قضية التراث 2

سيف الدولة عطا الشيخ
eseifata@gmail.com

2020 / 5 / 3

eseifata@yahoo.com
2------3
قضية التراث
قراءة في كتاب "نحن والتراث" لمؤلفه د.محمد عابد الجابري
دار الطليعة بيروت الطبعة الثانية يناير 1982م
مدخل:
كان المدخل إلى تراثيات د. حسن حنفي, من خلال ما حدده من مواقف ثلاث: الموقف من التراث الإسلامي العربي, والموقف من التراث الغربي الأُوروبي, والموقف من الحاضر القائم. وما خرجنا به من ذخيرة تراثية يتلخص في الأصل الإسلامي (الكتاب والسنة) وتفسيرات هذا الأصل باعتبارها المادة المطلوب تجديدها. بهذا الحلم كان د. حنفي, يحاول سحب الحاضر إلى ماضي هائم في سماء الوحي. وحتى لا تكون هناك أي ثغرة يمكن من خلالها أن تتسرب الفلسفة الغربية كعامل خارجي للتحرر, عمد د. حنفي, إلى الزج بـ " الكوجيتو الديكارتي" داخل اليقين الإيماني, وبهذا يمكن لتأملات ديكارت الشكية أن تتقارب مع منهج الإمام الغزالي المدمر للفلسفة, وبالتالي يكون إنسان هذا الجزء من العالم قد فقد فرصة الوجود العقلاني سواء في الداخل أم في الخارج, وليس أمامه إلاّ الذهاب إلى ما أنتجه السلف من علوم فقهية وبتجديدها يستطيع أن ينجو من هاجس الهوية. إذن, علينا وللبحث عن الإنسان المتميز بالعقل وحسن الاختيار أن نتجه صوب مفكر تراثي آخر فربما نعثر على أملٍ في اكتشاف عقل عربي متواري خلف النصوص التراثية. وفي اعتقادي أن المفكر المغربي العربي " محمد عابد الجابري " هو الأنسب لهذه المحاولة. فقد عُرف عنه أنه مفكر وناقد العقل العربي؛ غير أننا هنا لا نبحث في ثلاثيته النقدية وإنما في علاقته مع التراث وذلك من خلال كتابه " نحن والتراث ". وفي الأحيان يدخل كتاب " فصل المقال ما بين الحكمة الشريعة من إتصال ".
مع " الجابري", ستنقلب المعادلة فبدلاً من " الإسلام العربي " تصبح العبارة "العربي الإسلامي ". فالبحث هنا لا عن ما تجود به السماء وإنما ما أنتجته أرض القبائل ومن بلورة القومية العربية في مواجهة القوميات المتنافسة في الحضارة الكلية عربية كانت أم إسلامية. بناءاً على هذا التوضيح يكون المقصود من " نحن " – العرب - و" التراث", هو العربي الإسلامي. ولتثبيت هذه المعادلة يتحرك البحث للكشف عن "حلم" الفارابي العربي في أنتاج عقل عربي خالص, ثم خروج ابن سينا لتحطيم هذا الأمل وذلك عن طريق توظيف التراث الفارسي غير العربي؛ ولاحقاً يكون التوجه غرباً لنري محاولة ابن رشد في إعادة بناء الأمل.
يبدأ " الجابري" بتوضيح القراءات التراثية وكيف أنها لم تتمكن من كشف ما بين السطور؛ذلك أنها كانت في معظمها قراءات سلفية تقدس الماضي؛ ولقوة هذا التأثير لا يكاد هذا النمط من القراءة أن يأتي بأي جديد. هذه القراءة السلفية تتجه دائماً لتأخذ من النصوص ما يتناسب مع سلطة الوصايا الأبوية وأيديولوجيتها المانعة للتحرر والوعي. للخروج من هذه القراءة الإسقاطية, يذهب الجابري إلى القراءة المعرفية, فهي ولحيادها يمكنها أن تسمح بإدراك ما وراء السطور؛ إنها قراءة منهجية نقدية وفي ذات الوقت, وحتى لا يحدث إسقاط للذات, فإن هذه القراءة وفي عملها تحاول الإمساك بالذات بعيداً عن الموضوع.
فهل التزم الجابري بالحياد المنهجي أم أنه سقط كما ذاك الأيديولوجي السلفي؟ .. لنترك هذا السؤال معلقاً ونذهب مباشرة إلى تبيان هاتين القراءتين.

ألقراءة الأيديولوجية:
يعزو " الجابري" هذه القراءة إلى التيارات السلفية دينية كانت أم غير ذلك. تتجه هذه القراءة إلى التراث لإحيائه "واستثماره في إطار قراءة أيديولوجية سافرة, أساسها إسقاط صورة " المستقبل المنشود " المستقبل – الأيديولوجي, على الماضي "17. فقد ارتسم في ذهن أصحاب هذه القراءة أن الواقع قد انحرف عن سنن السلف, وللعودة إلى الطريق القويم لابد من إرجاع ما هو قائم إلى الماضي ورميه في حوض السلف لتطهيره من رواسب " عصر الانحطاط... وتقليد الفكر الغربي "17. ومن جهة أخرى تحاول هذه القراءة السلفية بناء أسوار من صخور المحرمات والممنوعات وكل ما يساعد هذا الكائن التراثي في البقاء داخل دائرة الماضي.
في ذات الإطار السلفي, ولو أنه أقل عنفاً " ينظر الليبرالي العربي إلى التراث العربي الإسلامي من منصة الحاضر الذي يحياه, حاضر الغرب الأوروبي "75. هذا الواقع المعرفي, وكما يري " الجابري " يمثل " النظام الفكري المتكامل الذي تكوّن في القرنين السابع عشر والثامن عشر والذي حاربت به الطبقة البرجوازية الأوروبية الفتية,أفكار الأنظمة الإقطاعية "75. ولتأثير الليبرالي العربي بنمطية سلفيته الموروثة أصبح مقدِساً للمرجعية الأوروبية, ولا يرى في تراثه " إلاّ ما يراه الأوروبي "17. ونتيجة لهذه المفارقة التراثية ظهرت إشكالية التباعد والتباين الثقافي, إذ " كيف يمكن للفكر العربي المعاصر أن يستعيد ويستوعب العقلانية و "الليبرالية " في تراثه ويوظفها توظيفاً جديداً في نفس الاتجاه الذي وُظِفت فيه أول مرة "75. فكما يرى " الجابري " أن المنظور الفرنسي الديكارتي أو ذاك الأنجلو سكسوني قد نتجا من صراعات مع الإقطاع وقدسية ملوك كانت تحميهم خرافات وغيبيات رجال الدين؛ وبعد مواجهات ومحاكم تفتيش خرجت العلمانية لتقصي الكنيسة وتحجم السلطات العليا وكانت الثمرة الكبرى تحرر الإنسان من كامل الوصايا ومن ثم ظهر مفهوم " الذات " لتتبعه العلوم الإنسانية. أما الواقع العربي فإنه لازال يدور هناك في غياهب الخرافة والوصايا الدينية وسلطة أنظمة حاكمة مختلطة ما بين النمط القبلي والعصابات العسكرية؛ إذاً لا تطابق وإنما حلم سلفي يهيمن على معظم مثقفي التقليد الديني والليبرالي.
في الجانب اليساري, ومثل سلفه السابق, فإن " الجابري " لا يرى أن القراءة هنا قد خرجت عن النمط التقليدي العام, فهي لا تتبنى " المنهج الجدلي كمنهج لـ" التطبيق" بل تتبناه كـ" منهج مطبق", وبناءً عليه يكون التراث العربي الإسلامي انعكاساً للصراع الطبقي من جهة, وميداناً للصراع بين " المادية " و " المثالية " من جهة أخرى؛ وعلى ذلك تصبح مهمة هذه القراءة اليسارية مرتكزة على تعيين وتحديد مواقع الصراع " المضاعف"21. ولاكتمال نجاح المنهج تقوم هذه القراءة بتفعيل الواقع التاريخي عل قوالب النظرية "21؛ وعندما تفشل عملية المطابقة يكون الخطاء في " التاريخ العربي غير المكتوب" وليس النظرية أو تطبيقها, فالماضي " الماركسي " لا يقل قدسية عن تفاسير وشروحات السلف الصالح.
إن هيمنة هذا النمط السلفي وكما يرى " الجابري " يعود إلى أن الفكر العربي الحديث والمعاصر’ هو في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية, ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه " الحلول " الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل "27.
فهل استطاع " الجابري " الخروج من الدائرة المقدسة؟.

قراءة الفصل والوصل:
في محاولته للابتعاد عن القراءة السلفية, يبدأ " الجابري " بتضييق الدائرة على القارئ العربي مشيراً على أنه قاري مؤطر بتراثه مثقل بحاضره ... بمعنى أن التراث يحتويه احتواء يفقده استقلاله وحريته "31. فالقارئ العربي وعند قراءته " لنصوص تراثه, يقرأه متذكراً لا مكتشفاً ولا مستفهماً "31. ومن الصحيح جداً أن التراث يشكل خبرة الماضي, ولكن هناك فرق بين خبرة متجددة فاعلة وخاضعة باستمرار للمراجعة, وبين خبرة متوقفة عن النمو منذ قرون, إنها خبرة تفصلها عن الحاضر " مسافة ثقافية طويلة" وعليه لا يمكن أبداً أن تكون عملية التذكر هنا قفزاً إلى الأمام وإنما خمول نحو الماضي. ... فجأة, ومن شوائب هذه المنطقة تتجلى " الذات – الجابرية "والتي يجب, وبفصلها عن رواسب الموضوع السماح للقراءة المعرفية, أن تكشف الستار عن ما تحت النص التراثي. غير إن عدم وضوح نوعية هذه " الذات " يؤدي إلى غموض في معنى الفصل المطلوب. ولكن وقبل أن نتوه في دوران الفصل والوصل ينبهنا " الجابري " أن ما يدعو إليه " هو التخلي عن الفهم التراثي للتراث, أي التحرر من الرواسب التراثية في عملية فهمنا للتراث "29. ومن هذه الرواسب ذلك القياس الميكانيكي المستخدم في النحو والفقه في صورته الآلية اللاعلمية والتي تقوم على ربط جزء بجزء ربطاً ميكانيكياً "29. ف "الجابري " يريد تفكيك الكل وفصل أجزائه عن إطارها الزمني – المعرفي – الأيديولوجي "29. ولذلك فإنه يرى ومن أجل قراءة علمية معاصرة, يتوجب التخلي عن هذه الرواسب وغيرها من المفاهيم المنحدر من " عصر الانحطاط ".
يأتي الشعور بأن " الجابري " سيستخدم " الإرجاء " أو " التعليق " الفينومينولوجي, ومن ثم التوجه قصداً إلى ظاهرة التراث’ غير أن الأمر ليس كذلك, فالجابري يبحث عن قطيعة معرفية " أبستمولوجية " إجرائية تمكنه من فصل الذات عن الموضوع الكلي وبعد تفصيله وتميز الأجزاء عن بعضها وبعد القراءة الكاشفة تعود الذات المتحررة لدمج الكل في شكل خطاب يعكس الحقيقة الفعلية لموضوع التراث. إذاً, ليس المقصود بالقطيعة الفصل التام وإنما " نوع من العلاقة مع التراث "29.
إن ضرورة هذا الفصل تعود إلى أن ما هو ظاهر على السطح لا يمثل الكل التراثي, فهناك ما ضنّ به الفلاسفة على غير أهله, فلم يصرحوا به, ولم يتعرضوا إليه إلاّ تلميحاً أو رمزاً أو من وراء حجاب "37. لهذا, ومن أجل الكشف عن حقيقة النص توجب على " الذات القارئة " فصل ذاتها عن دائرة الجذب التراثي, ومن ثم بناء أُفق مغاير تستطيع من خلاله تلك العناصر المختفية الاندفاع حرة نحو السطح. لنجاح هذه العملية لا يتحدث " الجابري " عن مناهج تأويلية ولا يرجع إلى جذرية مفردات النص والبحث عن دلالتها حين كتابة النص الأصلي, فقط يكون " الحدس " هو العامل الذي يمكن أن يجعل " الذات القارئة في تعانق وترابط مع الذات المقروءة فتعيش معها اشكاليتها ومشاغلها وتحاول أن تطل على استشرافاتها "35. هذا " الحدس " ولكي يصل إلى هذه النتيجة لابد من أن يكون حدس رياضي أداتي ووسيلة لكشف الطريق واستباق " النتائج وسط حوار جدلي بين الذات القارئة, والذات المقروءة "35. فمن معطيات الموضوع " تتمكن الذات القارئة, من قراءة ما سكتت عنه الذات المقروءة, ووسيلتها في ذلك ما في النص من علامات, ومن جملتها ما يختفي وراء سياق التفكير ويتستر وراء مناورات التعبير "36. هنا, يمكن أن " تُقرأ المقدمات بنتائجها, والماضي بمستقبله " وما كان بما " كان سيكون " فيندمج الموضعي مع الأيديولوجي ويتحول " المستقبل – الماضي " الذي كانت الذات المقروءة تتطلع إليه, أي " المستقبل – الآتي " ... الذي تجري الذات القارئة وراءه ..."36.
بعد هذا الدوران بين " ذات " الحاضر و " ذات – الماضي ", نتوجه إلى المسطح الذي يمكن أن يكون مسرحاً للحوار.


الأمل الفارابي:
ما أن نلفظ مفردة " تراث " إلاّ ويتبادر إلى الذهن مفهوم " الماضي " ومباشرة يظهر الأُفق التاريخي ويمكن أن يتحدد بشيئين اثنين : الحقل المعرفي الذي يتحرك فيه التاريخ, والمضمون الأيديولوجي الذي يحمل هذه المعرفة " أي الوظيفة السياسية والاجتماعية التي يعطيها صاحب أو أصحاب ذلك الفكر أو تلك المادة المعرفية "42. ولمقارنة هذا التكوين يشير " الجابري " إلى أن في بعض الأقاليم الفلسفية يتفاعل المحتوى المعرفي مع الأيديولوجي وذلك بفعل تداخل التطورات الاجتماعية بأسباب تقدم العلم, هذا واضح في الفلسفة اليونانية وما أنتجته من تواصل معرفي ووعي أيديولوجي بدءاً من " طاليس " إلى " أرسطو ", وفي ذات المنحى فإن الفلسفة الأوروبية قد تواصل جدلها الديالكتيكي المتفاعل والمتطور الملازم لحركة مجتمعها المرتبط بالعلم الدائم الإنتاج. أما في " ما ندعوه بـ "الفلسفة الإسلامية " فإنها " لم تكن قراءة متواصلة ومتجددة باستمرار لتاريخها الخاص... كانت عبارة عن قراءات مستقلة لفلسفة أخرى هي الفلسفة اليونانية ... قراءات وظفت نفس المادة المعرفية لأهداف أيديولوجية متباينة "44. ومع ذلك, وبالرغم من هذا التقطيع في القراءات, إلاّ أن معالجات الفلاسفة الإسلاميين كانت تتجه نحو مقصد واحد, وهو " ما يُعبر عنه عادة بـ " التوفيق بين العقل والنقل "وقد كانت فرقة المعتزلة هي من مهدت إلى هذا المفهوم وذلك من خلال شعار " العقل قبل ورود السمع "43؛ وبالطبع تُعد هذه أولى المحاولات لاستبدال سلطة تلقينية إلى أخرى جدلية يحس فيها الإنسان بكينونته العقلانية الفاعلة, الشيء الذي أصبح مع " المدرسة الفلسفية في المشرق, التي بلغت أوجها مع ابن سينا – محاولة متواصلة لدمج بنية الفكر (العلمي) – اليوناني – في بنية الفكر الديني ( الإسلامي )؛ باعتبار أن الأولى تمثل الرؤية العقلية العلمية للكون والإنسان, والثانية تمثل الحقيقة " المطلقة " وأيضاً الهوية الحضارية "43. بهذا التقسيم يمكننا أن نتصور أن هناك حقل فلسفي " ديني", وآخر ديني خالص؛ وبالطبع تلوح هنا بعض الشبهات ( الكانطية ), ولكنها لا تكاد تظهر حتى تخفيها متطلبات الوقت, ذلك أن المطلوب هنا ليس الوعي الذاتي للإنسان وإنما تأسيس سلطة معرفية موازية, وفي نفس الوقت معترف بها من جانب السلطة المهيمنة –الروحانية – والتي تمثل الجزء الأصيل في الثقافة العامة يومئذٍ؛ ولذلك كان عمل الفلاسفة يقوم على" محاولة دمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين"203. وتتويجاً لهذا الوصل يعلن " الفارابي " أن "الإسلام لا يتضاد الفلسفة ... ما في الدين هو مجرد مثالات لما في الفلسفة "102. ولإثبات هذا القول يقدم " الفارابي " قراءة مجاورة " لتطور الفكر اليوناني منذ نشأته إلى قيام المسيحية؛ قارئاً هذا التطور قراءة عربية إسلامية مسقطاً على حلقات السلسلة اليونانية صفات وخصائص, هي من صميم سلسلة التطور التي عرفتها الحضارة الإسلامية "99. هكذا, تصل القراءة الفارابية إلى رسم مثلث الفلسفة وفيه تكون الفلسفة اليونانية هي زاوية المثلث القائمة ومن ثم يتقاسم الإسلام والمسيحية الدرجات المتبقية؛ وتأكيداً لهذه النتيجة, يشير الجابري إلى رؤية الفارابي التي تقول "أن الدين الإسلامي هو الدين المسيحي وقد نُقل إلى الأمة العربية معدلاً ومصححاً "105.أم الدين المسيحي نفسه, فهو لم يكن أكثر من " النواميس النظرية والعملية التي استنبطت من الفلسفة اليونانية النظرية والعملية ليؤدب بها الجمهور "101.
يرى الجابري أن دوافع الفارابي إلى " الجمع بين رأي الحكيمين " هي محاولة لجمع آراء معاصريه؛ " أي العمل على توحيد الرؤية الدينية الفلسفية والسياسية والاجتماعية, وإزالة الشك والارتياب "95. ذلك أن الصراع والتنازع والاختلاف حول حدوث العالم وقدمه وحول قضايا ميتافيزيقية ك " أمر النفس " والعقل والمجازاة على الأفعال خيرها وشرها "90؛ هي من الأمور التي أقلقت إنسان ذاك الوقت, إضافة إلى أن مسألة " النقل " كان يهيمن عليها تيار القوى القديمة سواء الإقطاعية أو شبه الإقطاعية وغيرها من القوى المتخلفة مادياً وفكرياً في البادية والحضر "112. من هنا كانت مهمة الفارابي ومن أجل وصل هذه النزاعات في حوار فكري مع بعضها, ومن خلال ذلك يمكن إنتاج عقل يتوافق مع الدين الذي هو أصل البنية, وفي ذات الوقت يكون هذا العقل متأرجحاً ما بين الفصل والوصل. ولكن, وقبل الوصول إلى عتبات الأمل العقلاني ظهرت الأيديولوجية " السينوية ".
تحطيم الأمل العقلاني:
إذا كان الفارابي قد جاء " بمدينته الفاضلة ليعبر عن حلم تلك القوى في إقامة دولة العقل والإخاء العقلاني بعد أن ضاقت دولة الدين بنفسها "138. فبماذا جاء ابن سينا؟ وكيف كان شكل الصراع الدافع لظهور " السينوية "؟
يمكن القول ومن خلال ما قدمه " الجابري " أن عصر الفارابي يمثل نهايات التماسك العربي الإسلامي, والصراع ما بين الدين والفلسفة ما هو إلاّ انعكاساً للاختراقات الحضارية والثقافية غير العربية؛ ونتيجة لتحول المواجهة الاجتماعية من إقطاعية ضد الفقراء والعبيد, ثم صراع الأعراب البدو مع الحضر.... تحول كل هذا إلى مواجهة خفية بين أُمتين, أمة عربية حديثة النشأة, وأخرى فارسية موتورة تبحث عن ثأرها القديم؛ ولهذا كان على الدولة العباسية الفتية أن تتصدى لهذه الهجمات؛ ونتيجة لهذا الوضع المخيف تجلى حلم الخليفة المأمون. وحتى لا يدخل " الحلم " في الخرافة والشعوذة حاول الجابري أن يعبر عنه لغوياً بأنه " لم يكن حلماً بريئاً ... لم يكن من أجل أرسطو ذاته بل من أجل مواجهة زرادشت وماني "51. في هذا المناخ ظاهرياً تقدم ابن سينا مدافعاً مع الفارابي عن الفلسفة والفكر الحر, وباطنياً كان ابن سينا يرسم في خطوط فلسفته " المشرقية " النابعة من ما تبقي في ذهن القومية الفارسية المهزومة " 218. ... من هنا تبدأ قومية الجابري العربية ورفضه لحضارات الشرق غير العربية وتحميلها سبب تلاشي الحلم العقلاني. نترك الانغلاق القومي المانع للوعي الفلسفي جانباً إلى حين الفراغ من هذه العروض التراثية. ومن ثم نتجه إلى الشيخ الرئيس الذي يمثل عقلاً تم تشكيله فلسفياً وفكرياً تدفعه روح ثقافة قومية تنتمي إلى تراث روحاني يحاول الابتعاد عن دنس الجسد حتى يسهل الترقي إلى سماء العقل الفعال.
في الجانب الظاهري الفلسفي كانت منصة انطلاق ابن سينا " فارابية " بعد تعديلها؛ أم الجانب الروحاني فيتشكل مما أكتسبه منذ " نشأته الأولى من الحركة الإسماعيلية وما قدمته من علم النفس الأفلاطونية "226. وبجمعه بين منتجات المنبعين أصدر ابن سينا ما دعاه بـ"الفلسفة المشرقية ". وهي " منظومة فلسفية خاصة, هيكلها _ العلمي, الميتافيزيقي هو نفس الهيكل الذي شيده الفارابي والذي تمثل فيه نظرية الفيض العمود الفقري ؛ أما محتوى هذه الفلسفة المشرقية السينوية – محتواها الفلسفي الديني – وليس مضمونها الأيديولوجي, هو نظرية ابن سينا في النفس " 160. وكما يوضح الجابري, أن ابن سينا قد صرف كامل اهتمامه إلى النفس مهملاً شأن العقل, عكساً للفارابي الذي كان جل اهتمامه بالعقل تاركاً النفس في الظل. فإذا كانا ينتميان إلى نفس الإشكالية – كما يقول الجابري – فما سر هذا الاختلاف في التوجه الفلسفي؟
ابن سينا وفي مصادر تكوينه الفكري يقدم اعترافه الصريح بفضل الفارابي عليه, خاصة في فهم كتاب " ما بعد الطبيعة " لأرسطو؛ الشيء الذي يدل دلالة قاطعة على أن ابن سينا قرأ أرسطو بواسطة الفارابي ومن خلاله "130. وبناءاً على هذا التواصل, يتفق الباحثون المعاصرون مع المؤلفين القدامى في أن الشيخ الرئيس أبا على ابن سينا لا يختلف في أرائه الفلسفية عن الفارابي إلاّ في بعض التفاصيل والجزئيات "137. غير أن الجابري يرى" أن هذا التصور خاطئ إذا نظرنا إلى إنتاجهما الفكري من المنظور الأيديولوجي "137. ويعزو هذا الاختلاف إلى واقع كل منهما, وأيضاً إلى اختلاف التكوينات الفكرية. فالفارابي... تربى وتكون في المجتمع الإسلامي, وآمن بدين الإسلام, وتشبع بالروح الحضارية العربية الإسلامية كما عرفها عصره... "89. وفي اتجاهه إلى الفلسفة اليونانية كان مقصد الفارابي والعروبة الإسلامية, توجيه المجتمع العربي وتوحيده فكرياً وسياسياً واجتماعياً "114.
أما الشيخ الرئيس ابن سينا, فقد تخلى عن خطوط المعرفة الفارابية وقفز من فوقها متراجعاًً إلى ما قبل أرسطو, بل إنه لم يتوقف عند جمهورية أفلاطون, فقد استمر في رجوعه ليطرق أبواب " أفلاطون الإلهي " و " فيثاغورث الحكيم " وأمشاج أخرى من العلوم السرية "209. ثم, وبتلاقي هذه الذخيرة مع المذاكرة الأولى في أدب الحركة الإسماعيلية وربطها مع " رسائل أخوان الصفا ", فكانت نتيجة هذا التكوين أن انكشفت " النفس " وبها تقدم ابن سينا لهدم الأمل الفارابي.
يذهب الجابري في بحثه عن أسباب هذا العداء ألهدام إلى " أن الحركة الإسماعيلية وفي وقت مبكر ( منتصف القرن الثاني الهجري على الأكثر ) عملت على توظيف " المادة المعرفية التي نشرتها الأفلاطونية الجديدة – صيغتها المشرقية – لبناء أيديولوجية ثورية كانت تهدف إلى قلب الخلافة العباسية ... فجعلت من علم النفس الأفلاطوني كما شكلته ميتافيزيقا الفلسفة الحرانية, العنصر الروحاني " المخدر " في تلك الأيديولوجية أي العنصر الذي يحوِّلها في نفوس أتباعها إلى قوة مادية حين الثورة "226. من هذه المنطقة يتقدم ابن سينا " ليأخذ نفس " المادة المعرفية بعنصرها " التخديري "... وبإقحامه لهذا العناصر في الوعي العربي تمكن ابن سينا من تحطيم مكونات العقل, وعلى الأنقاض, أقام الشيخ الرئيس بتشييد مشروع فلسفة " قومية " صابئية حرانية إسماعيلية غير عربية يحركها الماضي, ويصدها " الحاضر " .. و " المستقبل "226.

" الجابري " وكما واضح داعية يحاول أن يكشف عن العروبة الخالصة من أي روح ( حرانية – إسماعيلية – زرادشتية ) ومن ثم إخراجها من جدل التداخل الثقافي المؤسس للحضارة الإسلامية؛ وكأنه يريد أن يبدع حضارة عربية موازية؛ وقد كان مشروع ابن سينا هو العقبة في تكوين هذا العقل الحضاري كما كان في السابق محطماً لأمل العقلانية الفارابية. فابن سينا باستدعائه " زرادشت " نبي الإيرانيين وعلى رؤية الجابري يكون - الشيخ الرئيس - وفي بحثه عن صياغة جديدة خارج أفق المجتمع العربي ذلك أن هذا المجتمع لا يتمتع بقيم الحضارة التي يسلكها المجتمع الفارسي, فأمة الفرس وبقول ابن سينا أنهم " ... أمة يهدون بالحق وبه كانوا يعدلون, حكماء فضلاء غير مشبهة المجوس, قد أحيينا حكمتهم النورانية الشريفة, التي يشهد بها ذوق أفلاطون ومن قبله"215. وهكذا, يكون قد عمل بكل جهده لإزاحة العقل العربي واستبداله بتجليات النفس المتصاعدة أبداً نحو العدل والفضيلة, وهو لا يدري بعمله هذا قد أصبح " ... من أولئك الفلاسفة الذين لم يكونوا يقدرون ما يفعلون, لقد كرّس اتجاهاً روحياً غنوصياً كان أبعد الأثر في ردة الفكر العربي – الإسلامي, وارتداده عن عقلانيته المنفتحة التي حمل لواءها المعتزلة وبلغت أوجها مع الفارابي, إلى عقلانية لا يعمل الغزالي والسهروردي وأمثالهما إلاّ على نشرها وتعميمها في مختلف الأوساط والمجالات"227.
لم يتوقف الجابري في سرد المأساة هناك, بل انتقل إلى هنا إلى وقتنا القائم ذاكراً أن " كثيراً من الأطباء والعلماء الماهرين المقتدرين ... أكثر من ابن سينا, يحملون وعياً أيديولوجياً مقلوباً, "أعمق " من وعي ابن سينا "228.
فهل استطاعت الفلسفة المغربية أن تنجح في ما فشلت فيه الفلسفة المشرقية؟........



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن