من يكتب التاريخ ؟

محمد البسفي
basfynews777@gmail.com

2020 / 6 / 16

(هناك قول شائع، يقول: "إن التاريخ له آذان، ولكن ليس له عيون" - بمعنى أننا نسمع روايات عما جرى من وقائعه منقولة لنا بالسماع والتواتر عن هذا أو ذاك من الناس، ومعظمها مكتوبة بأثر رجعي يخلط الوهم بالحقيقة إلى درجة تتركنا مع نوع من الفولكلور الأسطوري يُعذبنا كثيرًا فرزه إذا كان ذلك الفرز ممكنًا على الإطلاق ! وصحيح أننا نصادف في بعض المرات وثائق مكتوبة، ولكننا نجد أنفسنا حائرين أمامها لا نستطيع أن نقدر بالضبط أصالتها وظروفها ومدى تعبير ما فيها عن الواقع كما جرى).
السير "ستيفن رانسيمان"، أستاذ التاريخ بجامعات "كامبردغ" و"أكسفورد".

من يكتب التاريخ ؟.. المنتصر أم الشعوب ؟.. أم الاثنين معًا؛ بمعنى أن الطبقة المنتصرة داخل شعب ما هي التي تستأثر بكتابة تاريخه وتحتكر مرويات ماضيه، والحال كذلك.. بالطبع ليس من الضروري أن تكون الطبقة المنتصرة هي الطبقة الغالبة عدديًا أو حتى إنتاجيًا من ذاك الشعب، حيث أن فعل الانتصار لا يشترط تلك الفرضية وإن كان تاريخيًا، في العادة، يناقضها.. لتكتب الأقلية تاريخ الأغلبية حتى ولو لم تساهم في صنعه !
وتبقى إشكالية مهمة كتابة التاريخ - ومنهجية تدوينه فيما بعد - جدلية كبيرة، رغم كل تلك المحاولات الدؤوبة والمتحمسة من قِبل العديد من كُتاب ومثقفين وأكاديميين لحسمها وتقديم الإجابات الشافية لها، إلا وأنها على ما يبدو ستظل جدلية مفتوحة.. للنقاش وللمزيد من الآراء.. نظرًا لكونها، ولطبيعة الأمور التي جعلتها كأي إشكالية جدلية أخرى، محملة برؤى متباينة ومنظورات من زوايا متعددة وألوان متشعبة..
في الحيادية والإنحياز..
بداية؛ ورغم رؤيته لمصر خاصة بأنها قد تفردت بظروف بيئية خاصة تميزها على البلاد العربية، إلا ويعترف المؤرخ، الدكتور "رؤوف عباس حامد"، بوجود أزمة منهجية تعانيها كتابة التاريخ العربي عامة يُرجعها إلى عدة عوامل؛ من أهمها: "غياب الوعي بوظيفة التاريخ، والنقص في ثقافة المؤرخ، وإختلاط المفاهيم عنده، وسوء التقدير لأدوات الكتابة التاريخية".
ومع الفقر الذي تعانية دراسة مناهج البحث في العلوم الإنسانية عامة، والتاريخ خاصة، جاءت أغلب الكُتب القليلة المتاحة في البحث التاريخي إما مترجمة أو مُصاغة من أفكار كُتاب أوروبيين بعينهم، والمترجم والمؤلف فيها يعكس التأثير بليبرالية القرن التاسع عشر وفلسفتها ورؤيتها للكون، ولذلك لا نجد تحديدًا علميًا واضحًا لـ"وظيفة التاريخ" في تلك الكُتب التي أثرت؛ ولازالت تؤثر في أجيال متعاقبة من المشتغلين بكتابة التاريخ. مما نتج عنه - في نظر "عباس" - خلط في تناول التاريخ والاهتمام بالتطور السياسي مثلًا وتغليبه على ما عداه وربط التغييرات الاجتماعية والاقتصادية بالممارسات السياسية؛ مما أفقد التاريخ نفسه وحدته العضوية. لذا يقدم "رؤوف عباس" التاريخ على أنه "دراسة لحركة المجتمع من شكل معين إلى شكل آخر نتيجة ما يلحق ببنيته الأساسية من تغير ينعكس على بنيته الفوقية وتلك وظيفة التاريخ، فهو يتتبع عملية التطور في المجتمع، فيرصد التغيرات الكمية في البنية الاقتصادية وما يترتب عليها من تغيرات كيفية يكون لها تأثيرها على البنية الاجتماعية، وما يفرزه هذا التغير من آثار على البنية السياسية وعلى الأفكار. وبعبارة أخرى يُعالج التاريخ المجتمع باعتباره كائنًا عضويًا يتغير من حال إلى حال نتيجة عوامل موضوعية".
ويرجع المؤرخ المصري ما يراه من نقص في ثقافة كُتاب التاريخ وإرتباطه بالفهم الخاطيء لوظيفته؛ إلى عدم الاهتمام الأكاديمي العربي، في برامج دراسة التاريخ، بدراسة العلوم المساعدة التي يجب أن يتزود بها دارس التاريخ الذي يفترض فيه الإشتغال بالكتابة التاريخية. "فبدون قدر كافٍ من المعرفة الاقتصادية والاجتماعية لا يستطيع المرء أن يكون مؤرخًا على الإطلاق، لأن بذلك يفقد القدرة على تحليل الأرضية التي يرتكز عليها أي مجتمع من المجتمعات ولا يتسطيع أن يضع يده على عوامل الحركة والسكون فيه، ولا يقدر على فهم حركة التغير التاريخية وتقييمها ومحاولة تفسيرها". ونفس الشيء يمكن أن يقال على كافة العلوم الإنسانية المساعدة الأخرى. "فليست وظيفة المؤرخ سرد الحوادث فحسب ـ بل عليه أن يفسرها ويضعها في إطارها الصحيح من تطور المجتمع. ولا يمكن أن ينجح المؤرخ في مهمته إلا إذا تزود بالأدوات التي تُعينه على أداء العمل على الوجه الأكمل".
ونفس ذلك القصور ينسحب أيضًا على مناهج البحث، المرتكز الأساس للمشتغل بالتاريخ، والتي يقتصر اهتمام الجامعات العربية بشأنها في "النواحي التقنية للكتابة التاريخية، ككيفية إعداد خطة البحث، وكيفية استشارة المراجع، وضبط الحواشي، وإعداد قوائم المراجع والمصادر. واستخدام الملاحق، وغير ذلك من أمور تتصل بشكل الكتابة التاريخية وليس بمضمونها وموضوعها. فلا يتعلم طلاب التاريخ شيئًا عن النقد التاريخي، وأصول الكتابة التاريخية، والتفسير والأسس التي يقوم عليها، ولا يدرسون شيئًا عن فلسفة التاريخ والمدارس المختلفة لتفسير التاريخ، وإذا درسوا بعضها كان الإنحياز واضحًا لمدارس معينة وغالبًا ما تُحرز المدرسة المثالية ومدرسة الحوليات قصب السبق من اهتمام الأساتذة وتُحاط المدرسة المادية بالغموض والبهتان، وإذا درست كان تدريسًا - غالبًا من موقف النقد لا من موقف التحليل" (1).
وربما من أشهر من استغرقته المدرسة المثالية الليبرالية في التأريخ، هو المؤرخ العراقي، "د. سيار الجميل"، حينما أراد إجاز رؤيته في أسلوب التدوين التأريخي بقوله: "قد ألمح وحدد وأقر أكثر من مؤرخ وناقد؛ أسلوب كتابة التاريخ ونزعة الأخلاق والأمانة والتجرد عن الهوى وعن الذات في تسجيل المادة التاريخية وتوثيقها مهما كانت طبيعتها، سواءً كانت مادة سياسية أم إدارية أم عسكرية أم اقتصادية ... إلخ، وطالما كانت هناك ثمة مطالبات واشتراطات على أن يأخذ الكُتاب، مهما كانت طبيعة تخصصاتهم، ومهما كانت حقول معرفتهم، ومهما تنوعت أساليب ثقافاتهم، أن يأخذوا بالقيم المقررة والمعهود بها في عرض المادة التاريخية؛ كما يُطالب بذلك المتخصصون في علم التاريخ وتطبيقاتهم التوثيقية من خلال الأرشيف" (2).
ويقر "سيار"، في مؤلفه (تفكيك هيكل)، بثمة اشتراطات أخرى لابد من أن تتوفر عند كل من كتب في التاريخ المعاصر المعتمد على الوثائق الأرشيفية.. ومؤهلات أساسية تكشف عن تفكير نقدي وعن تحرٍ علمي؛ "يسعى الباحث والمؤرخ الحقيقي دومًا إلى كشف الحقيقة مهما كان ثمنها باهظًا.. ولكن من طرف آخر، طالما كان، (مؤرخ السلطة ومثقفها)، مندمجًا مع أغراضها وقد تربى على أساليبها، وتأدلج على طواياها.. إذ غدا أحد منتجاتها وحلقة في دوائرها، فإن ثمة علامات استفهام ستوضع أمام عمله ذلك لأن هنالك علاقة بينه وبين مؤسسته تسحبه إليها بعيدًا عن وجه الحقيقة، بل وتوظفه لإختلاق الأحداث وتصوير الوقائع ورسم المواقف وإيجاد التبريرات والحكايات والروايات.. وجميعها لا أصل لها من الصحة ولا حقيقة لها.. إن مؤرخًا يفتتن بالتعامل مع صُناع الأحداث ويروي عنهم بطولاتهم أو يسهم بالتشهير بهم عن عمد وسبق إصرار، فلا يمكن أبدًا الإعتماد على ما ينتجه ويكتبه أبدًا..". متفقًا في هذا المبدأ الحاد مع المؤرخ اللبناني المخضرم، "أسد رستم"، الذي أكد عليه كمنهج بحثي في التدوين والتأريخ ضمن مؤلفه (مصطلح التاريخ).
وبهذا المنطق يستبعد "سيار"، ومن سلك دربه من مؤرخي مدرسته، الشهادات والذكريات الشخصية التأريخية من التدوين التأريخي مما يُعد قصورًا مخلًا في منهجية تلك المدرسة، من حيث التحليل والإستنباط، حيث يُعتبر أبناءها أنه من "أسوأ منتجات التاريخ والتدوين التأريخي أعمال أولئك الذين يرتبطون إتباطًا عاطفيًا ومصلحيًا وذاتيًا وشخصيًا بالسلطات وذوي السلطان ويحسبون أنفسهم من توابع الهيئة الحاكمة، فمهما حاولوا الإبتعاد عن روابطهم العاطفية والشخصية والسلطوية ما برحوا لا يؤدون الأمانة الحقيقية في كتابة التاريخ". وبرغم الصدق الظاهري في هذا المنطق؛ إلا وأنه يقفل الباب أمام المؤرخ دون شهادات رجال وشخصيات عصر تأريخي ما يتعرض له المؤرخ بالتحليل والدرس والبحث، متحوطًا وملمًا بأنه يأخذ من أقوال "رجل دولة"، مُحمل بآمال ومصالح متفرقة ومتفرعة.
ورغم ذلك يرجع "سيار"، ليُقر في عرض توضيح منهجه العلمي، بأن: "لابد لنا أن نفكر كثيرًا فيما نقرأه والوقوف وقفات مطولة نفكر فيما نقرأ ونحيط أنفسنا علمًا بالنص، (أو: النصوص)، وأن لا نستوعب النص ونعجب به ونؤمن بما جاء فيه بشكل مطلق.. قبل أن نحاوره ونسائله ونشكك في مضمونه !.. ومن هنا يتطلب من المثقف العربي الذي يهوى التمتع بأسرار عصره وخفايا زعمائه.. كما تتطلب ثقافتنا التي تعيش على ما يدور في مجالسها وندواتها ومجتمعاتها.. تلك العقلية النقدية التي تتربى على المنهج النقدي والذي يقوم على مجموعة من المفاهيم الذهنية وسلسلة من القواعد والتطبيقات الإجرائية والتي يمكن أن يتعامل معها أي مثقف عربي متوازن العقلية وواقعي التفكير: تعاملًا حواريًا وفكريًا وإقامة جدلية من نسق حي بين النص والعقل، وبين المروي والواقع، وبين الموثق وغير الموثق، وبين المسند وبين القال والقيل.. إلخ، بحيث يستطيع هذا القاريء أن يكتشف جملة من الأشياء والأمور التي كانت غائبة عنه بمعزل إن كان يميل لهذا الكاتب أو لا يميل إليه.. وبمعزل أن يكون القاريء معجب بما يكتبه المؤرخ أم لا.. وبعيدًا إن كان هذا المثقف يرى في إسهاب هذا الكاتب من عدمه، فهناك من الكُتاب والمؤرخين والمفكرين من يبقى قرابة عشر سنوات أو أكثر يشتغل بدقة وتركيز وأتعاب من أجل إنتاج عمل معين له رصانته وقوته" (3).
ويستمر في توضيح منهجه النقدي، قائلًا: "إن الأساليب والأدوات ستغني المنهج النقدي العربي في رصد الأوهام والأكاذيب والتلفيقات والإدعاءات.. وإخراجها أو محاولة إخراجها في سياقات التاريخ. وما دامت هذه العقلية النقدية والرؤية المنهجية قد زرعتا في التفكير العربي، فإنهما ستتطوران يومًا بعد يوم..".
مستعرضًا، "سيار"، ركائز أساسية يمكن من خلالها الاستفادة بمنهج نقدي عربي فعال يملك رؤية تحليلية جدلية في قراءة المدونات التأريخية :
1 - تأسيس منهج واضح للمعلومات المحددة، التي يُشترط في كتابتها اشتراطات عديدة لا تقتصر فقط على التوثيق المعروف؛ وإنما تتناول وتتعلق بقدرة أولئك المدونين على كبح جماح رغباتهم وعواطفهم وعلاقاتهم عندما يكتبون الحقائق. أي بمعنى دقتهم وتركيزهم وأمانتهم في كتابة المعلومات؛ مهما اختلفت مع وجهات نظرهم، بحيث يتعذر على القُراء والمختصين وضع علامات استفهام على تلك المدونات.
2 - تسجيل الحقائق والمعلومات في لحظتها التاريخية، أي مراعاة التوقيت الزمني ومراعاة البيئة الجغرافية وتوضيح ذوي العلاقة دون توزيع الاتهامات أو فضح الناس أو إلقاء التهم أو إطلاق الأحكام جزافًا على زعماء ومسؤولين ورجال ونسوة ملكات ومؤسسات ليس هناك روابط حقيقية بينها جميعًا؛ لأن ذلك سيولد ريبة عند القاريء وسيجعله يضع جملة من علامات الاستفهام حول النصوص كونها تمثل نزعة سالبة أو هدامة إذا ما كانت خالية من التوثيقات.
3 - من جانب آخر؛ إذا ما لم يحاول صاحب المدونات أن يثبت بشهادات وقرائن وأمثلة وتوثيقات على ما يتهم البعض به؛ لأنه ليس سلطة نهائية، ولأنه سيتوضح أو سيبدو أمام الآخرين أن ثمة أشياء في نفسه يريد التعبير عنها أو زرع صور مشوهة ونقلها إلى الأجيال القادمة.
4 - لا يمكن إقحام الذات في الموضوع، مهما كانت درجة أو مكانة صاحب المدونات، اللهم إلا في حالة كتابة المذكرات الشخصية. أما عندما يكتب المؤرخ والمدون والكاتب والصحافي والسياسي وغيرهم، أي مدونة ستكون ملكًا للأجيال القادمة. فعليه قدر الإمكان أن يبعد نفسه وذاته إلا بالقدر الذي يجده مناسبًا، كمساهمة منه في صنع قرار أو مساهمة منه في إصدار قانون أو تغيير مسيرة أو تأسيس مؤسسة.. إلخ.
5 - وحتى هذه؛ لابد أن تستعيد من النصوص، لكي توضع في الهوامش بمعنى أن صاحب المدونات عليه أن يبعد ذاته عن الموضوع، وخصوصًا عندما يعالج موضوعات رئيسة مهمة، إستراتيجية على قدر كبير من الأهمية، والتي تشترك في صنعها هيئات ورجال ومؤسسات؛ فلا يمكن له أن يكون كشخص يتحرك داخل النصوص ويسبغ على نفسه هالة من الإعجاب والاهتمام والمكانة السياسية والقيمة الاجتماعية حتى يقال أنه كان يحرك التاريخ هنا ويوقفه هناك !! (4).
ويحاول المؤرخ العراقي المخضرم تلخيص رؤيته لكتابة التاريخ بأنها: "معرفة تقوم على أسس منهجية دقيقة وركائز نقدية صارمة في التوثيق والتحليل والتعليل والإستبطان والمعلولات والتضمينات والمقارنات والنتائج والاستنتاجات.. ولا يمكن للمؤرخ أن تتداخل عنده – وخصوصًا عندما يكتب في التاريخ المعاصر ويسجل مدونات للأجيال القادمة – الأهواء السياسية والنزوعات الإيديولوجية..".
وهكذا يعود "سيار الجميل"، كما أبناء مدرسته التأريخية، ليخلط بين مبدأ التجرد العلمي كمفهوم علمي يعتبر أساس منهجي لا غنى عنه في كافة العلوم الإنسانية، ووهم الحيادية المثالي الليبرالي الذي لا يتحقق سوى في رأس من يؤمنون به،ولا يميز بين التجرد العلمي والموضوعية الممنهجة، أو كما أوضحذلك الفارق الكاتب الصحافي والمؤرخ المصري، "صلاح عيسى"، مقدمًا لأحد أعماله قائلًا: "إنني فيما أجتهدت في فهمه من ظواهر التاريخ المصري والعربي، كُنت بقدر الطاقة موضوعيًا، لكني لم أكن أبدًا محايدًا، وذلك ما كان واضحًا أمامي وأنا اختار تلك الومضات، فقد حرصت على أن أروي الواقعة كما حدثت بقدر ما تسعفني المقارنة بين الروايات المختلفة للحدث الواحد، وتلك هي الموضوعية كما أفهمها، لكنني رجحت دائمًا، تلك الروايات ضد أعدائه،(أعداء الشعب)، ومستغليه، فالحياد بين الشعب وبينهم، كان دائمًا – في منظوري – خيانة قبيحة وصريحة" (5).
التدوين التأريخي والإيديولوجيا..
من منظور آخر أحدث؛ أكثر دقة علمية وعملية، يعتقد المؤرخ الهولندي، "رول ماير"، أن البحث العلمي والإلتزام السياسي ليس بأمرين متناقضين. فكل كتابة تاريخية - سواء كانت غربية أو مصرية - كتابة إيديولوجية إلى درجة معينة، لأن أساسها الزمن والمكان والطبقة. وعليه، فإن إدانة المنهج المصري لكتابة التاريخ لأنه منهج إيديولوجي أمر يظهر إفتقارًا إلى معرفة الذات، بالإضافة إلى أنه يجانب النقطة الرئيسة.
"ففي بلد مثل مصر، ليس المؤرخون بأناس يشتغلون بأبحاثهم معزولين عن سائر المجتمع. فأكثرهم مشترك اشتراكًا شديدًا في التطورات السياسية، وينعكس هذا في أعمالهم، والحقيقة أن هذه المشاركة السياسية هي التي تجعل الدراسات التاريخية مثيرة للاهتمام بدرجة كبيرة، وذلك لأن المنهج المصري لكتابة التاريخ - نظرًا لطبيعة صفته العلمية - لا يأتي فقط بنظرة عميقة جديدة إلى العمليات التاريخية، وإنما يلقي أيضًا - بسبب إرتباطه السياسي - ضوءًا جديدًا على العمليات الإيديولوجية الخاصة بالتيارات السياسية الحديثة التي ينتمي إليها المؤرخون المصريون. والصراع السياسي لا يتعلق فقط بالتطورات اليومية أو بالإتجاه الذي ينبغي أن يتخذه البلد في المستقبل، بل يتعلق أيضًا بالماضي. فكل تصور للمستقبل مبني على تصور للماضي. وبسبب طبيعة أعمالهم ذاتها، يضطر المؤرخون أن يسندوا هذا التصور المستقبلي عن طريق دعم الموقف الإيديولوجي للتيار السياسي الذي ينتمون إليه. يعملون هذا بقيامهم بالبحث التاريخي وبالتنقيب عن المادة التاريخية، وبنشرها في كتب ومقالات بمجلات وصحف حزبية. وسوف يكون المضمون العلمي لما يكتبون على مستوى من التخصص رفيع أو بسيط طبقًا للوسيلة التي يختارونها. فالعلاقة المتبادلة بين البحث العلمي والإيديولوجية هي التي تقدم المفتاح لإدراك المنهج المصري لكتابة التاريخ" (6).
يشترك المؤرخون في هذه الحوارات السياسية بإعتبارهم باحثين علميين؛ وكذلك كأعضاء في المجتمع ملتزمين سياسيًا. وتوحي الطبيعة المزدوجة للمؤرخ أن هذين الجانبين فيه يتطابقان تطابقًا حتميًا. فكل كتابة تاريخية إيديولوجية - لدى "ماير" - بمعنى أنها تتم في فترة معينة ومكان معين وتمثل آراء طبقة معينة.
وبدورها، تنعكس هذه العوامل الإيديولوجية إنعكاسًا أضيق في إيديولوجية التيارات السياسية. والمدى الذي يتأثر به المؤرخون بهذه التيارات السياسية يحدد المضمون الإيديولوجي الأضيق لعملهم. ولا يتضمن هذا أن العلم والإيديولوجية السياسية أمران متناقضان، بل يوحي فقط بأنه من المحتم أن تكون الموضوعات التي يختارها المؤرخون والتفسير الذي يقدمونه للتطورات التاريخية، وكذلك تناولهم ووجهة نظرهم النظريان العامان - نقول أن يكون هذا كله متأثرًا بالإيديولوجية السياسية. ولا يحدث إلا في بعض الأحوال القليلة أن يصبح هذا التأثير غير مشروع، وهو عندما يصير العلم خاضعًا تمام الخضوع للإيديولوجية السياسية. ففي هذه الأحوال يفقد المؤرخ قدراته النقدية، ويكفَ عن أن يكون باحثًا علميًا. الأغلب أن يحدث هذا عندما يكون تطور أو حادث تاريخي معين مثيرًا للخلاف إلى الدرجة أن صلاحية الإيديولوجية التي ينتمي إليها المؤرخ تبدو غير أكيدة. ويتوقف هذا أيضًا على الوسيلة التي يختارها المؤرخ لنشر أفكاره.
لذا فقد رأى الباحث، "رول ماير"، النشر والتدوين التأريخي، في ثلاث مستويات مستقلة: "المستوى العلمي، والمستوى الصحافي، والمستوى الدعائي". وكل منها يحدد نسبة الخلط بين المضمونين العلمي والإيديولوجي الأضيق. وعليه، فالمؤرخون يقوَون بشكل عام التيار السياسي الذي ينتمون إليه بواسطة عملهم العلمي. غير أنهم يصيرون إيديولوجيين هم أنفسهم عندما يخضع عملهم العلمي هذا، كل الخضوع، لمصالح التيار السياسي الذي يناصرونه. ويتوقف هذا على درجة الخلاف التي يثيرها الموضوع وعلى الوسيلة التي يختارها المؤرخ لنشر رأيه (7).
ويلحظ "ماير" ميل المؤرخين الغربيين إلى تجاهل الدراسات التاريخية المصرية أو إلى إحتقارها كلية.. وأحد أسباب هذا الموقف هو الطابع الإيديولوجي لهذه الدراسات. وطبقًا لما يقوله المؤرخون الغربيون، فالمؤرخون المصريون يشاركون في السياسة مشاركة تفوق الحد، الأمر الذي لا يسمح لهم بالوصول إلى التجرد الضروري الذي يتطلب البحث التاريخي الموضوعي. ولهذا الرأي ما يبرره جزئيًا. فبطبيعة الحال أن أغلب المؤرخين الغربيين ليسوا بصورة عامة بمشاركين مباشرة في السياسة المصرية. وعليه؛ فلن تكون أعمالهم متأثرة بعوامل سياسية مثلما استمرارية التيارات السياسية، ناهيك عن قيامهم بدور في السياسة المصرية. العنف الذي يهاجم به "رفعت السعيد"؛ مثلاً، "الإخوان المسلمين" أمر غير متصور في الكتابات التاريخية الغربية. وعلى الإجمال، فالمؤرخون الغربيون يظلون بمعزل عن هذه النزاعات السياسية الداخلية. وكذلك ليس من المتوقع أن يصف المؤرخون الغربيون الاستعمار بنفس الطريقة التي يصفه بها المؤرخون المصريون. من المؤكد أن الغربيين قد ينقدونه نقدًا شديدًا ويدينونه، ولكنهم لا يستطيعون أن يشعروا إزاءه بنفس مشاعر المصريين الذين عاشوا فعلاً في ظله.
غير أن التجرد الأكبر الذي يتصف به المؤرخون الغربيون إزاء التاريخ المصري ليس ضمانً الوجود موضوعية أشد لديهم، رغم أن هذا ما قد يبدو في النظرة الأولى. فبشأن نضال الوطنيين المصريين ضد الاحتلال البريطاني، كثيرًا ما يؤدي البحث عن الموضوعية من طرف المؤرخين الغربيين إلى موقف محايد في نزاع ليس فيه محل للحياد؛ المؤرخون الغربيون الذين إتخذوا هذا الموقف يؤسسون عادة رأيهم في الحركة الوطنية على وثائق "وزارة الخارجية البريطانية"، وهي عبارة عن تقارير مرسلة إلى هذه الوزارة من موظفين بريطانيين كبار يعملون في مصر. بهذه الطريقة؛ كان التحيز غير القليل الموجود لدى المسؤولين البريطانيين ضد الحركة الوطنية المصرية، يتسرب إلى الأعمال التاريخية الغربية، فوفقًا لرأي "إيليك دوري"، مثلاً كان دستور 1923 - المعتمد على "نموذج بلجيكي" - غير مناسب على الإطلاق لـ"مصر"، لأن المصريين بطبيعتهم غير ديمقراطيين وغير قادرين على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. وقد تكون مصادر أخرى للمعلومات مضللة بالدرجة نفسها. فبعض المذكرات واليوميات التي كتبها ساسة مصريون بارزون أمثلة على ذلك. وتبدو هذه الكتابات موضوعية مادامت الحقيقة أنها كُتبت بمعرفة مصريين. غير أن الإنطباع الذي تعطيه هو أن جميع الساسة المصريين غارقون تمامًا في النزاعات القائمة بين بعضهم البعض وفي المشاجرات الداخلية، الأمر الذي يحرف النظر كليًا عن النزاع الجوهري الذي بين الحركة الوطنية وبين المحتلين البريطانيين (8).
ويسوق "ماير"؛ أحسن مثال لهذا القصور؛ والذي نجده في عمل "عفاف لطفي السيد-مارسو"، عن تاريخ الحركة الوطنية في فترة 1922 - 1936. فهذا العملي عتمد إلى درجة كبيرة على يوميات "فتح الله بركات"، وهو سياسي كان عضوًا في "هيئة الوفد"، (قيادة الوفد الأعلى)، ولكنه استقال منها لأنه أعتبر زعيم الوفد - "مصطفى النحاس" - جذريًا أكثر من اللازم !.. وتقبل "عفاف لطفي السيد-مارسو" هذه الأفكار دون نظرة نقدية إليها وتنقلها في كتابها دون أن تتساءل في حقيقة الأمر إذا كان "النحاس" فعلاً بتلك الدرجة من الجذرية التي يصوره بها "فتح الله بركات". يستطيع المرء أن يستنتج من هذه الأمثلة القليلة أن المنهج الغربي لكتابة التاريخ ليس بأكثر موضوعية من المنهج المصري، غير أن مزالقه من طبيعة مختلفة وينبع أغلبها من أفكار مسبقة للغرب عن الشرق. ويمكن أن تؤدي هذه الأفكار المسبقة إلى إقرار الاحتلال الاستعماري بشكل غير مباشر. ومن المستطاع التغلب على أو جه القصور هذه بدراسة الكتابات التاريخية للمؤرخين المصريين دراسة أكثر تأنيًا.
بطبيعة الحال؛ لا يمكن أن تهتم الدراسات التاريخية المصرية بالحياد، بل على نقيض ذلك، تميل هذه الدراسات إلى أن تذهب الناحية الأخرى وأن تشجب كل معارض للحركة الوطنية أو كل صوت مخالف فيها بإعتبارها ستعماريًا ورجعيًا أو فاشيًا. لكن المنهج المصري لكتابة التاريخ أثار، على العموم، أسئلة أفضل عما أثاره المنهج الغربي بشأن "مصر". ولأن فترة 1936 - 1952 تعتبر من تلك الأهمية الحيوية في التاريخ المصري الحديث، وبسبب اشتراك المؤرخين المصريين ذلك الاشتراك العميق في السياسة، فقد جرت بين مختلف التيارات السياسية حوارات مثيرة للإهتمام الشديد. وخلال هذه الحوارات أثيرت أسئلة مثل ما هي السمات المميزة للمجتمع المصري في تلك الفترة، وما كانت التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلالها، وكيف آثرت هذه التطورات بعضها على بعض ؟.. وتبرز في هذه الحوارات، بروزًا كبيرًا، العلاقات السياسية والاقتصادية بين "مصر" و"بريطانيا العظمى"، والملكيات الزراعية الكبيرة، وصعود البورجوازية الصناعية المصرية والبروليتاريا.
القوة الناعمة والذكية في تلويث التأريخ..
ورغم كل هذا الجهد الأكاديمي والبحثي للخروج بأسس ومناهج علمية مجردة أو موضوعية للتدوين التأريخي، تبقى النظم السياسية الحاكمة – بما تملكه من مقدرات وآليات وقدرات – تهوى اللهو بلعبة التزييف والتشويه الممنهج للتاريخ كإحدى مقومات إستراتيجياتها الأساسية.. ووسط المناخ الإقليمي والعالمي الحالي الذي يعيد أجواء "الحرب الباردة"، التي استغرقت النصف الثاني من منتصف القرن الماضي وحتى نهايته، بل وفاقتها في تعدد المعسكرات والتكتلات الدولية المتصارعة مع تصعيد ظاهرتي الإرهاب والحروب بالوكالة، مما أشر إلى تغير كامل في طبيعة النظام الدولي وبالتالي قضاياه مما أقتضى تغيير الأدوات السياسية بما يتلائم مع الأهداف والمصالح الحقيقية للدول، ومن ثم إتخذت القوة أشكالاً متعددة من "القوة الصلبة"؛ الممثلة في الأداة العسكرية، إلى "القوة الناعمة"؛ ممثلة في الثقافة وترسيخ الإيديولوجية، إلى "القوة الذكية"، التي مزجت بين "الصلبة" و"الناعمة" لتصبح من أكثر الأدوات السياسية تأثيرًا في السياسة الخارجية للدول، والتي تعول عليها العديد من قوى العالم في التأثير داخل الدولة الهدف.
فقد عّرف الباحثون "القوة الناعمة" على أنها: "هي القدرة على الهيمنة والسيطرة على المقدرات الثقافية والإيديولوجية للطرف المستهدف، حيث تتضمن إجبارًا وإلزامًا غير مباشرين على التغيير والتأثير على الرأي العام، دون إظهار هوية الفاعل ولا الهدف الأساس من عملية التغير".. ويمكن تعريفها على إنها "قدرة طرف ما على التأثير والجذب تجاه الطرف الآخر دون استخدام أي شكل من أشكال العنف، من أجل الحصول على الأهداف أو النتائج التي يسعى لتحقيقها أحد الأطراف".
وتعني في جوهرها مجالات "الثقافة" و"الفن"؛ علاوة على إعلائها العديد من القيم السياسية، ما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والثقة فيه ثم إتباعه (9).
وتتجسد مصادر "القوة الناعمة" في ثقافة المجتمع، والقيم السياسية، (المقبولة داخليًا وخارجيًا). ومن أبرز الأسباب التي حددها الدارسين لظاهرة "القوة الناعمة"، للتحول الدولي من مفهوم "القوة الصلبة-hard power"، إلى "القوة الناعمة-soft power"، هي: "بروز دور الفاعلين من غير الدول في النظام العالمي، حيث أصبحت أدوارهم تتعدى حدود الدول؛ كما أن أهدافهم ليست قاصرة على السياسة الداخلية للدولة فحسب، بل أصبحت ذات تأثير واضح على النظام الدولي، تأتي في مقدمة هذه الفواعل التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، والشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات الحقوقية وغيرها".
كما مثل "تقديم حملات للإغاثة في مواجهة الأزمات والكوارث"، من ضمن الآليات أو الأساليب لكيفية توظيف "القوة الصلبة" وتحولها إلى "قوة ناعمة"، وقد برز هذا الدور مع الثورات العربية، حيث قدمت الدول الخليجية العديد من المساعدات والمنح والحملات الإغاثية لكل من سوريا والعراق واليمن في أعقاب الحروب الدائرة.
فحينما ظهر الاهتمام بمفهوم "القوة الناعمة"، منذ ثلاث عقود على يد الأميركي، "غوزيف ناي"، الذي يُعرفها على أنها: "استخدام وتوظيف قوة الثقافة والقيم الأخلاقية والسياسية لتغيير الأوضاع السائدة في مجتمع ما". فقد عدها الكثير من الباحثين والأكاديميين "حجر الزاوية في تشكيل الوعي والتفكير الجمعي للشعوب".
وتذكر "آية عبدالعزيز"، الباحثة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وشؤون الأمن القومي، أن "السينما المصرية"، كمثال، أسهمت فى عهد "عبدالناصر" بإنتاج 936 فيلمًا، بمتوسط إنتاج سنوي 52 فيلمًا، اهتمت في موضوعاتها بانتقاد الحياة الاحتماعية والاقتصادية والسياسية قبل الثورة، وأشهرها (رد قلبي)، و(صراع في الوادي) و(الأيدي الناعمة)، كما أنتجت السينما العديد من أفلام الأدب المصري الأصيل؛ بعد أن كانت تعتمد على الإقتباس من القصص والأفلام الأجنبية. واهتم "أنور السادات" بالقوة الناعمة المصرية، فبرغم من أنها لم تلق نفس مستوى الاهتمام الذي حظيت به في العهد الناصري، إلا أن القيادة السياسة استمرت في لعب دورًا بارزًا في دعم الفنون والسينما عبر تخصيص يومًا للاحتفال بعيد "الفن" تكريمًا للفنانين، كما ركز "السادات" على توظيف هذه القوة في سياساته الخارجية، خاصةً أثناء تحضيره لزيارة إسرائيل، حيث رغب في معرفة رد فعلهم لهذه الزيارة، لذا فقد طالب الفنان، "عمر الشريف"، بالتحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، "مناحم بيغن"، ليخبره برغبته في زيارة إسرائيل والاستفسار عن رد فعلهم على هذه الزيارة، بالفعل تحدث "الشريف" ،لـ"بيغن"، وأعلمه بزيارة "السادات"، لكنه يود أن يعرف كيف ستستقبله، وأجابه "بيغن": "سنستقبله كمسيح".
وترجع "عبدالعزيز" أسباب تراجع الدور المصري في مجال استخدام "القوة الناعمة" الآن، إلى:
• تراجع الدور المصري على المستوى الإقليمي، بل والدولي، منذ بداية عهد الرئيس الراحل، "أنور السادات"، نتيجة توجه القيادة السياسية للاهتمام بتعزيز "القوة الناعمة" على المستوى الداخلي وليس على المستوى الخارجي؛ لإرتباطها بالنظام السياسي المصري في ذلك التوقيت.
• تأثر الثقافة المصرية بالعولمة وثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي إنعكس عليها بشكل سلبي أفقدها طابعها الخاص، الذي يجمع بين المعاصرة والحفاظ على الهوية بجذورها الثقافية والدينية والتاريخية في إطار مقبول دوليًا وإقليميًا.
• هروب الكفاءات والعقول المصرية المبدعة، نتيجة تراجع اهتمام الدولة بتوفير المطالبات اللازمة لهم، بالتزامن مع وجود دول جاذبة لهذه الكفاءات؛ جاءت على رأسها الدول النفطية في منطقة الخليج.
• ظهور قوى إقليمية منافسة تسعى إلى بسط سيطرتها وإمتداد نفوذها داخل الدول العربية من خلال "القوة الناعمة" تجلى في النموذج التركي، الذي حاول أن يروج لنفس باعتباره النموذج الأمثل للإقتداء به من خلال توظيف الأداة الإعلامية والفن والأدب التركي للتأثير على الثقافات الأخرى.
والجدير بالذكر؛ "تركيا" تحتل المرتبة الثانية عالميًا بعد "الولايات المتحدة الأميركية"؛ من حيث الدراما الأكثر انتشارًا، إذ صدرت الأعمال الدرامية التركية إلى 142 دولة حول العالم، عام 2016. كما عرضت 75 مسلسلاً تركيًا على الشاشات العربية، عام 2016، بإجمالي إيرادات بلغت 600 مليون دولار، وارتفع متوسط سعر الحلقة الواحدة من المسلسلات التركية في العالم العربي من 500 دولار، عام 2007، إلى 50 ألف دولار عام 2017. (10)
كما ذهبت مجموعة من الباحثين أيضًا إلى توصيف "القوة الذكية" كتطوير لاحق لـ"القوة الناعمة"، وتم تعريفها بأنها: "تلك القوة التي تربط بين القوة الناعمة والقوة الصلبة، فه يتلك القوة التي تجمع في سياستها بين الجاذبية والشدة، الإرغام والإغراء، حيث يمكن تحقيق الأهداف عن طريق "القوة الناعمة" من خلال الجاذبية الثقافية أو السياسية أو الإعلامية... إلخ، للدولة لإقامة علاقات مع الحلفاء، وتقديم المساعدات الاقتصادية، والتبادل الثقافي مع الدول الأخرى، وكذلك عن طريق "القوة الصلبة"، والممثلة في القوة العسكرية بالحرب المباشرة، وترجمتها السياسية بالمضايقة عبر الهيئات الدولية والإقليمية، وترجمتها الاقتصادية بسبل الضغط والمقاطعة والحصار، التي غالبًا ما تمارسها هذه الدولة على تلك، أو تدفع الآخرين لممارستها عليها. مع التلويح الدائم بإمكانية استخدام القوة" (11).
حيث قدم "غوزيف ناي"، أيضًا، مفهوم "القوة الذكية"، في 2003، كرد فعل على المغالطة بشأن الفكرة السائدة أن "القوة الناعمة" يمكن أن تعمل وحدها لتحقيق أهداف السياسة الخارجية وضرورة الانتقال للمعنى الأوسع والأشمل للإستراتيجية وتطويرها لتشمل "القوة الناعمة" و"القوة الصلبة" معًا، وذلك ليكون أكثر مواكبة للسياق والتطورات الدولية المختلفة، بحيث لا يمكن الاستغناء عن أي من نوعي القوة.
وإن انتشر مصطلح "القوة الناعمة"، اليوم، عبر وسائل الإعلام والدعاية المحلية والدولية بمفهومه الإيجابي، فلم تنجح تلك المحاولات التجميلية في إخفاء مفهومه العلمي كونه آلية نافذة في التحكم والسيطرة على تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه التفكير المجتمعي تحت مظلة العولمة الاقتصادية/الثقافية تديرها مؤسسات وأجهزة وشركات متعددة الجنسية وعابرة للقوميات والإيديولوجيات.
بالتوازي مع الاستعدادات الحثيثة لعقد قمة رؤساء الدول والحكومات في الحلف الأطلسي، (الناتو)، التي استضافتها العاصمة البولندية، "وارسو"، في ربيع 2016، شنّت حملة إعلاميّة ضخمة، غرضها الأساس إثارة الخوف من الأعمال والمخطّطات العدوانيّة الّتي يزعم أنّ روسيا تُعدّ لها. والحرب على الذّاكرة - على حد تسمية الباحث، "ماتيوس بيسكورسكي" - تمثّل جزءً من هذه الحملة طويلة المدى. وهنا، يحسن بنا أن ندرك أنّ إعادة تقييم الوقائع التّاريخيّة ونكران دور "الاتّحاد السّوفياتي"، في الانتصار العظيم سنة 1945، أمر له قاعدة تاريخيّة وسياسيّة ما في دول البلطيق ورومانيا، حيث اختار كتّاب "التّاريخ"، في الحلف الأطلسي، أن يستندوا مباشرة، كلما كان ممكنًا، إلى الحركات المحلّيّة المتعاونة مع النّازيّة، وإظهار أنشطتها على أنّها نماذج تمثّل "النّضال من أجل الاستقلال" في مواجهة "الاتّحاد السّوفياتيّ".
وقد وقعت مقاربة الوضعيّة بطريقة مختلفة في "بولونيا"، حيث من الصّعب جدًّا إيجاد أسس للأطروحة القائلة إنّ التحرير لم ينقذ الشّعب البولوني من المجزرة الهتلرية. فإعادة توظيب التّاريخ الحديث وقعت نسيقها من قبل هياكل عموميّة، منها "المعهد البولوني للذّاكرة الوطنية". وكلّا لأنشطة تهدف إلى تجنّب التّنافر المعرفيّ بشكل يجعل سكّان أوروبا الشّرقيّة لا يستطيعون رؤية المعالم التاريخيّة وتذكّر تحريرهم من ألمانيا النّازيّة من قِبل "الجيش الأحمر"، وهو أمر يعني ضمنيًا أنّ روسيا هي العدوّ الأبديّ، وهي المعتدي.
فإعادة توظيب تمثّل الوقائع التّاريخيّة تشكّل جزء من هذه الحرب طويلة المدى، وهو مشروع معقّد جدًّا. فمن المستحيل أن يبلغ هدفه خلال الشّهرين اللّذين يسبقان هذه القمة. ومع ذلكف هناك مجهودات أخرى يمكن القيامبها (12).

..............................................................
المـصــادر :
(1) د. رؤوف عباس حامد - (كتابة تاريخ مصر.. إلى أين ؟ : أزمة المنهج ورؤى نقدية) - دار الكتب والوثائق القومية 2009.
(2) د. سيار الجميل - (تفكيك هيكل.. مكاشفات نقدية في إشكاليات محمد حسنين هيكل) - الأهلية للنشر والتوزيع - الأردن - الطبعة الأولى 2000.
(3) د. سيار الجميل - (تفكيك هيكل ...) - مرجع سابق.
(4) د. سيار الجميل - (تفكيك هيكل ...) - مرجع سابق.
(5) صلاح عيسى - (هوامش المقريزي.. حكايات من مصر - المجموعة الثانية) - دار القاهرة للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1983.
(6) رول ماير - (الدراسات التاريخية المصرية المعاصرة عن فترة 1936 - 1952.. بحث في الطابع العلمي والسياسي للمنهج) - ترجمة: أحمد صادق سعد - دار شهدي للنشر - 1985.
(7) رول ماير - (الدراسات التاريخية المصرية المعاصرة ...) - مرجع سابق.
(8) رول ماير - (الدراسات التاريخية المصرية المعاصرة ...) - مرجع سابق.
(9) آية عبدالعزيز - (القوة الناعمة في مصر من أين إلى أين ؟) - مركز البديل للتخطيط والدراسات الإستراتيجية - 20 آب/أغسطس 2017.
(10) آية عبدالعزيز - (القوة الناعمة في مصر من أين إلى أين ؟) - مصدر سابق.
(11) رشا العشري - ("القوةالذكية" الأميركية تجاه الشرق الأوسط.. هل تغيرت من "أوباما" إلى "ترامب" ؟) - صحيفة (كتابات) الإلكترونية - 16 آب/أغسطس 2017.
(12) ماتيوس بيسكورسكي - (الحرب على التّاريخ حملة طويلة المدى من قبل الحلف الأطلسيّ) - شبكة فولتير - 14 حزيران/يونيو 2016.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن