لبنان بين المطرقة والسندان

محمد حسن خليل
mhkhalil1952@gmail.com

2020 / 7 / 11

مقدمة
يمر لبنان بثورة تعانى ظرفا داخليا وإقليميا ودوليا عصيبا يضع كل أطرافها على اختلاف توجهاتهم فى حيرة شديدة لأن المشكلة فعلا مستعصية بسبب اشتمالها على كل تلك الأبعاد. لقد تطورت الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة بداية ضد الغلاء وتزايد الفقر، وتطورت المطالب لتشمل ما تسميه الجماهير الثائرة "الإطاحة بالطبقة السياسية كلها"، ولكن للمشكلة أبعادا تجعل معظم برامج الأحزاب المطروحة تعانى فى تقديم رؤية وحل عملى وواقعى وسط كل تلك الظروف الصعبة.
وتنتمى الثورة فى لبنان إلى الموجة الثانية من الثورات والانتفاضات للربيع العربى عامى 2018 و2019، والتى انطلقت فى الجزائر والسودان ولبنان والعراق والأردن. والسبب الرئيسى للثورة فى لبنان لا يختلف عن السبب الرئيسى فى معظم البلدان العربية الأخرى. لقد انطلقت الموجة الاحتجاجية فى لبنان فى السابع عشر من أكتوبر الماضى احتجاجا على السياسة التقشفية والإجراءات التى طرحتها حكومة سعد الحريرى والتى رفعت أسعار البنزين والدقيق والتبغ وفرضت ضرائب على الاتصالات التليفونية باستخدام الإنترنت مثل الفيس بوك وواتس آب، وزيادة ضريبة المبيعات من 11% إلى 15% على مرحلتين عامى 2020 و2021، مع الاعتزام على طرح نسبة من شركة الاتصالات المملوكة للدولة للخصخصة.
لم تكن تلك الخطة هى خطة رئيس الوزراء الحريرى وحده، بل أيدتها معظم التيارات السياسية فى لبنان، بل وأيدها معظم الدول الغربية التى التقى بها الحريرى (أمريكا، فرنسا، ألمانيا، أنجلترا، إيطاليا، روسيا)، فهذا هو الحل التقليدى للأزمة وفقا للسياسات النيوليبرالية، والتى تطرحها مؤسسات التمويل الدولية مثل البنك والصندوق الدوليين ليل نهار.
خرجت المظاهرات احتجاجا على التقشف والركود والبطالة والفساد والطائفية، والمترابطة جميعا مع بعضها، وتطورت إلى ثورة واسعة تشمل لبنان بأكمله شمالا وجنوبا وسهلا وجبلا، فى استمرارية عظيمة تدخل الآن فى شهرها العاشر. إلا أن تعقيد المشهد وتشابك عناصره ربما تستلزم لمحة تاريخية موجزة عن النظام اللبنانى وتطوره.
لمحة تاريخية
الإطار التاريخى الحاكم لتطورات الوضع فى لبنان منذ الاستقلال وحتى اليوم لا يختلف عن مختلف الدول العربية التى كانت شعوبها تطمح للتحرر من الاستعمار القديم والجديد، وتنمية بلادها للتخلص من التخلف الذى فرضه الاستعمار عليها، وبناء دول ديمقراطية حديثة متخلصة من الأمراض التاريخية المتمثلة فى الجهل والفقر والمرض. بالطبع اشتملت قضية مواجهة الاستعمار على الموقف من إسرائيل بالذات فى دول الطوق المحيطة بفلسطين، مصر وسوريا والأردن ولبنان. وبين هاتين القوتين، الاستعمار بقديمه وجديده من ناحية، ومصلحة جماهير شعوبنا من ناحية أخرى، برز تاريخيا تيار ثالث هو تيار الأنظمة القومية الناصرية والبعثية وغيرها التى أمسكت بالعصا من المنتصف، فاستخدمت النضال الجماهيرى ضد الاستعمار لوصولها إلى السلطة السياسية، والتحرر من الاستعمار التقليدى ومحاولة إقامة دولة حديثة بدرجة من التصنيع والتحديث. ولكن تلك الأنظمة غيبت الديمقراطية وقمعت الحركات والتنظيمات الجماهيرية، الأمر الذى شكل كعب أخيل فى عدائها للاستعمار الذى لا تستقيم معاداته إلا بالقوى الجماهيرية الواعية والمنظمة. تسبب هذا فى سلسلة من الهزائم الشديدة التى لحقت بتلك الأنظمة. وتميزت المرحلة الأخيرة منذ عام 2011 بانطلاق الحركة الجماهيرية العربية المستقلة والأكثر جذرية من عقالها دفاعا عن مصالحها فى ثورات وانتفاضات عديدة أثرت وستؤثر من مستقبل النضال الجماهيرى فى كل الأقطار العربية.
منذ استقلال لبنان نشأ دستور غير مكتوب، هو الميثاق الوطنى الذى تم الاتفاق عليه شفويا بين كل من بشارة الخورى رئيس الجمهورية (المسيحى المارونى) ورياض الصلح (المسلم السنى)، وقام النظام السياسى على المحاصصة الطائفية بتخصيص هذين المنصبين بشكل دائم لهاتين الكتلتين، مع تقسيمة طائفية تفصيلية لباقى المناصب بحيث يكون نسبة توزيع المسيحيين إلى المسلمين فى المناصب القيادية التشريعية والتنفيذية خمسة إلى أربعة. كما قام النظام اقتصاديا على مبدأ الحرية الاقتصادية وتتضمن حرية التجارة وحرية الاستثمار الداخلى والخارجى وتحرير تبادل العملة. والاقتصاد اللبنانى يعانى من هشاشة شديدة مزمنة، فقدراته الإنتاجية الزراعية والصناعية شديدة التواضع، والمصدرين الأساسيين للدخل هما مصادر ريعية: السياحة وتحويلات اللبنانيين المهاجرين والعاملين بالخارج.
والفساد المؤسسى هو جزء هيكلى من هذا النظام، حيث الانتماء الوطنى للدولة مشوه بفعل الانتماء الطائفى، والطوائف هى ما تحل مشاكل أعضائها المنتمين لها، سواء من خلال مناصبهم فى جهاز الدولة أم خارجها بحكم قوتهم الاقتصادية بل وحتى المسلحة. ولقادة الطوائف المستفيدة من النظام القائم على الطائفية والحرية الاقتصادية مصلحة مشتركة مع بعضهم بتأبيد هذا النظام، وبالطبع فولاء النظام خارجيا للغرب، سواء بعلاقاته التاريخية مع الدولة المحتلة السابقة، فرنسا، أو بالقيادة الغربية الجديدة للعالم، أمريكا، أم سائر الدول الغربية.
وتوازن القوى الداخلى ليس هو الرئيسى فى تحديد السلطات فى لبنان، بل يرتبط ارتباطا وثيقا بالتحالفات الإقليمية والدولية، وترتكز تلك القوى على تحالف كل منها مع طائفة محددة أساسا مع صلات بالطوائف الفاعلة الأخرى طبعا. وتعرض هذا النظام إلى التحدى الذى مثلته موجة التيار القومى الناصرى فى الخمسينات بالذات بعد انتصار مصر فى معركة السويس ووحدة مصر وسوريا فى فبراير 1958. كان رئيس الجمهورية اللبنانية وقت الوحدة هو كميل شمعون، المنحاز طبعا للغرب والتيار المعادى للحركة القومية، حيث سمح رئيس الجمهورية للأسطول الأمريكى بإنزال قواته فى لبنان فى مواجهة النفوذ القومى للحركة الناصرية، وأيضا للاستفادة به فى احتمال مد رئاستة التى تنتهى فى نفس العام. قامت مظاهرات جماهيرية كاسحة ضد تيار الرئيس وضد الإنزال الأمريكى، وهزم ذلك التيار سريعا أمام المد القومى الكاسح وقتها وتم اختيار فؤاد شهاب ذو الميول القومية رئيسا للجمهورية بدل كميل شمعون تعبيرا عن ذلك التوازن بعد شهور قليلة!
التحدى الأكبر التالى للنظام اللبنانى هو النضال الوطنى الفلسطينى للفلسطينيين فى لبنان بالذات بعد الهزيمة العربية الشاملة أمام إسرائيل فى العام 1967. وإذا كانت المقاومة الفلسطينية المسلحة لإسرائيل قد بدأت بمبادرة منظمة فتح منذ أول يناير عام 1965 فقد تصدى لها- ليس إسرائيل فقط بل وكافة الأنظمة العربية سواء بالقمع المباشر فى الأردن ولبنان ذوى الحدود المشتركة مع إسرائيل والذى تقيم فيهما تجمعات فلسطينية ضخمة، أو باقى الدول وعلى رأسها مصر التى تجاهلتها بالكامل. ولكن هزيمة عام 1967 غيرت من سلوك الأنظمة فى الدول العربية ومصر أساسا، حيث اتخذ من المقاومة الفلسطينية تعويضا عن هزيمتها أمام إسرائيل، فدعمت تلك الأنظمة الثورة الفلسطينية وتعاونت معها.
كان النضال الفلسطينى فى لبنان يعانى أثناء العمليات الفدائية، ليس فقط من القوات الإسرائيلية على الحدود فى الذهاب والعودة وفى الداخل بالطبع، ولكن من حرس الحدود اللبنانيين ومن أفراد المكتب الثانى (المخابرات اللبنانية) الذين اعتادو تتبع المقاومة والقبض على الفدائيين سواء عند ضبطهم على الحدود أثناء الذهاب أو العودة، أو بالبحث والتفتيش عنهم داخل المخيمات الفلسطينية فى لبنان، مع التعذيب الوحشى للفدائيين المصاحب لاضطهاد الفلسطينيين العاديين بعدم السماح لهم ببناء بيوت لهم (بحجة أن هذا يقود إلى احتمال توطينهم فى لبنان على حساب حق عودتهم إلى فلسطين، (!) وعدم السماح لهم بالعمل، أى بالتجويع. بالطبع لم يكن هذا يمنعم من العمل، لكنه كان يسمح للفلسطينيين بالعمل غير الرسمى محرومين من كافة الضمانات من ناحية الأجور والحقوق، بل وعندما يطردهم صاحب العمل دون الوفاء بمستحقاتهم المالية فإنهم إن ذهبوا للشكوى فى الشرطة فإنه يتم القبض عليهم بتهمة العمل بالمخالفة للقانون الذى لا يعطيهم هذا الحق!
ولكن تطور وازدياد نفوذ وقوة الفدائيين قاد إلى علنية تواجدهم داخل المخيمات الفلسطينية والمعارك العنيفة بين الجيش اللبنانى وبينهم فى المخيمات، مع إحساس الفلسطينيين فى تلك المخيمات بالكرامة لأول مرة، حينما تتمكن قوى فلسطينية مسلحة من حمايتهم والوقوف فى وجه إذلال المخابرات اللبنانية. أدى نشوب اشتباكات عنيفة بين الطرفين عام 1969 إلى تدخل القاهرة للوساطة وتوصل إلى عقد اتفاق بين الحكومة اللبنانية والمقاومة ينص على حرية العمل الفدائى الفلسطيني وعلى حق الفدائيين الفلسطينيين فى حمل السلاح داخل المخيمات.
ازدادت قوة الفدائيين الفلسطينيين فى لبنان خصوصا بعد هجرة أعداد واسعة منهم من الأردن إلى لبنان فى أعقاب مذابح أيلول 1970 الشهيرة ليقيموا وينطلقوا فى نضالهم من لبنان. فى حرب 1973 عبأ النظام المصرى الجماهيير وراء شعارات الوطنية واسترداد الكرامة، واستبسل الجنود والضباط، ولكن الحكومات، والمصرية بالذات، أرادت منها حربا محدودة لتحريك الأزمة وليس حتى كحلقة فى سلسلة تحرير الأرض والإرادة. أعلن السادات قبل انتهاء الحرب أن 99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا، حيث سلمها أمره كلة، ولتتحقق التخوفات التى رفعتها مظاهرات الحركة الطلابية فى مصر أعوام 1972 و1973 "ياخوفى يوم النصر، نكسب سينا ونخسر مصر".
جاءت نتائج الحرب عمليا هى نتيجة هزيمة 1967 وفرض الخريطة الأمريكية للمنطقة وليس نتائج الانتصار العسكرى المحدود الذى تم فى 1973. برز فى إعلان هذا التحول ليس فقط عودة الدفئ للعلاقات مع أمريكا وتسليمها زمام الأمور فى مصر ولكن فى ورقة أكتوبر التى طرحها السادات فى يناير 1974 وأعلنت أكتوبر آخر الحروب، مع إلغاء سياسة التخطيط المركزى وبداية عهد الانفتاح الاقتصادى. وبالطبع كانت الخطة الأمريكية الإسرائيلية وهدفهم من حرب 1967 يتجاوز مصر إلى إخضاع المنطقة العربية كلها وتصفية التيار القومى المعادى للاستعمار الذى ساهمت فى تفجيره مصر الناصرية وتجاوبت معها حركة التحرر العربية.
استبسلت المقاومة الفلسطينية أثناء حرب 73 وازدادت قوتها، وأصبحت لبنان نقطة تمركزها الأولى. ولكن الخريطة الاستعمارية لا تتسع بالطبع لقوة تحرر جماهيرية مسلحة مثل حركة التحرر الوطنى الفلسطينية التى تمثل رغم كل تناقضاتها ونواقصها ظاهرة شديدة الأهمية فى تاريخ النضال الفلسطينى والعربى. كما أن تواجدها فى لبنان كان لابد وأن يثير التناقضات مع النظام الطبقى الغربى الميول الحاكم فى لبنان، وأن تتطور فى جواره حركة وطنية لبنانية. لذلك تلقت قوى اليمين المارونى اللبنانى الإشارة من إسرائيل وأخذت القوى الرجعية اللبنانية بزعامة حزب الكتائب تعد لذبح المقاومة الفلسطينية.
لست هنا بصدد تقييم كل التفاصيل، ولكن بعض أخطاء المقاومة التى لا أنفى وجودها لم تكن هى سبب التصفية بل معسكر الاستعمار الغربى الإسرائيلى وهدفه فى تصفية الكفاح الفلسطينى المسلح تأمينا لوجود إسرائيل وهيمنة خطة السلام الأمريكية فى المنطقة. وقامت الكتائب بالهجوم على قوات المقاومة استعدادا لذبحها، بدءا بمعسكرى عين الحلوة والمية ومية الفلسطينيين فى لبنان بعد إعداد استعمارى يمينى كتائبى طويل، فبدأت الحرب الأهلية اللبنانية فى إبريل 1975.
صمدت المقاومة الفلسطينية وقاومت مقاومة باسلة خطة الذبح متحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية وعلى رأسها الحزب التقدمى الاشتراكى زمن كمال جنبلاط ومختلف الأحزاب الناصرية والقومية واليسارية. حقق التحالف الفلسطينى اللبنانى التقدمى انتصارات ساحقة، وتسبب فى انشقاق قومى الاتجاه فى الجيش اللبنانى وخروج تيار قومى تقدمى -بقيادة أحمد الخطيب- وتحالف مع الحركة الوطنية باسم جيش لبنان العربى. تم حصار جونية ومقرات الكتائب (بيير الجميل) والأحرار (كميل شمعون)، وبدا أن الوضع مقبل على الانتصار الساحق عليهم وبالتالى تأسيس دولة ديمقراطية شعبية تقدمية فى لبنان.
بالطبع هذا ما لا تسمح به اسرائيل ولا الغرب ولا الرجعية العربية ولا حتى بقية الدول العربية وعلى رأسها سوريا التى يحرجها قيام دولة تقدمية ديمقراطية على حدودها ترفع منطق الكفاح المسلح ضد إسرائيل. تقدمت سوريا وقامت بالاجتياح العسكرى الواسع فى لبنان منتصف عام 1976 كما هو معروف، بهدف إطفاء الحريق الثورى، وتقديم حبل الإنقاذ لقوى اليمين المسيحى لتوازن بينه وبين التيار التقدمى من ناحية، ولكى تتجنب أن تتدخل إسرائيل و/أو أمريكا لتحاصر سوريا غربا وتتسع جبهة المواجهة عن حدود الجولان. تم الحفاظ على توازن بين اليمين واليسار عن طريق القوات السورية.
استجد وضع هام بمبادرة مصر السادات لزيارة القدس فى نوفمبر 1977 وعقد اتفاق كامب دافيد 1978 إعلانا لخروج مصر من إطار المواجهة العربية وسعيها لحل منفرد أمريكى الطابع واعترافها بإسرائيل والتطبيع معها، وبذلك تركت سوريا حافظ الأسد وحدها فى التسوية. انعكس هذا على الوضع اللبنانى بتراخى سوريا فى تحجيم التيار الفلسطينى والتقدمى، مع الإبقاء عليه لكى تضاف إلى أوراقه فى المساومة على حل "مرضى" مع إسرائيل والغرب.
يرى اليمين اللبنانى أن سبب مشاكل لبنان هو التدخل الفلسطينى الذى جلب الحرب الأهلية، ثم التدخل السورى بعد ذلك (أنظر جريدة النهار اللبنانية عام 2016 فى مقال "12 رئيساً في تاريخ الجمهورية... إطلالة على عهود ووعود" ترحيبا برئاسة ميشيل عون). لهذا كان استعراض هذا التاريخ لتوضيح إن التواجد الفلسطينى والتدخل السورى نشآ بفضل التناقض بين مصالح شعوب المنطقة بما فيها الشعب اللبنانى، وبين ضرورات رسم واستقرار الخريطة الأمريكية الاستعمارية للمنطقة، والتى يعشقها اليمين اللبنانى بتحالفه الطبيعى مع الغرب وباتساقها مع نظامه الاستغلالى وتشابكها مع مصالح القيادات الرجعية للطوائف.
وكما هو معروف كانت الحلقة التالية هى دخول إسرائيل للقضاء على المقاومة فى لبنان أولا باحتلالها للجنوب اللبنانى وإنشاء دويلة عميله فيه يرأسها أنطون لحد عام 1978، ثم بالاجتاح الواسع وصولا إلى بيروت عام 1982. استبسلت المقاومة الفلسطينية اللبنانية ضد الاجتياح وأوضحت أنها ما تزال رقما مستعصيا على الذبح، ولكن ميزان القوى العسكرية الداخلى والتوازن الدولى والإقليمى انتهى بخروج المقاومة الفلسطينية من حصار بيروت بأسلحتها إلى تونس واليمن كما هو معروف. ونشأ تفاهم ضمنى بين كل من القوات السورية فى لبنان التى لم تتدخل بشكل فعال لحماية لبنان من الاحتلال وحماية النضال الفلسطينى، وبين إسرائيل.
ولكن تناقضات الاحتلال الإسرائيلى، وطابع المنطقة بتراجع حركة التحرر الوطنى وهزائمها المتعددة وبروز التيارات الإسلامية فى أعقاب الثورة الإيرانية فى 1979 أديا إلى نشوء حزب الله فى أعقاب غزو إسرائيل للبنان عام 1982، وبروز الطابع الدينى لقيادة الحركة الوطنية بديلا عن الحركات الديمقراطية التقدمية، رغم تميزها الواضح عن الحركة الدينية التقليدية الرجعية للإخوان والتيارات الجهادية فى المنطقة.
تم توقيع اتفاق الطائف لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية بمباحثات الفترة بين 1989 و1991، وتم توقيع الاتفاق الذى شارك فى الوساطات لعقده رفيق الحريرى (وهو رجل أعمال وواحد من أغنى 100 شخصية فى العالم، لبنانى حاصل على الجنسية السعودية ويشاع أنه شريك غير معلن مع أموال للحكومة السعودية). اشتمل الاتفاق على تعديل النسبة بين المسلمين والمسيحيين فى السلطات من 4: 5 إلى التقاسم بالنصف، وعكس هذا ميزان القوى فى الداخل، وبرز فيه دور السعودية والولايات المتحدة كما باركته سوريا المتنفذة فى لبنان منذ دخولها لترويض الحركة الفلسطينية المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية عام 1976. وفى هذا السياق تولى رفيق الحريرى وزارتة اللبنانية الأولى عام 1992- 1998.
لعب حزب الله دورا قياديا، بمشاركة قوى تقدمية لبنانية أخرى، فى الكفاح ضد الاحتلال حتى انتهى بخروج إسرائيل من لبنان عام 2000 لكى تكون لبنان هى الدولة العربية الوحيدة التى انسحبت إسرائيل من أراضيها دون اعتراف أو مفاوضة أو تنازلات، وبفضل المقاومة الشعبية وحدها. انعكس توازن القوى هذا على الحكومة منذ اتفاق الطائف، وجاءت حكومة الحريرى الأولى (1992- 1998) تعبيرا عن تحالف التيار السنى المستند كما قلنا للنفوذ السعودى الأمريكى مع التيار المارونى، بموافقة حزب الله، والذى اضطرت القوى الرجعية العربية العربية واللبنانية للقبول به بفضل دوره فى مواجهة إسرائيل وتوازن القوى بالداخل اللبنانى.
منذ عام 2000 على الأقل بدأ التمهيد لفرض المرحلة التالية فى فرض مستقبل لبنان الرجعى بالضغط على سوريا للانسحاب من لبنان إضعافا لها وتثبيتا للقوى الرجعية فى لبنان، واشتمل بالطبع على محاولات خجولة فى البدايات لرفع شعارات نزع سلاح حزب الله وبقاء السلاح فى يد جيش الحكومة اللبنانية وحدها. تولى الحريرى وزارته الثانية عام 2000 وظل بها حتى اغتياله فى 14 فبراير 2005. وكون الحريرى من خارج العائلات السنية الكبيرة التى يأتى منها رؤساء الوزارات فى لبنان عادة بل يقال عنه أنه رجل عصامى ساعد فى مناخ فترة ما بعد اتفاق الطائف على توليه رئاسة الوزارة مرتين. كان اغتياله مناسبة لقيام ما سمى بانتفاضة الاستقلال (وسماها البعض بثورة الأرز) ضد تواجد الجيش والمخابرات السورية فى لبنان مع التهديد بلجنة تحقيق دولية وتلميح لإمكانية تدخل عسكرى أجنبى ضد التواجد السورى فى لبنان مما قاد فى النهاية لانسحابها من لبنان بعد اغتيال الحريرى بشهرين فى إبريل 2005 لتفادى التصعيد ضدها. كما ضم السخط أيضا على قطاعات لبنانية جماهيرية محتجة على تجاوزات الأمن السورى فى لبنان، والذى يستأسد على الجماهير ويتخاذل أمام إسرائيل حينما تحتل لبنان!
ورغم ما ما تلى اغتيال الحريرى وإخراج سوريا من لبنان وإفقاد حزب الله لنصير رئيسى، فقد نجح الحزب فى تأكيد وجوده على الساحة اللبنانية كقوة لا يمكن تجاهلها، بالذات بعد دوره الكبير فى تزعم مقاومة العدوان الإسرائيلى على لبنان عام 2006، وبالطبع استمر اليمين اللبنانى مدعوما بالغرب والرجعية العربية فى الضغط على حزب الله ورفع شعارات السلاح بيد الدولة اللبنانية وحدها.
توازن القوى فى اللحظة الراهنة
وجدت موجة الثورات العربية فيما عرف بانتفاضات وثورات الربيع العربى أيضا أصداءها فى لبنان. وتبلورت تيارات شعبية وموجات متتالية من الهبات والانتفاضات الجماهيرية حتى انفجرت الثورة فى لبنان فى 17 أكتوبر 2019 كما سبق وأشرنا. وتوازن القوى عشية الثورة تميز على مستوى الحكم بسمات هامة.
وتتمثل التيارات الرئيسية فى لبنان عشية وصبيحة الثورة ببروز القوى التالية: منصب رئاسة الجمهورية (تيار الأغلبية بين الموارنة، ويمثله الآن التيار الوطنى الحر التابع لعون رئيس الجمهورية)، ومدعوما بتحالف 8 آزار. والتيار الآخر هو تيار الأغلبية بين السنة الذى يمثله رئيس الوزراء سعد الحريرى (زعيم كتلة 14 آزار – مارس). والطوائف الأخرى الرئيسية هى الشيعة ويمثلها حزب الله وحركة أمل التابعة لنبيه برى رئيس البرلمان، والتيار الرئيسى بين الدروز ويمثله الحزب التقدمى الاشتراكى برئاسة وليد جنبلاط.
والفئة التالية الأصغر نسبيا تشمل تيارات الموارنة المعارضة لرئيس الجمهورية عون مثل حزب الكتائب (سامى الجميل) والقوات اللبنانية (سمير جعجع)، وحزب الأقلية وسط الدروز الحزب الديمقراطى اللبنانى (طلال أرسلان) مع قائمة طويلة من الأحزاب الأخرى. أما الأحزاب العلمانية فمن أهمها الحزب الشيوعى اللبنانى والأحزاب القومية والناصرية.
هناك تيارين سياسيين رئيسيين متبلورين الآن فى لبنان: الأول هو تحالف 8 آزار الحاكم والذى يملك 80 مقعدا من أصل 128 فى البرلمان اللبنانى، ويضم التيار الوطنى الحر (ميشيل عون رئيس الجمهورية)، وحركة أمل (نبيه برى رئيس مجلس النواب) وحزب الله (الشيخ حسن نصرالله)، وأحزاب كثيرة أصغر، ويمتلك 80 مقعدا فى البرلمان من إجمالى المقاعد وعددها 128 مقعدا. ومن الجدير بالذكر أن ميشيل عون كان من مؤسسى تحالف 14 آزار، وغير انتماءاته فى ميزان قوى مختلف وتخلى عن عدائه لسوريا وأصبح بعدها رئيسا للجمهورية عام 2016 بعد فراغ منصب الرئاسة لمدة أكثر من سنتين، وعبر عن توازن خارجى بين كل من سوريا.والسعودية والغرب من ناحية وحزب الله المقاوم لإسرائل وذو العلاقة الخاصة مع إيران من ناحية أخرى.
والتيار الثانى هو تحالف 14 آزار الذى تشكل فى أعقاب اغتيال رئيس الوزراء ضد الوجود السورى فى لبنان وبدعم غربى رجعى عربى ويضم تيار المستقبل (سعد الحريرى) والقوات اللبنانية (سمير جعجع) والحزب التقدمى الاشتراكى (وليد جنبلاط)، مع عدد من الأحزاب الأصغر، ويمتلك 48 مقعدا فى البرلمان. ورغم هذا التحالف يقوم التيار المحافظ بالتحريض ضد حزب الله ويدعو لنزع سلاحه كما يدعو الغرب، وبرفض علاقاته مع إيران وتدخله فى المعارك فى سوريا ضد التدخل الأمريكى التركى الإرهابى ومع نظام بشار الأسد والقوات الإيرانية فى سوريا.
انفجرت الثورة كما أشرنا فى المقدمة وشرارة انفجارها هى تدهور الوضع الاقتصادى ورفض الإجراءات التقشفية لحكومة الحريرى، وامتدت شعاراتها للمطالبة بالديمقراطية الحقيقية ورفض الطائفية والمطالبة برحيل جميع زعماء الطوائف والإطاحة بما سموه "الطبقة السياسية" لجميع الطوائف دون تفرقة، تحت شعار "كلن يعنى كلن".
ورغم أن غالبية الشعب لا تنكر الدور المقاوم لإسرائيل الذى لعبه حزب الله، إلا أنه هو أيضا كان هدفا لسخط قطاعات هامة من الجماهير الشعبية اللبنانية، وهو ما يستدعى وقفة تفصيلية عن مغزى ذلك الموقف. بدأ حزب الله تيارا وطنيا مقاوما للاحتلال ذو صبغة شيعية وذو تحالف مع إيران وسوريا، وكان الطرف الشعبى غير الطامح وغير المشارك فى الحكم. ولكن تصاعد المطالب بتحجيمه ونزع سلاحه، مع الموقف الأمريكى منه باعتبار جناحه العسكرى منظمة إرهابية (وهو ما تطور حاليا لاعتباره كله منظمة إرهابية) دفع الحزب إلى الدخول فى معترك التحالفات السياسية مع القوى الطائفية الرجعية الحاكمة لضمان وجوده.
ولكن هذا قاد الحزب إلى أن أصبح طرفا فى السلطة ومعادلة الحكم، وبالتالى متهم بالمشاركة ولو بالصمت على الأقل، على فساد الطوائف الحاكمة، بل ودعاية البعض عن استفادته منها هو الآخر. والطرفين الرئيسيين فى الحكم، رئاسة الجمهورية المارونية ورئاسة الوزارة السنية يتبنيان النظام الطائفى والاقتصادى الحر الهش، وحزب الله باعتباره طرفا، يعد أيضا مسئولا عن المشاركة فى السلوك السياسى للنظام، وأيد خطة الحريرى التقشفية قبل طرحها، والتى تقضى بتحميل عبئ الأزمة الاقتصادية على جماهير الشعب اللبنانى مع ضمان استمرار امتيازات زعماء الطوائف، واستمرار آليات الفساد.
فى بداية أحداث الثورة أكتوبر الماضى رأى حزب الله فيها تهديدا للتوازن الموجود الذى يتيح له حرية الحركة، وبالتالى شارك اعضاؤه فى نشاطات معادية للثورة من مهاجمة مناطق الاعتصامات الشعبية مع التورط فى ضرب المعتصمين وحرق خيامهم، وبالطبع أثار ذلك السلوك نقمة الجماهير عليه. كما دافع الحزب باستماتة عن استمرار التوازن السياسى القائم، واعترض على استقالة رئيس الوزراء بعد الرفض الجماهيرى لخطته التقشفية، وحاول الضغط على سعد الحريرى لكى يعود عنها، ودعم استمراره كحكومة تصريف أعمال لحين تعيين رئيس وزراء جديد. وبعد فشل محاولة إسناد رئاسة الوزارة لسمير الخطيب واعتذاره رجعت محاولات إقناع الحريرى بتولى الوزارة، ولكنه اعتذر للمرة الثانية فى 18 ديسمبر 2019.
فيما يبدو فإن تكتيك سعد الحريرى يعتمد على انتهاز الفرصة للخروج من التحالف مع أعدائه ومخالفيه بتيار 8 آزار سواء رئيس الجمهورية الذى يراه مراعيا لسوريا، أو حزب الله الذى يرفضه كقوة تحمل السلاح، بل ويرفض حتى وجوده على الساحة اللبنانية كحزب مقاوم، ويغازل الحراك الجماهيرى مع محاولة توجيهه ضد حزب الله وميشيل عون رئيس الجمهورية، ويتبرأ من المشاركة فى الحكم معه، وبالتالى تحميل ذلك التيار عبئ الخروج من الأزمة الاقتصادية ووضعه فى مواجهة مطالب الثورة. كانت النتيجة هى تشكيل حكومة حسان دياب فى 19 ديسمبر 2019، وهو المحسوب على تحالف حزب الله مع رئيس الجمهورية، ليقع هو فى ورطة إخراج لبنان من الأزمة الهيكلية المزمنة.
وفى مواجهة مطالب الثوار بفضح الفساد ومحاكمة المفسدين ورد الأموال المنهوبة كبديل عن تحميل الطبقات الشعبية العبئ الاقتصادى للأزمة التى تسبب فيها سياسات وسلوك هؤلاء، حاول زعماء الطوائف الممثلين فى البرلمان قطع الطريق عليها عن طريق إعلان العفو العام عن كل المسئولين السابقين ومنع محاكمتهم. لعبت جماهير الثورة دورا هاما فى إجهاض التحرك اليمينى عن طريق منع البرلمان من الانعقاد للتصويت على هذا القانون.
الوضع الاقتصادى الحاد الذى وصل لبنان إليه، تميز بالانهيار المتزايد لقيمة الليرة اللبنانية حتى انخفضت أحيانا إلى أقل من سدس قيمتها أمام الدولار، مع تضاعف نسبة الفقر فى لبنان من ثلث اللبنانيين إلى ما يقول البعض أنه وصل إلى الثلثين الآن، وتآكل الطبقة الوسطى، وأصبح توافر الخبز أزمة، وسعره أزمة أخرى فى ظل شح الدولار وغياب الواردات، مع أزمة فى الوقود وأغلب السلع المتداولة المستوردة، فى ظل اقتصاد هش غير انتاجى كما أوضحنا.
ساهم فى خلق وتواصل وتدهور الأزمة نفس الوضع الطائفى بتهريب أغنياء وزعماء للطوائف مواردهم للخارج، وساهم فى ذلك السلوك البنوك بقيادة جمعية أصحاب المصارف، تلك المصارف التى لا تراقبها الدولة، ويتواطأ البنك المركزى معها ويرفض أى سياسات تضغط على البنك المركزى والسياسات النقدية كما ترفض الطبقات المالكة الكبيرة أى ضرائب عليها وأى تحمل لعبئ الأزمة الاقتصادية.
تتبادل الأطراف بالطبع التشهير ببعضها، فبينما يتسرب التشهير بوليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمى الاشتراكى حيث يحتكر سوق الأسمنت بمصانعه التى يمتلكها ويقتطع السوق اللبنانى لصالحه حيث يبيع الطن منه فى الداخل اللبنانى بمائة دولار بينما يصدره للخارج بخمسة وعشرين دولار! وفى المقابل يتهم أعداء حزب الله الحزب باستغلال شركات صرافة تابعة وتوظيفها فى تعبئة الدولارات من السوق لضخها إلى كل من سوريا وإيران فى ظل أزمتهم الاقتصادية بالذات من ناحية مواردهم من العملة الأجنبية!
وتحافظ الحركة الثورية الجماهيرية على زخمها رغم فترة من الكمون نسبيا بسبب أزمة وباء كورونا، بل وتستعيد كل أشكال العمل الجماهيرى الواسع من مظاهرات واعتصامات وغيرها، وبالطبع تدفعها الأزمة المعيشية إلى الاستمرار فى التحرك مع السخط على كل حكومة وعلى كامل الأوضاع التى أوصلت إليها الطبقة الحاكمة البلاد. وتدعم الأحزاب الجماهيرية الثورة وتقف مكانها بين الثوار سواء القوى الناصرية (أسامة سعد وغيره) أو الحزب الشيوعى اللبنانى، أو بعض القوى الأخرى، وتقف معها فى نفس الخندق.
المستقبل
لا شك من أن تسلح الثورة بفكر ثورى سليم، باستراتيجية وتكتيك ملائمين هو من أهم أسباب انتصارها، حتى لو كان انتصارا مرحليا على طريق طويل يشكل مرحلة تاريخية كاملة. سارت حكومة حسان دياب بضعة خطوات فى طريق صحيح، ولكن إلى أى مدى؟ حسنا فعلت الحكومة برفضها عقد مفاوضات مع صندوق النقد الدولى لعقد قرض لتفادى الأزمة الحادة فى نقص العملة الصعبة، فليس لدى صندوق النقد الدولى ما يقدمه سوى روشته العادية من السياسات التقشفية التى تزيد من معاناة الجماهير، والخصخصة. كما أشار دياب وأشار حزب الله إلى أن المطلوب هو تدعيم القطاع الإنتاجى لزيادة الاكتفاء الزراعى الصناعى، ولكن كيف يتم ذلك؟
لا يجب الاستهانة بالخصخصة بدعوى غياب قطاع عام إنتاجى ذو وزن، ولكن نظرة إلى ما فعلته تلك السياسات فى اليونان يرينا نموذجا حيا لتدمير الدول: لقد استغلوا (ترويكا المفوضية الأوروبية والبنك المركزى الأوروبى وصندوق النقد الدولى) أزمتها الاقتصادية فى خصخصة شركة الطيران المحلية، والموانئ، والقطاع الصحى بأكمله محولينه إلى قطاع ربحى، غير خصخصة مختلف الخدمات من كهرباء ومياه. وأكبر مرفق فى لبنان طرح الحريرى خصخصته تدريجيا فى خطته ويطرح الصندوق خصخصة أسرع وأفدح هو شركة الاتصالات اللبنانية المسئولة عن التليفونات. وبالطبع تملك الدولة فى لبنان الشركات والمرافق المذكورة التى تم خصخصتها فى اليونان.
ربما تكمن المعضلة الرئيسية أمام حكومة حسان دياب فى محاولة التوفيق بين عدم استعداء الطبقات المسيطرة ومنها زعماء الطوائف، وبين مطالب الشعب، مع رفضها لسياسات الحريرى وصندوق النقد التقشفية. هنا لا يستقيم الإمساك بالعصا من المنتصف. إن واجب القوى الثورية فى لبنان فى رأينا هو طرح المعضلة أولا وطرح حلول ثانيا، وهى الأقدر بالطبع على إدراك واقعها، ونتعاطف معها بكل تأكيد نظرا لتعقيد الوضع الدولى والإقليمى والداخلى كما أشرنا فى المقدمة وأوضحنا فى سياق المقالة.
وربما تكمن بدايات التكتيك فى مواجهة الأزمة الاقتصادية فى استعادة سيطرة الليرة كعملة وطنية على السوق الداخلى كعملة وحيدة قابلة للتداول. يعنى هذا سياسات نقدية تتميز بفرض الرقابة على الصرف، ومركزة كل الموارد الدولارية فى البنوك، مع إلغاء حق تداول الدولار داخليا خارج البنوك، وإلغاء شركات الصرافة، وفرض الرقابة على التجارة الخارجية لتوجيه الموارد الدولارية إلى الأولويات الاستيرادية الهامة بالذات الغذاء والوقود ومستلزمات الإنتاج ومقومات التنمية الإنتاجية.
كما يجب أيضا رفض ما يسمى باستقلال البنك المركزى الشائع الآن عالميا والذى يصر على طرحه البنك والصندوق الدوليين، فهذا لا يعنى إلا استقلال البنك المركزى عن رقابة السلطة التنفيذية ممثلة فى الحكومة، واستقلاله أيضا عن السلطة التشريعية متحررا من رقابتها، لكى يبقى تحت سيطرة القوى المالية المتنفذة فى الداخل، وتحت سيطرة "المعونات الفنية" لمؤسسات التمويل الدولية من تدريب وإخضاع فى الخارج. أيضا فى مجال السياسات المالية، يجب بعد رفض تحميل الأزمة على عاتق الجماهير بالسياسات التقشفية، يجب أن تطرح بشكل واضح تحميلها على عاتق الطبقات القادرة بفرض ضرائب تصاعدية، مع تعقب الفساد ومصادرة الأموال الناتجة عنه، وربما فرض ضريبة على رأس المال لمرة واحدة تساعد النظام على تجاوز الأزمة.
وفى مجال الديمقراطية يجب طرح برنامج جذرى تتوافر ملامحه الأساسية فيما تطرحه فعلا القوى التقدمية اللبنانية بإنهاء المحاصصة الطائفية وإلغائها فى كل السلطات التشريعية والتنفيذية وطرح دولة مدنية علمانية تساوى بين جميع المواطنين وتقر اختيار جميع المناصب على أساس الكفاءة بصرف النظر عن الطائفة. كذلك تأمين الحريات الديمقراطية الجذرية للجماهير من ناحية حقوق الاجتماع والإضراب والتظاهر، وتوسيع الحريات القائمة فى مجال الأحزاب والنقابات ومنظمات العمل الأهلى.
خاتمة
بعد فترة مسحة الليبرالية عند تأسيس الدولة كنتيجة لتوازن القوى الطائفية، واستقرار النظام المنفتح على الغرب، جاءت المرحلة الثانية بالموجة القومية فى العالم العربى ورأينا تجسدها فى لبنان فى مرحلة فؤاد شهاب. ثم أتت الموجة الثالثة مع انفجار الصراع مع إسرائيل فى العالم العربى والدور الخاص الذى لعبته القضية الفلسطينية فى لبنان كأحد دول الطوق، وهو ما قاد كما رأينا إلى مرحلة الحرب الأهلية. وبالطبع ساهم اتفاق الطائف فى إنهاء الحرب الأهلية واستعادة الوضع الطائفى مع تغيير فى التوازنات بحكم موازين القوى الجديدة، وظلت هناك بين قوى النظام التقليدى الرجعى قوة وطنية مقاومة هى حزب الله. والآن تأتى مرحلة جديدة هى مرحلة ميلاد التيارات الجماهيرية الجذرية الرافضة للاستغلال والطائفية والتبعية والمطالبة بدولة ديمقراطية حقيقية وحديثة. هنا أهمية الانحياز من قبل القوى الثورية الحقيقية لبرنامج ثورى يربط استراتيجية بناء دولة وطنية حديثة غير طائفية وديمقراطية حقيقية مع مستوى معيشى لائق لجماهيرها، وتنمية تطور الاقتصاد الحقيقى فى لبنان لصالح أغلبية اللبنانيين.
دكتور محمد حسن خليل
11 يوليو 2020



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن