: لا يصدق أن يناضل بهذا المستوى الفائق. أريد أن أعرف ماذا يفعل في حي باربيص أيام الأحد. لا شك أن هناك أمورا خفية" ص51. ومما كان يتوجس منه، أن أحمد يعمل لمصلحة المخابرات المغربية أو غيرها.
اضطر إلى العمل في قطار الأنفاق الرابط بين محطتيْ ليون ودنفير روشرو وفي القطار الفائق السرعة الذي يربط بين باريس ومدن بعيدة، بعد أن انقطعت عنه المنحة في عام 1985، وانعدمت موارده المالية. وكان-وقتئذ- قد حصل على الإجازة ثم الأستاذية من جامعة باريس8، شعبة علم النفس البيداغوجي العيادي، وولج سلك الدكتوراه لإنجاز أطروحته تحت إشراف ريمي هيس. ولذا كان في أمس الحاجة إلى أجر يسعفه على أداء مصاريف الكراء ومتطلبات العيش، وعلى اقتناء المعدات اللازمة والكتب للتقدم في إعداد أطروحته. وهكذا خرج من عيش شَظِف إلى عيش مريح نسبيا، لما أتاحه له من التردد على المطاعم الفاخرة، واقتناء الملابس الأنيقة والعطور الفواحة.
ومن الصدف التي جادت بها باريس عليه، تعرفه إلى زينب على متن القطار الرابط بين باريس ومونبوليي. توطدت العلاقة بينهما، ثم تزوجها في 11 فبراير 1989 حسب التقليد الفرنسي. هي من أصول جزائرية، استقرت أسرتها بباريس، وأضحت في عداد الفرنسيين (الجيل الثاني) .يتلجلج لسانها باللغة العربية لتعودها التواصل باللغة الفرنسية في بيتها وخارجه. عندما علمت أن أحمد يتباطأ في إنجاز أطروحته بسبب وضعه غير المستقر، بادرت إلى توفير كل ما يلزم له حتى يكون مرتاحا، ويستعيد حيويته ونشاطه.
ناقش أطروحته بجامعة باريس8 شهر نونبر 1991، ثم نشرها في كتاب عام 1994 بعد أن استقر به المقام أستاذا جامعيا بالمدرسة العليا للأساتذة بمارتيل. وأضحى- بفضل اجتهاده ومثابرته وكياسته- عضوا في مجموعة " البيداغوجيا المؤسساتية" التي اعتاد روادها الاجتماع كل ثلاثاء ( ريمي هيس، رونيه لورو، رايمون فونفييل، أنطوان صافوفي، باتريس فيل، ميشيل لوبرو) لتبادل الآراء والمواقف حول القضايا التربوية المستحدثة والملحة.
4- عود على بدء
يستهل السارد سيرته الذاتية بفاجعة موت الأب التي صادفت أول احتفال بعيد ميلاده وهو في ميعة المراهقة، وينهي سيرته بمعالجة الموضوع نفسه بعد أن اشتد عوده، ونال أول لقب للدكتوراه الذي لم تحظ به أسرته من قبل. ظل فقدان الأب يلاحقه باستمرار، ويستحوذ على باله ونفسيته، وينفجر بين الفينة والأخرى كقنبلة موقوتة. " انفجرت هذه القنبلة بعد حلولي باريس. أنهمر في البكاء إلى أن أغدو أضحوكة ليس أمام ميري، وصديقي الإيطاليين ريكاردو وماصيمو، وحمدي فحسب، بل أمام كاترين الفنانة التشكيلية، ودانييل شهاب الأميرة اللبنانية، وماريفون البرتانية، وزينب زوجتي أيضا"(5 ).
ومما أرقه أكثر بعد مرور أربعة عقود تقريبا هو عدم الاهتداء إلى قبر أبيه. طلبت منه والدته بعد سنة عن رحيله التوجه معا إلى كرسيف لتعرُّف قبره والترحم عليه، لكنه أثبط عزيمتها بدعوى بعد المسافة بين كرسيف و آسفي. وظل طيف أبيه يلازمه ويستحثه على تعرف القبر الذي سكنت فيه روحه إلى الأبد.
تعرف أحمد في مقهى زرهون بتطوان إلى عزالدين الذي ينحدر من مدينة تازة، واقترح عليه أن يساعده على الاهتداء إلى قبر أبيه. ومن المصادفات الغريبة أن عزالدين فقد صديقا له في فترة متزامنة مع وفاة والد أحمد (لقي حتفه في 22 رمضان 1345، الموافق ل9 أكتوبر 1974)، وهو ما سهل عليه العثور على قبره وقبر مرافقه السائق بمقبرة تازة وإن اندثرت معالمهما وانطمس أثرهما مع توالي السنين. بعد أن تسلم أحمد الشاهدة من الرخام شد الرحال إلى تازة على متن سيارته بصحبة زوجته وأخته زبيدة وابنه سعد. وكان في انتظارهم-علاوة على أخ أحمد محمد الذي كان وقتئذ يقطن بفاس- بالمقبرة حفار القبور والد عزالدين، الذي أكد لهم أنه تكفل بدفن الفقيدين بعد تعرضهما لحادثة سير على قنطرة كرسيف، لكنه لا يستطيع أن يتذكر أي قبر منهما يحضن جثمان والد أحمد بحكم انصرام ما يربو على أربعة عقود من الزمن. وقرر أحمد -باستشارة زوجته- أن يضع الشاهدة على قبر بتاريخ 29 مارس2010 وفق ما أملته الفراسة في انتظار أن يُتحقق من صدقها أو من عدم صدقها بالكشف عن الحمض النووي. وتنتهي السيرة الذاتية بتلقي أحمد خبر نعي والدته، وهو ما اضطره إلى السفر ليلا من تطوان إلى آسفي برفقة زوجته وابنه لحضور مراسيم الدفن.
وإجمالا، نستخلص من السيرة الذاتية السمات الآتية:
ا-غلب السارد المنحى الفكري على الجانب الوقائعي عن قصد لسعيه- من جهة- إلى إبراز كيف ارتقى في السلم الاجتماعي بفضل جلده ومثابرته وقدرته على اقتناص الفرص المواتية، ولمراهنته- من جهة ثانية- على فهم ذاته، وإبرازمختلف المؤثرات الاجتماعية التي أسعفته على إثبات وجوده، وتشييد هويته السردية.
ب-حرص السارد على الامتثال لضوابط الميثاق السيرذاتي سعيا إلى القبض على ضعفه أو قرينه ومماثلته. وهكذا كان هم أحمد لميهي هو أن يحقق التطابق المفترض بين الكتابة والوجود، وبين أناه الحقيقي وأناه الضمني؛ مما جعله يغلب كفة المرجعي على حساب التخييلي، ويحد من مناورات اللغة في استقصاء مناطق الحساسية، واستيضاح ما تضمره وتخفيه الطوية. ومن ثم ظل وفيا لمشروع قول الحقيقة تحت إمرة العقل وسلطانه؛ وهو ما عطل الآلة اللاشعورية عن البوح والتسارِّ والمكاشفة.
ج- يشغل العنوان "دليلا مزدوجا" يحيل إلى عنوان رواية إفان تورجنيف ( آباء وأبناء 1863)، التي تشخص الصراع بين جيلين مختلفين: الجيل القديم المتشبث بالتقاليد والقيم المتوارثة والجيل الصاعد الذي يرفض الإصلاح، ويتمرد على القيم السائدة بالاحتكام إلى العدمية الروسية ( حركة أدبية وسياسية جذرية). في حين تتجسد العلاقة بين الأب والابن في السيرة الذاتية على أساس الاستمرارية والامتثالية والتعايش. يذهب أحمد إلى الطرف النقيض، ويتبنى في إثره أفكارا جديدة. ومع ذلك يظل محافظا على إرث الأب، ساعيا إلى الإمساك بتلابيب طيفه الهارب، حريصا على دوام أثره في لاشعوريه. وأعتقد أن عدم اهتدائه إلى قبر والده، واضطراره إلى اختيار قبر من القبرين، وتعليمه ووسمه بالشاهدة الرخامية يعتبران مؤشرين على تحرره نسبيا من وصاية الأب وحجره وإن بقي وفيا لإرثه في تربة تعاند الفصل أو القطع مع الماضي لبواعث تربوية وثقافية متوارثة أبا عن جد.
***
الهوامش:
1 -Ahmed Lamihi, Père et Fils, Rive éditions,2018.
2 -ibid.,p11.
3 - Lucien Dällenbach, le récit spéculaire Essai sur la mise en abîme, éd. Seuil, 1977 ,p52.
4- عبد الله العروي، استبانة، المركز الثقافي للكتاب، ط2، 2016، ص59.
5-Ahmed Lamihi, Père et Fils,op.cit.,p109.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن