في ذكرى بشت ئاشان سيد باقي ، لتنعم روحك بهدوء الرقدة الأخيرة ، كنتَ مناضل بطل ، أنقذت رفاقك .

حكمة اقبال
hikmatgd@yahoo.com

2020 / 5 / 2

مر على حكايتي هذه سبعة وثلاثون عاماً ، اتذكرها كل عام في موعدها ، وفي غير موعدها ، واسأل نفسي ، كم من الذين عايشوها يعرفون تفاصيلها ؟ ولكني متأكد ان الرفيق الكبير سيد باقي كان يتذكرها جيدا ، وبالطبع آخرون غيره .

بعد ان احتفلنا في ذكرى عيد العمال العالمي ظهيرة الاول من آيار ، اتضح ان الوضع العسكري لغير صالحنا بعد هجوم قوات الاتحاد الوطني على مقراتنا الامامية ، وتبينت الوجهة بالانسحاب دون ان يعلن احد المسؤولين العسكريين هذه الكلمة جهارا . بدأنا الاستعدادات للانسحاب بصمت ، وقضيت مع الشهيد ضرغام والشهيد ابو سمير تلك الليلة في حرق وثائق و ورقيات المكتب السياسي والمكتب العسكري في تنور فصيل المكتب العسكري ، وتبلغت بالخروج مع مفرزة خاصة فجر يوم 2 آيار ، وفعلا خرجت المفرزة فجر ذاك اليوم من خلف مقر فصيل الاقليم صعودا باتجاه قمة جبل قنديل ، للانتقال الى الجهة الاخرى من الجبل .
المفرزة الخاصة ضمت عدداً من قيادة الحزب والكادر المتقدم ، من غير العاملين في المجال العسكري . تكونت المفرزة من اعضاء اللجنة المركزية ، الفقيد ثابت حبيب العاني ، الفقيد مهدي عبد الكريم ، الفقيد عبد الوهاب طاهر ، الفقيد سليمان شيخ محمد ( ابو سيروان ) ، الفقيد فاتح رسول ( ابو آسوس ) ، الفقيد انور طه (ابو عادل الشايب) عضو لجنة المنطقة الجنوبية ، الفقيد علي محمد جاسم ( ابو أثير ) عضو لجنة المنطقة الوسطى ، بالاضافة الى الرفيقين عضوي المكتب السياسي الفقيد عبد الرزاق الصافي وباقر ابراهيم ، والرفاق اعضاء الاقليم ابو هيوا ، مام قادر وسيد باقي والشاعر احمد دلزار ، وجميعهم في اعمار من 55 عاما فما فوق حينذاك ، اضافة الى ثلاثة رفاق من الشباب في العشرينيات من اعمارهم هم الرفيق شمال ، الرفيق شيروان وكاتب هذه السطور. كان هناك ايضا الرفيقة ام خولة زوجة الرفيق باقر ابراهيم ودليل للمفرزة من سكان قرية بشت ئاشان .
بعد مسيرة ساعتين او اكثر وصلنا الى المناطق التي لازال يغطيها الثلج حتى قمة جبل قنديل ، هنا تغير الموقف ، فقد رفض الدليل مواصلة المسيرة قائلا ومكررا ( كاكا هذا جبل قنديل ، لا يمكن عبوره في هذا الوقت ، ستموتون جميعا وانا معكم ، وانا لا اريد ان اموت فقد تركت عائلتي في القرية ) ، كرر هذه الجملة مرات عديدة وجرت نقاشات واسئلة واجوبة عديدة ، وانتهى الامر الى قرار مواصلة المسيرة دون تراجع وحتى بدون الدليل ، كانوا يعلمون ان لا مجال للعودة والامور تتجه نحو الانسحاب ، وربما هي مسألة وقت ومدى القدرة على صد الهجوم .
ظهرت قضية اخرى ، طرحها الفقيد فاتح رسول واحمد دلزار ، ان مرافقة ام خولة للمفرزة يؤخر مسيرها وعليها العودة مع الدليل ، وهنا اسجل ان الرفيق ابو خولة لم ينبس ببنت شفة ، فلن تكون حياة زوجته ورفيقة دربه بأهم من وصول المفرزة الى مكان آمن في الجهة الثانية من الجبل . وفعلا عادت ام خولة مع الدليل وقرر مام قادر العودة ايضا لانه لا يقوى على هذه المسيرة الطويلة .
هنا جاء دور الرفيق سيد باقي ، الذي تطوّع ، بعد ان سمع وصفاً للطريق من قبل الدليل ، لقيادة المفرزة . ولكن عن اي طريق نتحدث ؟ انها ثلوج على مدار النظر ، وفي كل الاتجاهات ، كان الدليل يؤشر بيديه ، من هنا الى اليسار ، ومن هناك الى اليمين وفي القمة ستجدون مقبرة ، ومن هناك تنحدرون نحو الجهة الاخرى .
وهكذا بدأنا نصعد سفح جبل قنديل الابيض ، كلما وصلنا الى قمة تظهر لنا قمة اخرى اعلى منها ، كنا نتبادل نحن الشباب المسير في مقدمة المفرزة لنفتح الطريق للبقية ، بمعنى الضغط على الثلج باقدامنا وهذا يسهل لمن بعدنا السير على آثار اقدامنا ، كان الثلج يصل الى الركبة ، واحيانا اكثر من ذلك ، وعندما نتوقف للاستراحة تكون استراحتنا وقوفا بين الثلوج التي تغطي هذا الجبل الشاهق . وفي احد الاماكن اعترض ابو آسوس واحمد دلزار على الاتجاه الذي قرره سيد باقي ، وبعد نقاش نزلا في هوة من السفح ، وعادا ادراجهما نادمين على خطأهما ، و واصلت المفرزة المسير ، بهذه الحالة حتى انتصف النهار ، حينها وصلنا المقبرة المقصودة ، ولكن ، انها ثلوج في كل الاتجاهات ، كانت الشمس ساطعة مما يزعج العين لشدة انعكاس الضوء على الثلج .
الوصول الى القمة ، والمقبرة المقصودة بعد ست ساعات من المسير ، خلق حالة من الاطمئنان بيننا ، دون ان يعلن احدنا عن ذلك ، لاننا اصبحنا بعيدين عن الخطر والمتبقي من الطريق هو النزول الى الجهة الاخرى ، والنزول عادة اسهل ، خاصة ان النزول سيخفف من مستوى الثلج المتراكم . حالة الاطمئنان ذكّرتنا باننا لم نأكل طيلة هذه الساعات الست ، وذكرّنا بسؤال : اين هي حماية المفرزة وتموينها ؟ فعند خروجنا علمنا ان هناك تكملة للمفرزة من رفاق لحمايتها وعدد من الحيوانات لركوبها اضافة الى تموين لها . وحمّل الفقيد فاتح رسول المسؤلية عن ذلك لفصيل المكتب العسكري وليس فصيل الاقليم الذي كان معنيا ، كما علمنا سابقا . كنت احمل في حقيبة على ظهري ثلاثة ارغفة من الخبز واعتقد علبة لحم وعلبة جبن ، الفقيد مهدي عبد الكريم كان يحمل كيسا من الكرزات ، الفقيد ابو مخلص كان يحمل علبتي سردين ، ولا اتذكر ما كان عند البعض الاخر ، تقاسمنا ما لدينا وبدأنا رحلة النزول ، الفقيد ابو عادل غيّر جواربه المبلولة وشعر بالدفء والفرح لانه تمكن من ذلك .
النزول كان سهلاً وهو وادي ضيق قياساً لصعودنا ، وبدأ الجميع ينزل بخطوات ليست سريعة وتباعدت المسافات بيننا ، وكل منا يقول في دواخله ، لقد انقذنا الرفيق سيد باقي ، ومن بعيد لاحظت ان الفقيد ثابت حبيب العاني يسير ويحمل حذاءه بيديه ، اسرعت اليه ووجدته يقول ان حذاءه أفلت من قدمه ولا يستطيع بسبب الثلج ارتدائه من جديد ، ساعدته في ذلك ، وظل يتذكر تلك المساعدة كلما التقيته لاحقا . وفي حدود الرابعة بعد الظهر وصلنا الى الارض اليابسة ورأينا سواد حجارة سفح قنديل من جهته الثانية . ولحسن الحظ وجدنا كهفاً صغيراً يرتفع بضعة امتار عن ارض الوادي ، وبالطبع تقرر مبيتنا هنا حتى صباح اليوم التالي .
بعد هذه المسيرة الشاقة والخطرة والوصول الى جهة الامان وبدون ثلوج تذكر بعضنا الشاي ، اتضح اني الوحيد الذي يحمل مطارة ماء معدنية وكوب معدني ، ولا اتذكر من كان يحمل الشاي والسكر . اقمنا موقدا من النار امام الكهف وبدأت عملية ملئ المطارة بالماء من خرير الثلوج الذائبة ، وغلّيها ووضع الشاي في المطارة وبعد ذلك يشرب الرفاق واحداً تلو الاخر ، وهذه العملية تستغرق وقتا ليس بالقصير . هنا تركتهم لانام في قعر الكهف متلفلفا بالجمداني الذي لا يحمي من البرد ولكنه يشعرني اني مغطى ، وهذا الشعور يساعدني على النوم .
وقبل طلوع الفجر شاهدنا مصابيح ضوء عديدة تنزل من الجبل باتجاهنا ، ساورنا القلق ، وتأبطنا بنادقنا نحن الشباب الثلاثة وصعدنا قليلا باتجاههم ، وبعد صراخنا بكلمة قف ومن انتم اتضح انهم رفاقنا من مقر بشت ئاشان جاءوا متتبعين آثار اقدامنا بعد ان تقرر الانسحاب الكامل في الرابعة بعد الظهر . لا استطيع وصف حالة الانكسار والالم فقد خرج الجميع فقط بملابسهم وبسلاحهم الشخصي ، ودمروا بايديهم اذاعة الحزب التي بنوها قبل بضعة اشهر وكل تجهيزات الطبابة والادارة والتموين وقاعات السكن ، والاهم من ذلك كله بالطبع فقدوا رفاق لهم استشهدوا امام اعين بعضهم ، وكان مصير المتبقين مجهولا ، وكان التساؤل الكبير لماذا حدث ذلك ؟
وبعد مسيرة نهار طويل وصلنا الى قرية كبيرة كانت مقرا للحزب الديمقراطي الكردستاني ، وبدأنا نبحث عن الاخرين واتضح ان مفرزة من سبعين رفيقا ورفيقة ومعهم الرفاق كريم احمد واحمد باني خيلاني وقادر رشيد كانوا قد وصلوا الى الطريق الذي سلكناه ولكنهم اختاروا طريقا آخر ، اوقعهم لاحقا في كمين لقوات الاتحاد الوطني الكردستاني استشهد فيه اكثر من ثلاثين رفيقا وتم أسر الباقين ، واطلق سراح الرفاق الثلاثة اعلاه بعد بضعة ايام بعد ان وقّع كريم احمد اتفاقية وقف اطلاق النار او استسلام ، وهو نفسه الذي وقّع في شباط من العام نفسه اتفاقية التحالف الاستراتيجي بين الحزبين .
كل الناجين من بشت ئاشان سلكوا الطريق الذي حفرناه باقدامنا قبلهم في النهار ، والفضل في ذلك يعود الى الرفيق سيد باقي ، الذي يرقد بسلام بعد ان ترك وراءه تاريخ نضالي طويل .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن