-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (26)

احمد جمعة
ahmedjuma44@yahoo.com

2020 / 6 / 21

بين الحلم واليقظة تمايل إيقاع الدنيا كراقصة رشيقة، مَحا الحلم يَقْظة الحياة من حول سفيان، شعور بمن آب إلى الحياة واسْتعاد وصلها بعد هَجْر منذ افْترق عن مزاياها، كانت الشهور الأخيرة التي أمضاها في العاصمة البريطانية شبيهة بالحلم من حيث تقارب الصورة بينه وبين والده تقي المرجاني الذي قضى بدوره سنوات الدراسة بلندن عشية نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ ازهرت حياته هنا عن الكثير من التجارب وها هما، الابن والأب يلتقيان عند ناصية الدنيا يتبادلان نخب الحياة التي جمعتهما في ظل مفارقة الْخَلْق حين تضطرب الأشياء وتخرج عن سياقها فتبدو الأمور مقلوبة أو معاكسة، قَدِم سفيان هنا إلى لندن وهو يحمل معاناة الكون كلها فوق ظهره كأنه "سيزيف" مع صخرته التي تمثلت في غيبوبة عاشها في الجسد الخطأ منذ الطفولة والمراهقة حتى أيقظته شيري ذات لحظة حميمية صحا من غيبوبته ليرى دنيا متباينة عن تلك التي اعْتاد عليها وانغمس في آلامها التي شبهها ذات مرة بآلام فارتر للفيلسوف الالماني جوته، كان قد قرأها صدفة عندما لمحها على مكتب استاذه في الثانوية الخاصة، وجذبه عنوانها.
مكثَ الابن والأب في بريطانيا ثلاثة أشهر حتى الآن نزولاً عند مَشيئَة الابن بالرغم من إلْحاح العائلة في المنامة على ضرورة العودة للبحرين، كان هناك كثيرٌ من الالتزمات والعراقيل والعوائق التي نبتت كالفطر في الأيام الاخيرة عند سفيان، منها اكتشافه إصابة أنجيلا بالسرطان وعدم وضوح الرؤية لطبيعة العلاقة النهائية مع شيري، وخروجه من بريطانيا دون أن يحسم وينهي هذه العوائق والتي اسْتَنْتج أن بعضها من صنعه هو ذاته حيث جذب لنفسه بتفكيره السلبي الذي ولد شعوراً متضارباً بسبب الأصوات الداخلية التي أفرزت صراعاً دائماً احْتدم وَولَّد حرباً شعواء طاحنة بين شيري التي لا يتصور الحياة بدونها وبين أنجيلا صديقته التي وقفت معه وساندته وقت محنته ووحدته، هل يتركها ويهرب؟ أو يتريث ويعلق شيري التي لم يصل بعد لقرار بشأن الارتباط بها والبقاء في لندن أو العودة للبحرين، وهل توافق هي على ترك المدينة الغائمة وتندفع نحو أرض يغمرها المجهول معه؟ حين اسْتًغاثَ بتقي في نهاية الأمر بعد أن شعر بانسداد الطريق أمامه، أخذه الاب معه في جولة بقلب لندن مع دهشة واستغراب الآخر من هذا التصرف.
"إننا في هذه الحياة نتعرض لخيانة أنفسنا ببيع ذواتنا للآخرين، لست مضطراً سفيان للهروب من منزلك وأسرتك وبلدك في كل مرة تواجه فيها الخطأ، الأخطاء تقع أينما وُجِدَت حتى لو كنت في النعيم.
أشعل تقي سيجارة في السيارة وسط دهشة إبنه، شفط منها مرتين وأعطى الآخر الذي بدوره شفط منها ثم استلها من يده وسارع بإطفائها، فيما قام سائق الفندق الذي يعرف تقي بفتح النافذة لتهوية السيارة دون أن يبدى أي اسْتهجان.
"ستكون هناك أخطاء دائماً ما دُمْتَ تعيش، أنفض عنك تفكير الهروب لأنني لاحظتك منذ جئت هنا وأنت تفكر كل مرة بالهروب من شيء، اسمعني ابني، لا تهرب من أنجيلا سنجد طريقاً ما لمساندتها، ولا تهرب من شيري، أنتَ تُريدها خذها بأي حال، سواء بقيت هنا أو ذهبت هناك، تريد رَأيي من تجربتي مع إفيلين التي سأحكيها لك فيما بعد وقرر إثرها كيف وأين ترتبط مع يار.
نظر الابن من زجاج نافذة السيارة، كان الوقت مساءَ والشمس استسلمت وبرزت الحركة في الشارع آلية تشير لسريان الضجر الإنجليزي عند نهاية النهار حيث يبدأ الضوء ينسكب على الأرجاء بإشاعة البرودة في حركة الناس فيما ينزع البعض للخمول، هذا ما بدا عليه الشارع من النافذة.
"انظر للمدينة، لا ينقصها هذه اللحظة سوى سماع كونشرتو بيانو موزارت.
قهقه سفيان فيما استطرد الأب.
"شيئان سفيان أريدك أن تأخذهما بعين الاعتبار إن أردت أن تحفظ توازنك وتحمي روحك من الانزلاق في مرض أو اكتئاب، لا تلتزم بالقواعد والتقاليد ولا تفكر في التنازل على حساب روحك.
صمت برهة وعاد يستأنف بنبرة خاتمة.
"لا تقسو على نفسك.
تَجَلّى الارتياح على سفيان، زال الاحتقان الذي كان عليه قبل أن تبدأ جولة السيارة، التفت لوالده الذي كان مشغولاً بتفحص هاتفه وحدق فيه بنظرة امتنان دون أن يصرح، حين رفع الرجل بصره عن الهاتف سارع الابن بالقول وهو يبتسم مع نظرة مراوغة.
"أين انْتَهت قصة إفيلين؟ وماذا عن جيني؟
اسْتدارت السيارة في اتجاه شارع عام، بدت فيه الحركة أسرع إِيْقاعاً، أخذت السيارة في الإسْراع مع سرعة السيارات في الشارع، ظل السائق الإنجليزي السمين والخمسيني العمر مع شعره البني والأبيض مركزاً على الطريق دون أن يبدو عليه اهتماماً بحديث الرجلين.
"ما يهم من قصتي خلاصة خرجت بها، لا تقل للطرف الآخر إِنكَ تُحبه ما لم تَر في وجهه أنه يطلب ذلك.
"أفهم قصدك أبي، اجتزت هذه الخطوة.
بعد فترة صمت سأل الأب.
"ماذا عندك الليلة؟
أطْلَق سفيان فكره بعيداً ثم عاد قائلاً.
"لا أعرف قد أزور أنجيلا.
عاد الأب يقترح.
" مارأيك نزورها معاً، هذا لا يعني البَتة تَدَخُلاً مني.
رد سفيان بنبرة تخلو من حماسةٍ لاقتراحه.
"لا أظن مستعدة الآن بوضعها، ثم أضاف مقترحاً.
"إذن نلتقي الليلة إذا عدت مبكراً ونتحدث عن جيني أبي.
ربت تقي على كتف السائق إشارة إلى العودة للفندق، فيما رد سفيان هذه المرة نشطاً.
"نخب جميلة الرائعة.
بدت الدهشة على وجه الأب وغادر صامتاً.

***
" مخالفة القواعد ليست دائماً خطأ، بعض الأحيان تكون مطلوبة لإصلاح ما أفسدته القواعد ذاتها.
حينما أجْبَرَت إيما البرت تقي بين البقاء في المنزل وتحمل مصاريف إفيلين سواء قررت تَقْويض الحمل أم الاستمرار فيه، على حد تعبيرها، وبين رفع الأمر للمحاكم والشرطة رغم اعتراض إفيلين وصدامها مع خالتها إذ اعتبرت ذلك احتيالاً على تقي الذي وجد نفسه في نائِبَة دفعته ليسقط في حالة من ألْكَرب لم يقدر معها على الاستمرار في التركيز، لا في الدراسة ولا على النوم، لم يكن حباً ذاك الذي صنع الجنين في رحم الفتاة، ليلة طارئة تجشم فيها الشعور بقسوة العيش في حضن وحدة وعزلة الشتاء الزمهرير بجليده الكثيف الذي سَدَ أسفل باب غرفته الأرضية، إحْساس بضياع ضارٍ لم يحس به من قبل اليومين اللذين سَبَقا عيد الميلاد، ضاقت الغرفة عليه، وثمة فتاة كانت تُداهنه منذ أسابيع، ثم سرعان ما راحت تتملقه بعبارات مشوشة تغيرت إلى مشاركته تدخين السجائر وجلب وجبته الصباحية التي تعدها إيما ضمن عقد الإيجار، نما شعوره تجاهها في هيئة رغبة مكبوتة تنامت كلما برز جزء من جسدها، خاصة فتحة النهدين البارزين ومؤخرتها المكتنزة، كانت ملامحها جميلة رغم عدم عنايتها ببشرتها وتسريحتها الذهبية اللون. لكنها بدت له مثيرة كلما اقتربت منه ضاعفت من اعْتمادها على الهدايا الصغيرة التي يجلبها لها، كانت تختفي بضعة أيام ثم تعود أياماً أخرى عند خالتها إيما التي ربما سهلت من دون عمد احتكاكها به حينما ترسلها بإفطار الصباح أو تطلب منها أخذ ملابسه للغسيل مقابل مبلغ يدفعه. مع الوقت تنامت لِقاءاته بها، وزال معه التملق وحل مكانه هيام خفي رآه في عينيها، فيما وَلَع هو بزياراتها وجلوسها معه والتدخين إلى أن كانت ليلة نامت فيها الخالة إيما خارج الدار لدى اصابتها بحمى باردة وساخنة اضطروا لإبقائها في المستشفى ليلة. جرى كل شيء تلك الأمسية الصقيعية خلال زيارة إفيلين لغرفته بدعوة منه لتشاركه بضعة كؤوس فودكا في أجواء جليدية عشية عيد الميلاد وعطلة الجامعات، تجاذبا الحديث حول العلاقات ثم تطورت لنظرات، وسرعان ما سرى وهج الفودكا قبل منتصف الليل مع شعور الإثنين بالدفء والحرارة تسري بينهما، فجر سؤال وجهته إليه عن شكوكها في ميوله الجنسية، لأنها لم تلاحظ خلال الفترة الزمنية التي قضاها في المنزل وجود فتاة معه ولو ليوم واحد، ضحك وأجابها حينها.
"أوامر الملك جورج السادس.
لم تتمالك نفسها من الانفجار في الضحك لتشبيه خالتها بالملك، نظرت في عينيه وقالت بنبرة مازحة بدت له ساخرة منه.
"لو كُنْت أملك وسيلة في هذا الطقس الضاري، لجلبت لك واحدة على حسابي.
استفزته العبارة وبدت له من خلال عينيها الحمراوين مع بدء مرحلة الثمالة، أنها تستدرجه لمواجة، لم يسايرها لعل ذلك من نسج خياله، كانت تجلس على طرف فراشه فيما أسند ظهره على الجدار فوق أرض الغرفة، حل صمت بينهما لثوانٍ شعرت خلاله بحرارة الفودكا تسري في عروقها، وزاد من خفقان قلبها كمية السجائر التي اسْتَنزَفتها من علبته، حين انْتَصبَت متوجهة للحمام كادت تترنح لولا أن أمسكهأ فألقت بجسدها عليه عَمْداً، نظرت في عينيه وقالت ضاحكة تستدرجه لِتَحرش ما.
"إيما في المستشفى، والمنزل خالٍ والعالم يحتفل بعيد الميلاد وأنا أشعر بالوحدة، ميري كريسماس.
رد عليها ميري كريسماس، فجأة لمح لون بشرتها تغير وسادها سكون مريب، تبادلا نظرات سريعة، كسرت السكون مقتربة منه وقالت بنبرة وِداد.
"حِب ذاتك قبل أن تنقلب عليك.
رد بنبرة مَشوبَة بِشغفٍ مباغت وقد سرت رعشه فيه وهو يُحَدق في عينيها وقد لعبت برأسه كؤوس الفودكا بعد منتصف الليلة.
"كَيْف إفيلين؟
"كافئها.
فهم العبارة، إسْترَد تلك اللحظة شَبَقاً دامياً، اسْتمَده من أيام دار دلال وفجوره المجنون مع جوري، انزلقت يده نحوها وسحب جرار فستانها من الظهر، فَاسْتَسلمت له وقد أحس بلهيبها يشيع في جسده البارد دفئاً، تسرب إليه من تيار صقيع الخارج للغرفة، همس في اذنها اليسرى.
"إفيلين.
لكنها لم تجبه، فأدرك أنها تطفو فوق عُباب من سعير الهيام.
منذ تلك الأُمْسية الميلادية، وُلِدَت علاقة سرية تمكنت مع الوقت من أن تطفو فوق جرحه الذي أعقب اختفاء جوري، توارت وحدته وراء إفراغ شهوته معها إذ كانت مُتَنفسه الوحيد وسط كل تلك النتوءات التي حاصرته في سنته الأولى بلندن مع ما رافق تلك الفترة من تداعيات الحرب، برزت فَجّة في الفقر وانعدام الملجأ وكثرة الإصابات مع غلاء الأسعار ونقص المواد وشبق الناس للمال بأي وسيلة، كانت حقبة شهدها ولم تغب عن وعيه كل دقيقة وساعة ولولا علاقته الجسدية مع الفتاة لاختنق، كل هذا الانفراج في الشعور دفعه للتعلق بها حتى بلغت العلاقة من الوصال حد الْلهْفَة ونتج عنها حَمْل من ذات صباح ربيعي مُبكر ذابت على إثره الثلوج، جاءت تحمل فطوره قبل خروجه للكلية وكانت ترتدي بيجامة قطنية صفراء ضيقة عند الفخذين وبدت منفرجة الأسارير مع ابتسامة مُرْهَفة، تعمدت وهي تَلج من الباب الاحتكاك به، منذ تلك الصبيحة، أنجبت إفيلين منه ابنتها جيني، التي هي الآن تحمل اسمه.

***
وقف سفيان عند مفترق البحر والنهر، صعد قمة الخيط الرفيع بين الجليد والنار، عبر البحر كما فعل والده من قبل وانتظر على حافة صَبابَة، غاص في هِيام لاعج لامس طرف الحبل الذي شَدَهُ بين شيري وأنجيلا، شيري يعشقها ويذرف الهوى في حضورها وأُغْرمَ بها، وأنجيلا شغف بها وتعلق بشخصيتها السحرية ثم كَلِفَ بها لدى مرضها ولم يرد أن يتركها تغادر العالم وحيدة، أخذ من والده تقي دروساً ولكنها لا تصلح للتطبيق الحرفي، وقف عاجزاً بين حبه الجسدي لشيري وعشقه لجاذبية أنجيلا، كان كالصياد حائراً بين فريستين، وقف يطلق النار فوقع في شباك الفريسة. أمضى الوقت يطوي الأيام والأسابيع فيما راح الأب يلح في العودة للديار، تأججت المشاعر تضغط وتفترس أفكاره فَتُحيلها لهيباً يُصْلّى منه على شفير الاختيار، شيري أم أنجيلا؟
"بين القلب والقلب جسر معطوب، رماح آسنة تنتظر حلول ساعة الإنتحار.
كانت تلك المفردات التي سمعها من امرأة تنصح صديقتها على طرف البار في حانة الفتاة السوداء حينما سعى للاختلاء بنفسه والتفكير في قرار انتحاري على أثره يدفع ثمن الانتظار، كانت الحانة المفضلة لديه من ساعة تعرفه على أنجيلا إذ دأب على الفرار إليها كلما دعت حرقة المعدة للهروب من الأفكار المضطربة، كان يجلس على طرف من الحانة وينتظر الوقت يَفرَّ منه حتى لا يتآكل من الداخل، ضَغَط َالأب وضغطت الأفكار وأضْحَت لندن تضيق كلما تَخطَّت الحيرة حدود الاحتمال وفاض الألم عن الحاجة، أوقدت المرأتان نيران ألهيام بهما على حدٍ سواء، لم يخطط للوقت الذي سيأتي وينظر حوله ليجد امرأتين تتناحران في أعماقه، واحدة تسحقه جسدياً والأُخرى تشتت أفكاره، حتى تقي ذاته انخرط معه من غير إرادة في متاهة القرار وانْغمس في البحث بدون أن يَتّحد معه، صار كالترس الصغير يدور في ترس كبير من غير أن يؤثر في إيقاع الدوران. كانت هناك شيري لا يبدو أنها تتلاعب به بعد أن تَجَلّت له في وجه فتاة تَتَحد معه في الأيقونة التي رسمها لحياته، كان قراره منذ اللحظة التي عاشرها وهشمت عفته المكبوته وأطلقت فجوره بلا حدود، ليس من الممكن تصور الحياة بدونها كما لا يمكن تصو الحياة بلا الموسيقى والهوى، هذا ما عبر به لوالده عشية مناقشتهما قرار البقاء أو الرحيل عن بريطانيا بعد كل هذا الوقت الذي قضاه تقي هناك ودفعه مجبراً للبوح بما كان يختزنه حتى بلغ به الأمر للمطالبة بإخلاء سبيله.
"لا أَرْغَب ولا أُحبذ أن أُدْفَن في لندن.
زرعت تلك العبارة ابتسامة على وجه سفيان صباح اليوم التالي عندما زاره في فندقه، كان مشغولاً بارتداء قميصه بعد أن خلع القميص الذي يرتديه واسْتَبدله بالآخر فيما كان الأب يتناول الشاي في شرفة الغرفة وقد لاحت أشعة الشمس قوية على غير العادة هذا الصباح.
"صفحة عمرك تنبئ بأنها طويلة أبي، لا تستأثر بانتباهي فيما أنا أواجه مصيري لأول مرة بهذه الشراسة، هل نسيت تقي أنَك مررت بمصائر عدة وضعتك على حافة قارعة الدنيا؟ لا تضغط عَلَيَّ أبي حتى لا أُرْغَم على العودة للمكان الخاطئ.
أطفأت تلك العبارة البريق من حول عيني الأب، أهمل بقية الشاي أمامه وأخرج سيجارة وأشعلها حتى جاءه على الفور صوت سفيان وقطع عليه التدخين.
"لا تكثر من الدخان بسببي.
رد الأب مباشرة
"حتى لا تشعر بالذنب؟
أحس سفيان بنزعة لِلانْكفاء نحو طفولته ليستنبط بعض الذكريات تعينه على تجاوز محنة التفكير، بدا الأب منطوياً وكأنه أتخذ خيار الانعزال عن المشاركة الشعورية مع الابن الذي أدرك للتو قسوة أن يبدو الرجل أمامه حيادياً بعد كل الوقت الذي قضاه معه هنا في لندن وشاطره معاناته، لقد اسْتَمد منه احتمال الحياة هنا بعد أن ظل فترة محروماً من دفء الأسرة الذي أغدقه عليه تقي، لا يحتمل صمته الآن ولا خروجه من اللعبة وهذا ما حَرَّضه على استفزازه حتى يجره للعودة لطبيعته في مشاطرته أفكاره ومشاعره.
"أحب شيري وأحب أنجيلا، ماذا أفعل؟
نهض الأب وخرج من الشرفة فيما لاذ الآخر بنظراته نحو الفضاء، ظهر في الأفق سرباً من الطيور يعبر، تحول الطقس بارداً قليلاً وأشعة الشمس حادة عند حافة الشرفة، تأمل السماء مع لحظة عبور تقي مرة أخرى عائداً، حاملاً كأس شمبانيا بارداً وبدت فقاقيع السائل تتفاعل بداخله، وقف عند الحافة بجانب ابنه واحتسى من الكأس وسط نظرة تعجب وبعض الاسْتنكار من الابن.
" في الصباح تشرب؟ منذ متى تقي؟
"منذ كنت بعمرك، عادةً في الصباحات أتناول الخفيف، ليس هذا الموضوع.
صمت برهة ثم اسْتأنف من دون أن ينظر لولده.
"لو كنت مكانك غادرت المكان حالاً وذهبت لشيري وطلبت منها العيش معي، أما أنجيلا فلن تعيش طويلاً كما فهمت ومن السخرية بالقدر أن تفقد الإثنتين، اهرب لشيري، واترك مسافة للأخرى يتكفل بها الزمن، لن تلومك ولاشك ثمة من يهتم بها، لا تشعر بالذنب فأَنتَ ستعيش مع من سَتَبقى ولن ترحل مع أنجيلا، لا تخسر الدنيا بشرائِك ما وراءها، لقد الْتَمسّت مني الكلام ولن أُكرر رأيي لك، لا تجفل من الاختيار، دربك واضح ولا يحتاج للتردد، شيري هي الحياة وأنجيلا اسْتنفدت وقتها، هذه الحقيقة سفيان وأنا أُقيسها بعمري مع الزمن وليس بمنظورك تجاهه.
تناول رشفة من الكأس ووضعه على الطاولة وعاد يربت على كتف ابنه وقال بنبرة من يحمله على الإصغاء.
" إسمع سفيان، عندما أردت الاحتفاظ بجيني ابنتي لم يدر بخلدي أن تكون والدتها معها، أردت في البداية ذلك لكن حينما ضاقت المساحة قررت التضحية بالأم والاحتفظ بالابنة.
زاغت عينا سفيان وهو يستمع لوالده، شعر بأن الرجل جَنَحَ عن صلب الحديث، بدا له وكأنه يتاجر بأرقام وحسابات مالية، رأى فجأة وجه تقي رجل المال والأعمال والمصالح وتساءل في داخله هل يأخذ بهذه الرؤية في تأسيس حياته العاطفية والإنسانية؟
"تتكلم عن أنجيلا وكأنها قطعة في شركة مفلسة حان وقت دفنها، أبي نحن بصدد إنسانة قدمت لي الكثير وجعلتني أحتمل العيش هنا بقدر ما أُريد، لا تجعل رؤيتك للمال تُفقدك حسك بالحياة، لهذا السبب تقي لم تعش مع جوري ولا مع إفيلين.
ابتسم الأب وهز رأسه بعيداً، لاحت له على بعد أشباح يراها وحده ولا يجرؤ على التصريح بها، كانت نجوم في السماء وأشجار على الأرض وأطفال يلعبون على ساحل المحرق وبينهم أولاد وبنات حفاة يركضون في الوحل، زادت ابتسامته ولم يعِ بأن ابنه راح يحدق فيه حتى انتبه أخيراً لنظراته ترمقه بذهول.
"ماذا؟
تساءل الأب وكأنه اسْتيقظ للتو من غفوة مباغتة داهمته خلال وقوفه على الشرفة وانسحابه من المكان لمكان آخر.
"أبي كنت في مكان وزمان لا علم لي بهما، أين فَرَرت؟ ألتمس منك ألا تحمل نفسك عبئي معك، كنت أبحث عن رأيك وليس عن حسابات بنكية، لا أريد أن أجلد نفسي كما فعلت أَنتَ في حياتك، تقي أرجوك خِفْ من حسابات الربح والخسارة واكتشف أن الدنيا التي تحملها فوق ظهرك منذ سبعين عاماً أخف من ريشة في الهواء.
رشق حائط الشرفة بكأس الشمبانيا الذي تهشم وهو يبتسم وقال بنبرة مرحة .
"مرحي سفيان، إذن ابق حائراً ما بين واحدة تمنحك الحياة لستين سنة قادمة وأخرى سترحل بعد شهر، مرحي سفيان لا تسألني بعد ذلك ماذا تفعل؟ لأني سَأُجيبك، مشكلتك سفيان أَنكَ تُقيس كل شيء في العالم بالوقت ولا تعلم بأن الوقت وحده ملكك ومع ذلك تفرط فيه.
وضع يده على رأسه كما لو يَصْرف الأفكار بداخله، أدرك الأب وهو يُحَدق إليه مدى التشويش الواقع فيه، سارع بالضغط حتى يدفع به لتسديد وجهته.
"عندما أَحْضَرتُ إفيلين للبحرين للمرة الأولى كنت أرغب في بقائها معي لكن حينما الْتَقيت بشفيقة والدتك وكانت بيننا أعمال ولم تخلُ أيضاً من مغامرة سددت وجهتي وحددت طريقي وعرفت خياري ومع ذلك احْتَفَظت..
قاطعه سفيان بنبرة سريعة قاطعة مصحوبة بابتسامة مقتضبة.
"بجميلة.
تبادل الاثنان النظرات بصمت ثم علق الأب قائلاً بنبرة هي الأخرى قاطعة.
"كان لابد من دفع مبلغ كبير للأم ولابد كذلك من تغيير الاسم، وصية جدك عبدالحيم ليلائم البيئة، كان عمرها سنة وشهرين رعتها شفيقة بعد زواجي منها. ما أرمي إليه ابني، للمرة الألف أُبلغك، اخْتار الحياة وأمضِ في طريقك الطويل.
"شيري؟
لفظ سفيان اسمها بنبرة قانطة فَرَدّ الأب بنبرة قاطعة.
"طبعاً.
انتفض الابن تناول معطفه الذي كان ملقى على طرف المقعد وضع علبة السجائر في جيبه وتهيأ للخروج.
"حسناً تقي، سأرى ما بوسعي فعله من دون إراقة دماء.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن