ستيج داجرمان .. أو الحياة المضعوطة

سعود سالم
Saoudsalem@sfr.fr

2020 / 5 / 12

على طوال التاريخ وجد نوع من البشر ذوي وعي وحساسية مرهفة تجاه العالم والأشياء وتجاه العلاقات البشرية المعقدة. ومنهم من يجتاز هذه الحياة كالنيازك، تحترق في خلال لحظات بفعل السرعة والإحتكاك بالمحيط الذي تجتازه. وفي أغلب الأحيان ينتمي هذا النوع من الرجال والنساء لعالم الفن، حيث يذوبون وينصهرون كالشمعة التي تحترق من الجانبين. ومن هؤلاء سانت إكزوبيري، أرثور رامبو، أبوللينير، جون كييتس، لوتريامون، وغيرهم من الشعراء والأدباء والرسامين. ولابد أن نذكر الشاعر السوري المنسي : عبد الباسط الصوفي - 1846 - 1870 وديوانه اليتيم "أبيات ريفية". والكثير من هذه الشخصيات الخلابة والمعذبة من لا يعرفه إلا المتخصصون في الدراسات الأدبية والفنية ويختفون نهائيا من المكتبات الخاصة ومن المكتبات العامة، وأحيانا لا يعرفه أحد خارج حدوده الجغرافية. كاتب ومن هؤلاء كاتب وشاعر من السويد أجتاز العالم بدوره في سرعة البرق وعاش حياة كثيفة مركزة ومختصرة. فعلى مدار خمس سنوات، 1945-1949، حقق نجاحًا هائلاً بأربع روايات، ومجموعة من القصص القصيرة، وكتاب عن ألمانيا ما بعد الحرب، وخمس مسرحيات، ومئات القصائد والمقالات الساخرة، والعديد من المقالات السياسية والإجتماعية والأدبية وكمية كبيرة من التحقيقات الصحفية. ثم، فجأة، صمت كامل، حتى خريف عام 1954، حين فوجئت السويد ذات صباح خريفي بالعثور على ستيج داغرمان، مثال جيل من الفنانين والكتاب، ميتًا في سيارته : لقد أغلق أبواب الجاراج وأدار المحرك.
‏ Stig Halvard Dagerman ستيج هالفارد داغرمان (5 أكتوبر 1923 - 4 نوفمبر 1954) كان أحد أبرز الكتاب والصحفيين السويديين الذين ظهروا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، رواياته ونصوصه المشوبة بطابع الوجودية والأناركية تتجاوز الزمان والمكان ويستمر نشرها على نطاق واسع في السويد وإن كانت شهرته محدودة في الخارج، ولعدم وجود أية معرفة لهذا الكاتب بالعربية - حسب معلوماتنا -، فإننا سنحاول في هذه المقالة القصيرة التعريف به وبأهم أعماله.
ولد Stig Dagerman في Älvkarleby عام 1923، في مقاطعة أوبسالاUppsala County الواقعة على بحر البلطيق شمال ستوكهولم، من والدين غير متزوجين، وقضى طفولته في مزرعة صغيرة في ألفكارليبي Älvkarleby، حيث عاش مع أجداده من ناحية والده. أما أمه فقد تركت المزرعة بعد ذلك بوقت قصير، ولم تعد أبدًا، ولم يرها مرة أخرى إلا بعد ما كان في العشرينات من عمره. والد داغرمان، عامل يومي متنقل، استقر في النهاية في ستوكهولم. انضم إليه ابنه ستيج هناك في سن الحادية عشرة. من خلال والده، تواصل داغرمان مع الأناركية وتعرف على مبادئها الأيديولوجية وممارساتها النقابية والنضالية، وانضم إلى اتحاد الشباب النقابي. في التاسعة عشرة، أصبح رئيس تحرير صحيفة الشباب المسماة بـ "العاصفة - Storm"، وفي الثانية والعشرين تم تعيينه محررًا ثقافيًا لـ Arbetaren -"العامل"، والتي كانت صحيفة يومية ناطقة باسم الحركة النقابية. في هذا الجو الفكري لعالم الصحافة، التقى بزملائه من الكتاب وطور أسلوبه في الكتابة وميله للمجادلة والتناظر. بالإضافة إلى الافتتاحيات والمقالات، كتب داغرمان أكثر من 1,300 verses أو قصيدة قصيرة كانت تنشر يوميا، أغلبها سخرية وتعليق على الأحداث الجارية مشوبة بطابع تقدمي وإجتماعي، تندد بالفقر والظلم ـ مثلا قصيدة عن موت طفلين وجدا مجمدين بالبرد في المدينة المقدسة "روما" في ليلة عيد ميلاد المسيح - وقصائد تندد بالحرب والفكر العسكري والأفكار الرجعية والسلطوية عموما. وقد اعتبر هذه الصحيفة "Arbetaren" بمثابة "مسقط رأسه الروحي".
وقد تم توسيع آفاق داغرمان السياسي والفكري بشكل كبير من خلال زواجه في عام 1943 من آن ماري جوتز Annemarie Götze، لاجئة ألمانية تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا. كان والدها فرديناند Ferdinand ووالدتها إيلي Elly، من الأناركيين النقابيين البارزين، أضطرت الأسرة للهروب من ألمانيا النازية لتجد نفسها في قلب الحركة الثورية في برشلونة. عندما سحق الفاشيون الإسبان بقيادة الجنرال فرانكو بوحشية التجربة الاجتماعية الأناركية النقابية هناك، هربت العائلة Götzes ثانية عبر فرنسا والنرويج وجيش هتلر والجستابو في أعقابهم، إلى السويد المحايدة والتي منحتهم اللجوء السياسي. عاش داغرمان وزوجته الصغيرة مع أقاربه، ومن خلال هذه العائلة، والتدفق المستمر للاجئين الذين مروا عبر منزلهم، تمكن داغرمان من الإحساس بنبض أوروبا والتعرف على التوجهات السياسية والإجتماعية وتكوين فكرة عامة عن الجو المشحون لهذه الفترة الشديدة الإضطراب.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن