كُنْ غيابَكَ يا قاسمْ..

حكمت الحاج
takamulat@yahoo.com

2020 / 4 / 5

في مثل هذا اليوم الحزين قبل عامين فجعتُ برحيل قاسم وأنا في منفاي، ولكن الفجيعة في بغداد كانت أشد حلكة وسوادا. لقد روعنا جميعا بهذا الخطب الجلل، فرحيل صديق العمر لأغلبنا ذلك المقيم في وجداننا قاسم محمّد عبّاس، لهو فجيعة ما زال يصعب على العقل التعامل مع مراراتها، كما كتب ذلك الصديق حسين محمد عجيل اليوم المصادف للخامس من شهر نيسان أبريل من عام الجائحة، بمناسبة هذه الذكرى الأليمة. فأيّة خسارة تعادل فقدان ذكريات عمرها أربعة عقود تشهد عليها بغداد وتغنيها موجات دجلة العذب؟
يقول العزيز حسين محمد عجيل أطال الله في أنفاسه، إنه لم تسمح جائحة كورونا التي تعصف بالبشرية جمعاء حاليا بتنظيم حفل إحياء لذكراه الثانية، التي تصادف اليوم الأحد، كما سبق وأن بادر حسين صحبة ثلة من الأصدقاء المحبيّن لقاسم والمقربين إليه إلى تنظيم مناسبة كبيرة ولائقة في ذكراه الأولى ببغداد، فحاول تخليد الذكرى في ظلّ هذه الظروف بنشر قصيدة مهداة منه إلى روح قاسمنا وذكراه اليوم فاتحا الباب أمامنا جميها للفعل نفسه.
وهل أعظم من الشعر منابا ومثابا وتذكيرا وذكرى؟
يسير في الظن للمتلمس أبعاد حياة قاسم محمد عباس انه ابن كتب وثقافة وكلمات وذلك بالنظر إلى جم الآثار التي  تركها خلفه بتنوعها من القصة القصيرة إلى الرواية إلى المسرح إلى البحث إلى التحقيق وليس انتهاءا بالكتابة التأملية والمقال الصحفي والتعاليق النقدية هنا وهناك ما استطاع إليه سبيلا. ومَن غيره الأجدر بهذا الوصف وهو الذي أوقف حياته على الفكر محرابا وطريقا؟ لكن مهلكم، فقاسمنا هو ابن حياة وأكثر بل هو ابن الحياة بلحمها وعظمها ودمها الذي يسيل على جوانب الشرف الرفيع بالانتماء الى بني البشر. دعوني أقول لكم بشيء من الجزم والحزم ان قاسم الذي عرفتموه هو قاسم الآخر الذي عرفتموه لو كنتم أنتم غيركم. كان مولعا لا بل ماهرا في لعبة الأقنعة الصينية كما كان سيدا في تعميم مبدأ التقية ولم يكن ليجد أي ضير أو تضارب في هذا مع نشدانه الأبدي لقيم الحداثة الكونية في تجلياتها المعاصرة ولعل من أهمها عذابات الاغتراب والتشيؤ وعدم الاندماج. نعم، لقد تعب وظهر عليه التعب في أشهره الأخيرة كما كان يرشح لي عبر مكالماتنا الهاتفية بين بغداد ولندن، وأعتزل ما أمكن له الاعتزال دون المساس بذلك الخيط الرفيع الذي كان يشده الى بعض الحياة وبعض الناس ولكنه في كل هذه وتلك كان وفيا الى نفسه فقط مع أقل عدد ممكن من المساومات وهذا ما أوقعه في طين التعب، وعندما أزف الوقت للرحيل كان قد قال مع نفسه كلمته الأخيرة. فاذهب حاضرا وكن غيابك كما كنت حضورنا يا قاسم الفرح الشجي مثل موسيقى كنت ترددها بفمك في ليالي الوزيرية الجميلة ذات بغداد.
القصيدة:/
عطورات السهروردي المقتول
(في ذكرى قاسم محمد عباس)
شعر: حكمت الحاج
بعد صراع مع الغيلان
في الفلوات الوحشية
صديقي المفكر العراقي
والباحث المحقق في التراث الغنوصي
قاسم محمد عباس
يغادرنا إلى مثواه الأخير
بعد إسهاماتٍ ثَرَّةٍ في إغناء العقل العربي
وتغيير الذائقات
وصلني اليوم نعيكَ
صديقي قاسم
فلترافقكَ أصواتُ أجنحةِ جبرائيلَ
ولتؤنسَ وحشتكَ في الطريق
عطوراتُ السهروردي المقتول
أنت الآن قوي بما يكفي
لتنساق التلال شفافةً وراءك
ولتعبقَ الأحلامُ جنبكَ مِسكاً وطِيبا
اذهبْ ضائعاً في لهاث الفكر
ضالعاً في هواء المطابع
واخرجْ من الأرض كما دخلتها يوماً مرتين
اذهبْ وحيداً
كلنا معكْ
ولتشهدْ بغدادُ عمقَ محبتنا!
(من كتابي الشعري "انستغرام" الصادر في لندن عن منشورات مومنت 2019)
https://docdro.id/u7RXqan
--------------------
كلمة وقصيدة قيلتا بمناسبة مرور عام على رحيل صديقي ورفيقي الكاتب والباحث والمحقق التراثي والناقد قاسم محمد عباس في حفل استذكاره في بغداد في مثل هذا اليوم قبل عام وقد قرأ مشاركتي في تلك المناسبة هناك الصديق الكاتب المبدع د. نصير غدير كما إن الشكر موصول للصديق المثقف المحقق حسين محمد عجيل على تفضله بدعوتي للمساهمة في الحدث.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن