النقد الذرائعي

عبير خالد يحيي
abeer.yahia7@gmail.com

2020 / 4 / 28

كتبت الباحثة الجزائرية عقيلة مراجي :

النقد الذرائعي، البراغماتية اللغوية عند عبد الرزاق الغالبي

النقد الذرائعي، البراغماتية اللغوية عند عبد الرزاق الغالبي

النقد الذرائعي، البراغماتية اللغوية عند عبد الرزاق الغالبي:

تمهيد:

بعد الضغط الكبير الذي شهدته الساحة النقدية في ظل الحداثة و ما بعد الحداثة، وبسبب التراكم المناهجي الذي أفرزته المسارح النقدية الغربية الحديثة والمعاصرة، ما بين المناهج النصانية، السياقية، الثقافية، الإحصائية والتكاملية، جاء النقد الذرائعي ليخفف هذا الضغط وينظم الممارسة النقدية من خلال تسطير آليات ومداخل أقل ما يقال عنها أنها تحتوي النص من القشرة السطحية إلى أعمق نقطة فيه، آخذة بعين الاعتبار المؤلف والنص وكذا جميع الجوانب البيئية التي تحتضن اللحظة الإبداعية وما تخلفه هذه الجوانب في النص، إذا الذرائعية اللغوية هي مشروع نقدي وظيفي وتنظيمي لتأطير العملية النقدية وتخليصها من الخلط المنهجي والمفاهيمي الذي نتج عن الفوضى العارمة التي عانى منها النقد العربي لردح من الزمن. وهو خيار يجب الإقرار بمدى جدواه إذا ما عايننا بشيء من الموضوعية الآليات النقدية التي سطرها المنهج الذرائعي، والمداخل التي أطرت في مباحثها كل ما من شأنه أن يؤدي إلى احتواء النص

وكذلك رصانة الأعمــــــال النقدية التي قدمت في منجزات أدبية وفق هذا المنهج، والتي يحمل لواءها الناقد الذرائعي "عبد الرحمان الصوفي من المغرب والدكتورة عبير يحيى من سوريا الشقيقة.

أما عن الرؤية الشمولية والتكاملية التي ميزت الذرائعية، فإنه حتى إذا قلنا بأن النقد الذرائعي نقد تكاملي فإن المنهج التكاملي الذي نادى إليه الكثير من النقــــاد بعد أن أعيتهم النــــواقص في كل منهج من المناهج الســـــالفة الذكر، فتبقى القيمة المضافة التي جاء بها هذا المنظر هي تحديد المداخل النقدية للنص وتنسيقها بشكل يسهل على الناقد مواجهة النص دون الولوج في كوكتال من الآليات التي يستقيها من جميع تلك المناهج أو من بعضها على الأقل بحجة خصوصية النص الأدبي وحاجته إلى منهج متكامل يتناول النص والكاتب والبيئة والظروف الزمنية والتاريخية المنتجة.

وهو إنجاز يحسب له بغض النظر عن الأصالة أم التغريب، وليكن من ذلك نظرة منصفة للمنهج ولصاحبه، فحتى المنظرين الغربيين أنفسهم الذين جاؤوا بمناهج أسرعنا إلى تبنيها بدءا بالبنيوية وما بعدها وعلم العلامة ونظرية التلقي لم تكن في منأى أبدا عن التراكمات العلمية والفلسفية ولم تكن أصيلة، وإنما كانت هجينة في كثير من مباحثها. وهذه طبيعة العلم، فإذا كان كل شخص يأتي بمنهج أصيل ويتنزه عن الأخذ بما سبقه من العلم لكان أبلها يعزف خارج السرب. ولا أدري السبب الحقيقي الذي يقف خلف هذا الإعراض عن هذا المنهج من قبل المعترضين ... الذين أشعلوا نارا بلا حطب... وهذا غريب ومستنكر إذا ما قورن بالإقبال خلف منجزات غربية أحيانا تكون مفرغة من قيمها تماما، حتى أن مقدميها أنفسهم لا يعرفون ما هي النتيجة المتوخاة من هذا النقد وعلى سبيل الذكر التفكيكية.

وعلى كل حال فإن هذا المنهج ورغم ما حيك حوله من مكائد قد انتشر بصورة كبيرة تبعث الأمل، وإن كان ما يزال لم يتبوأ المكانة الحقيقية التي تليق به بعد.

وفي هذ المقال سنحاول أن نتناول المنهج الذرائعي مصطلحا ووظيفة حتى يتعرف القارئ على طبيعة هذا النقد ولكل الحق بأن يدلو بدلوه على أن يكون ذلك بعيدا عن التطرف والتعصب...وبعيدا عن التجذرات الثقافية المثقلة بالمفاهيم الخاطئة حول ما نسميه بالنقد العربي.

1- ما هو المنهج الذرائعي:

المنهج الذرائعي، هو منهج نقدي شمولي، يتوافر على معايير نقدية دقيقة وعملية لمواجهة النص الأدبي بصيغة فاعلة، بعيدا عن الإنشــــــائية الفارغة، واضعه هو عبد الرزاق الغالبي وقد ابتدأ الكاتب بوضع ثلاث مجلدات حول هذا المنهج ألحقها فيما بعد بمجلدين آخرين، وقد لاقى هذا المنهج الإقبال في الوسط النقدي بعد العداوة والرفض اللذين ووجه بهما في بداية مساره، ويبدو أن تلك المواجهات السلبية كانت ناشئة من قبل بعض الحاقدين والحاسدين الذين اعتادوا على اللهث خلف خطوات الغرب دون وعي، وأنا شخصيا أرى أن المنهج لا بأس به من الناحية العلمية والعملية على السواء، على الأقل أمكنها احتواء النص الأدبي واختزال الديناميكيات المتعددة والغير الناضجة في المناهج الأخرى لأنها جاءت متفرقة، وأرجح أن الذين رفضوا هذا المنهج هم من الذين سيطرت عليهم عقدة الدونية أو الفوقية ففقدوا الثقة في المنجز النقدي العربي، وكان ينبغي لهؤلاء أن يتعاونوا على دراسة المنهج الجديد بعين موضوعية بعيدا عن المعتقدات في مجالس علمية وتدقيقه وتطويره ما أمكن ليصبح طفرة نوعية في النقد العربي وقفزة يخلدها التاريخ، ولكن لا حياة لمن تنادي!

3- مصطلح الذرائعية:

لا أريد أن أدخل في متاهات حول مصطلح الذرائعية لأن المنظر عبد الرزاق الغالبي قد أفاض في الحديث عنه في كتابه "الذرائعية اللغوية بين المفهوم اللساني والنقدي" ومع ذلك أود أن أشير إلى أن الذرائعية اللغوية هي خيار ذرائعي للمنظر ذاته نظرا للمحاور المتشابكة التي تربط المصطلح بجذور فلسفية، وتراثية عربية.

ومما جاء في هذا السياق في الكتاب ذاته، قول المنظر عبد الرزاق > الذرائعية اللغوية بين المفهوم اللســــــاني والنقدي، عبد الرزاق الغـــــالبي، عبير يحيى، ص9.

وقد أكد الكاتب في السياق ذاته أن هذا الخيار ليس إلا محاولة منه لتوضيح الفرق بين التيارين بغض النظر عن التسميات التي جاءت عن آراء ترجمية تتوزع بين ما يخص الاستعمال، وما يخص الأصل في المعنى والمفهوم، ليضع على حد قوله المعترضين على جادة الصواب بأن الذرائعية اللغوية والتداولية هما معنى وتيار واحد، غير تيار (جون ديوي ووليم جيمس وتشارلس ساندرس بيرس)

ويذهب الكاتب أن الذرائعية هي التداولية وأن الاثنين هما موضوع لغوي بلاغي واحد عربي الأصل اكتشفه الغرب أخيرا تحت اسم البراغماتية.

إذن ببساطة وحسب ما ذهب إليه الكاتب بأن التداولية هي الذرائعية وأنهما ذات منشأ عربي الأصل، وأن العرب كانوا يمارسون ما تعلق منهما من مفاهيم حتى قبل أن يظهر هذا المفهوم نفسه(ينظر المرجع نفسه، ص10

وبهذا يكون الكاتب قد أسند مشروعه النقدي إلى قاعدة تراثية عربية أصيلة لا يمكن زعزعتها ولا الطعن فيها، بيد أن هذا المشروع قد جاء أكثر نضجا ورصانة مما جاء في مباحث النقد العربي القديم. وقد اعترف الكاتب أنه قد اطلع على كل ما جاء في النقد الحديث العربي والغربي وكذلك القديم، وقد وصف أن ما جاء في النقد العربي لا يمكن تزكيتها كمشاريع حقيقية لأنها مثقلة بالتقليد الأعمى والسطحية والإنشائية الفارغة. وأن معضلة الترجمة قد أحدثت شرخا كبيرا في مفاهيم النقد العربي الحديث.

4- كيف يعمل المنهج الذرائعي؟

المنهج الذرائعي هو منهج يواجه النص الأدبي انطلاقا من رؤية شمولية تنطلق من ظاهر النص/ الشكل لتصل إلى أعمق نقطة فيه، فاسحة المجال لرصد الخلفيات الأخلاقية والنفسية والسلوكية عند الكاتب وكذلك رصد خصوصياته الإبداعية الفنية والجمالية والأسلوبية، وذلك عبر عدة مداخل محددة، مستندا في ذلك إلى الكثير من النظريات الفلسفية والعلمية والأدبية..ومعتمدا التحليل والتوصيف والنقد الموضوعي والرؤية المنصفة للكتابة والكاتب، دون إكراه النص على ما هو ليس له من باب إخضاعه للمنهج النقدي المتبع، والابتعاد عن النقد الإنشائي الفارغ، خاصة فيما يتعلق بالمدخل الرقمي الساند الذي يقنن العملية النقدية ويبعدها عن الإفراط في الأخذ بالانطباعية والذوق الخالص، وهذا ما يجعل العديد من النقاد يصلون إلى النتيجة ذاتها في مواجهتهم لنص واحد، لأن الأمر انتقل من الأهواء إلى الدقة النقدية العلمية.

وما يميز هذا المنهج قدرته على احتواء النصوص كلها، باختلاف الجنس والنمط على أن لكل نص خصوصياته ومن هذه الخصوصية تتشكل خصوصية النص النقدي أيضا، وليس العكس، كما نجد في الكثير من الدراسات النقدية التي تخنق خصوصية الإبداع بخصوصية المنهج تقليدا للآخر، مما ينتج لنا صورا متشابهة لنصوص نقدية عقيمة تطغى عليها المصطلحات والمفاهيم النقدية أكثر مما تكون مقـــاربة لنص بعينه، ضاربة بعرض الحائط حقيقة أن لكل عمل إبداعي قانونا ينظمه ويحكم سيرورة التشكل والتكوين فيه، وحركة الإبداع وحركيته في الإنشاء النصي..

وهذا إن دل على أمر فإنما يدل على أن المنهج الذرائعي هو منهج تكاملي قبل كل شيء، وعندما نقول إن هذه النظرية النقدية شاملة، فمن الضروري أن تكون في مباحثها وأطروحاتها قادرة على استيعاب كل مباحث الأدب نقدا وإبداعا، وأن تحصر قوانينه وأنظمته وترصد حركيته ضمن أنســـــاق متغيرة، عموديا وأفقيا، فالشمولية ليست نقدا آنيا ولا تاريخيا بل هي الفهم الحقيقي لهذه الحركة مصحوبة بدوافعها ومفسرة بآلياتها ونتائجها، فلكل حقل فكري مجالات حركته وحدودها، وهذا ما يشكل جنسه وماهيته، فالأدب مثلا كما يقول واضع النظرية الذرائعية ومؤسسها في مقدمة كتابه جوهره الخيال ومادته اللغة وخــاصيته الجمال، وهذا مـــــــــا سعت إليه الذرائعيـــــــة، حيث استطاعت أن تفهم جوهر الأدب الذي هو ببساطة شكل ومضمـــــــون، يتضمن الشكل حدود الجنس وجماليته، بما فيها القيم المضافة التي يقترحها التجريب والإبداع، والخيال والاحتكاك مع الواقع. في حين يتضمن المضمون مبدأ الالتزام بكل ما يخدم الإنسان ولا يجرح كيانه.

لكن قد يسأل سائل: إذا كان الأدب فن، فكيف يمكن أن يخضع للعلم؟ هل يمكن أن يتحول الفن إلى علم؟ أو العلم إلى فن؟

هناك علوم معيارية، ومعاييرها مطلقة، وهناك علوم نسبية، فالأدب ليس علما معياريا لكنه يحتكم إلى قوانين دقيقة في نسبيتها، فعندما نقول إن الخيال والجمال هما مادة الأدب، فإن النقد يستعين بآليات يمكنه أن يعرف من خلالها قيمة الخيال في العمل الأدبي من غيره، والأمر نفسه بالنسبة للعناصر الأخرى. وخير مثال على معيـــــــــارية وعلمية النقد الأدبي نظريـــة التجنيس، فالجنس الأدبي محكوم إلى معايير وخصائصه تميزه عن بقية الأجناس الأخرى، ومن خلالها يمكننا معرفة إلى أي جنس ينتمي كل نص أدبي.

لكن هل ما يجب أن يركز عليه الناقد الأدبي هو الذوق أو المعيار؟ وهل يمكن لهذين الجانبين أن يلتقيا فيما يخدم العمل الأدبي؟ وما موقف الذرائعية من هذا؟

ينتظم الحس النقدي في الذرائعية بالمعيار، فلما لم يكن هناك بد من تدخل الذوق في الحكم النقدي فإنه يحتكم إلى المعايير، والمعيار مؤسسة في عدة مداخل أسسها المنظر عبد الرزاق الغالبي في نظريته، وهذه المداخل تمكن الناقد من الإحاطة بالنص كله، بدءا بقشرته وصولا إلى أعمق نقطة فيه، إذا فالذرائعية تكافئ الناقد والمبدع والعمل الأدبي، فهي ثلاثية الأقطاب.

ودعني في هذا الصدد أعرض بعض ما قاله منظر المنهج عبد الرزاق الغالبي في المنهجية الذرائعية في كتاب "الذرائعية في التطبيق في تحليل النص الأدبي العربي فقد جاء في ( الذرائعية في التطبيق / لكاتبه عبد الرزاق عودة الغالبي ) ما يلي: (اطلعت على جميع الكتابات والأفكار والرؤى والنظريات النقدية، وقرأت أحمد أمين ومحمد غنيمي وجاك دريدا وعبد المنعم عجب الفيا ونقد التفكيك، وكراهام هاف، والدكتور عبد الكريم أسعد قحطان وأنريك أندرسون آمبرت، والدكتور وليد قصاب وآثرأزابرجر وعبدا لله غادومي والدكتور سعيد علوش وعباس العقاد وأحمد غنيمي وسوسير وكرماس وآخرين ...وخرجت بحصيلة لا بأس بها من الأدب الرصيــن عراب المجتمع، وهو رباعي التكوين من سلوك نفسي وتقمص وجداني وعقل معمد بإحساس عال، يتناص مع تجارب المبدعين في المعمورة، وفن تشكيلي مموسق، أما النقد فهو عراب الأدب والأديب، وهو أهم علم من علــــوم الأدب، وتلك بديهية لا تحتاج إلى إثبات أو تحقيق، لكن ما أريد قوله، مع أهمية النقد للأدب وللمجتمع، فإني لم أجد سوى كتاب في النقد ولم أعثر على نقاد متخصصين في العلم، أو نقد علمي متخصص، يقود المتلقي نحو القراءة النقدية الصحيحة والمبسطة للنصوص، والتي توازي الطوفان المرعب في الكتابة الأدبية العربية، ومما يحز في النفس أن غياب التحليلات النقدية عن الساحة العربية المترعة بالقديم والحديث، ساعد في نشر الجهل الأدبي الأكاديمي بمعارف النص والتنصيص ومفـــاصل العمل الأدبي، الشعري والنثري، وما ساعد على ذلك، هو التمرد على التجنيس، ذلك المسلك الذي أشاع الفوضى والقبح بشكل النص العربي الجميل ... كانت الذرائعية الحل الأمثل لكونها رؤية نقدية تطبيقية مستندة على أطر ومداخل علمية كل شيء يذكر خلالها، ولا تتيح خرما للإنشاء الفارغ والكفيف وغير المستند على قواعد نقدية رصينة)

كما يقول أيضا:

(كانت الذرائعية، الحل الأمثل لكونها رؤية نقدية تطبيقية مستندة على أطر ومداخل علمية لكل شيء يذكر من خلالها، ولا تتيح خرماً للإنشاء الفارغ والكفيف، وغير المستند على قواعد نقدية رصينة، فهي مثقلة بنظريات نفسية وفلسفية تساعد المتلقي والناقد بالدخول إلى أي نص بشكل ذرائعي علمي، وباعتمادية إدراكية واعية بالتحليل العميق لعناصر العمل الأدبي المتقن، بشكل دقيق ومدروس، يساعد الناقد على الغوص في مكونات النص باحترام وحرفية عميقة، ولا تقوم الذرائعية بتخريب قشرة العمل الأدبي الخارجية الجمالية، كما تفعل بقية النظريات النقدية، بل تهتم بالشكل والمضمون بشكل متواز و احترام واتزان نقدي متباين، ولا تعمل كالنظريات النقدية المادية، التي لا تنظر إلى أي نص بتكامل"

إذا فإن المنهج الذرائعي يعتمد على عدة مداخل نقدية تمكن الناقد الذرائعي من التنقل بينها قصد سبر أغوار النص ودراسة ديناميكياته المختلفة، وآلياته الإنتاجية فضلا عن بيئته المنتجة وكاتبه، وهذه المداخل هي:

المنظور الاستنباطي والتعمقي

المدخل السلوكي

البناء الجمالي والبلاغي

المدخل العقلاني

المدخل اللساني

درجة العمق والانزياح نحو الخيال

الموسيقى الشعرية

المدخل البصري

الخلفية الأخلاقية

تجنيس النصوص

البؤرة الأساسية الثابتة في النصوص.

ثم المدخل المدهش في النظرية وهو التحليل الرقمي الذرائعي الثابت .

كل هذه المداخل قد طبعت النقد الذرائعي بالموضوعية و الدقة العملية وبهذا يكون المنهج الذرائعي منهجا متكاملا قادرا على احتواء النص الأدبي من عديد الجوانب المتعلقة به.

كتبت عقيلة مراجي



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن