فيروس كورونا..عالم بلا مأوى

سامح عسكر
ascooor@gmail.com

2020 / 3 / 30

أكتب إليكم وقد وصل ضحايا الفيروس ل 34 ألف إنسان والإصابة ل 700 ألف وزيادة، وقد فضلت ذكر هذه الأرقام لتأريخ المقال الذي مؤكد أنها ستتصاعد وتتغير لأرقام مرعبة في المستقبل، ومع انتفاضة العالم وحملات الإعلام للتوعية لا يمكن القول أن تلك الانتفاضة أتت بثمارها حتى الآن..فأكثر دولتين تأثرتا بالفيروس "إيطاليا وأسبانيا" الحياه هناك شبه متوقفة والحجر الصحي يسع مناطق كثيرة ورغم ذلك فالأرقام تتصاعد بمتوسط 700 وفاه يوميا، وهو متوسط ربما يقارب أو يفوق معدلات الحروب..

باستثناء الصين وكوريا وعدد من الدول الأسيوية فلا أحد يفتخر بعد أنه سيطر على انتشار الفيروس ، وقد أدت منجزات هذه الشعوب لخلق الأمل بالقضاء على الوباء خصوصا نهاية فصل الشتاء..لكن الأرقام التي تتصاعد بمعدل 100 ألف إصابة كل يوم ربما تقول شيئا آخر دفع الرئيس الأمريكي ترامب للتصريح بأن ضحايا بلاده قد يصلوا ل 100 ألف والبريطانيين يقولون أنهم سيعملوا على عدم تخطى أرقام الضحايا ل 20 ألف، وبغض النظر عن صدق هؤلاء وما يعتري ظهورهم من شكوك لكنها إشارة لما أعلن عنه في السابق بأن الغرب يتبع سياسة "مناعة القطيع" ومؤداها التضحية بالأضعف مناعة لصالح الأقوى مناعة، باعتبار أن الشباب وأقوياء المناعة هما عماد كل اقتصاد ليس فقط بصفتهم منتجين للسلع ولكن أيضا منتجين للأفكار الجديدة.

وتبعت هذه السياسة خلافا حول صحتها أخلاقيا وعقليا وعلميا، لاسيما أن الكبار منهم ذوي الخبرة اللازمة لإدارة الدول والمجتمعات، وفقدانهم لا يعد مكسبا ماليا كما يتوهم بعض الرأسماليين ممن تعمدوا ذلك في تصريحاتهم بالإعلام..بل خسارة اجتماعية كبيرة ستدفع الدول لتغيير أنظمتها الفكرية والسياسية، أو ربما يتغير المجتمع كله للضد ربما، فكبار السن ما فوق الخمسين هم من يمسكون بخيوط تنظيم أي مجتمع خصوصا من الناحيتين السياسية والفكرية بوصفهم الأكثر تأثيرا عشائريا في ذويهم أولا وفي بقية المجتمع عن طريق خبراتهم وأسلوبهم الناضج في إقناع الناس ومخاطبة البشرية بوسائل جيدة.

خلافا للشباب الذين يمتلكون روحا ثورية وتوقا لأي تغيير ربما يكون غير مدروس، وأذكر في مصر على سبيل المثال قولي بأن مصر والدول العربية في أحداث الربيع الثوري فقدوا أول ما فقدوا "حكمة كبار السن" فانحرف الربيع عن طريقه الإصلاحي لآخر فتنوي دموي شديد العدائية متسق مع معارك الشباب في الفصول والجامعات والقهاوي، بينما في المقابل عندما عادت حكمة كبار السن فتم تصويب الربيع في أحداث يونيو 2013 بمصر وما تبعها من انقلاب شعبي وفكري نخبوي على طبيعة ذلك الربيع فجرى استهداف أخطر بؤره في سوريا والعراق بدعم شعبي هائل يتسم بالوعي حتى تحررت الدولتان وعاد إليهما الأمن سوى جيوب بسيطة في إدلب.

هذا ما أقصده بأن فقدان كبار السن سيعرض تلك الدول المصابة والتي قررت موتهم والتضحية بهم إلى (تشرد فكري) مما يدفعهم للعيش بلا مأوى حتى لو امتلكوا منزلا يعيشون فيه أيام الحجر الصحي، فخسارة الكبار لم تعد فقط في الأرواح بل في منزلتهم الاجتماعية وصورتهم وحكمتهم أثناء العلاج والضعف على أسرّة المستشفيات..لاسيما أن شعور الإنسان بالضعف وقُرب موته يُصدمه في وعيه ويقرر التراجع أو التخلي عن مكتسبات الحكمة دون وعيٍ منه أو رغبة، وبرأيي أن السؤال عن المتسبب الرئيسي في الوصول لهذا الوضع قد فات أوانه، فالدول الأوروبية وأمريكا يعلنون سياساتهم بلا حرج أنهم لن يفاضلوا بين خسارة "أرواح قليلة" بنظرهم من جراء الوباء وبين خسارة "أرواح كثيرة" من جراء الفقر والفوضى الاجتماعية الناتجة عن توقف حركة المصانع، وهذا يعني أن قرار إغلاق هذه الدول إنتاجيا لم يحدث بعد، وأن الحجر الذي يقصدوه محصور فقط بالحركة في الشارع لكن المصانع والمزارع لم تتوقف ولا زال العمال ينتقلون لمصانعهم في أجواء الحجر.

ناهيك عن خطر آخر لا يقل قيمة وهو "الفوضى الاجتماعية" فزيادة أرقام الضحايا تدفع المجتمع للشعور باليأس مما يشعره بالخوف على حياته ومستقبله فيتحفزون للسيطرة على ما تطاله أيديهم ليبقوا على قيد الحياه، وهذا مشهود في ظل الأوبئة تاريخيا واجتماعيا بحيث أن الشعب في ظل الوباء وعن طريق نقص السلع والأموال المرادف له يهجم على الأملاك والمحلات للسطو عليها، لاسيما أن الإعلام بدأ ينقل لنا مشاهد من تلك السلوكيات في أمريكا بنهب محلات سوبر ماركت وأعمال شعب مرادفة لذلك النهب، فعلاوة على شعور الناس بالخطر هم ليس لديهم ما يدفعونه لامتلك تلك الأساسيات التي تحميهم.

ناهيك أيضا عن العنف الأسري المرادف للحجر الصحي والحملات تحت عنوان "خليك بالبيت" والبقاء في المنزل مدة زمنية طويلة ليس خيرا بل يعرض الأسرة للتفكك بظهور أقبح ما في النفس وقتها كنتيجة طبيعية لأمرين اثنين: الأول وهو شعور الناس بالملل الذي يصاحبه شعور بالاكتفاء وعدم الرغبة واللامبالاه..وكلها أعراض لفقدان الناس إبداعهم، أما الثاني فهي الطاقة المخزونة في الجسم والتي ضلّت طريقها الطبيعي، فبدلا من خروج تلك الطاقة في أعمال إنتاجية وإبداعية في الخارج تخرج في البيت على شكل عنف أسري، مما يعني أن المجتمع في ظل تصاعد تلك الأرقام لن يكون بخيرا أبدا، فعلاوة على فقدان حكمة كبار السن يفقد المجتمع إبداعه المرادف للشعور بالأمان ويجعله أقرب فعليا للفوضى الاجتماعية بسلوكيات قرووسطية بنهب المحلات والممتلكات.

وفي سياق آخر قد تكون التدابير الاقتصادية لمواجهة الوباء والدعم المالي للشعب عاجزين عن تجنب دمار الاقتصاد، فالرئيس الأمريكي ترامب مثلا أصدر قراراته منذ أيام بضخ أكثر من 2 تريليون دولار لدعم الاقتصاد الأمريكي، وحكومة كندا قررت صرف 2000 دولار لكل أسرة في شهور الحجر، ومع ذلك رأينا مع كل هذه السيولة عدم تأثير إيجابي على الأسواق وأسعار الطاقة سوى بضع ساعات لتعود الأسعار والأرقام في منحدرها الطبيعي الذي تميزت به منذ بدء الأزمة، فالوضع الحالي مع ضعف الطلب على البترول – بعد وقف مصانع الصين - أدى لانخفاض أسعاره، بينما ارتفع الذهب لأرقام قياسية كأعراض للأزمات الاقتصادية عموما، فمع شعور الناس بالخطر على حياتهم وأملاكهم ومدخراتهم يلجأون لتحويل أموالهم إلى معادن نفيسة لا تتلف مع الزمن.

وبالتالي فالأزمة الاقتصادية معناها ارتفاع الطلب على الذهب فيرتفع سعره وهذا ما حدث الآن بعد بلوغ الذهب في مصر عيار 21 لرقم غير مسبوق وهو 728 جنيه بينما سعر أوقية الذهب وصل 1645 دولار، وما كان هذا ليحدث لولا شعور الناس والدول بالخوف ومطالبات بإسقاط الديون عن الدول الفقيرة لمساعدتها في التصدي للوباء، فبمجرد ظهور بعض المطالب بإسقاط الديون يعني خفض للسيولة المتاحة في حال التحصيل، وانخفاض السيولات عموما من أعراض الانكماش الاقتصادي وما يصاحبه من ركود تجاري أعلنت رسميا مديرة صندوق النقد الدولي منذ يومين "كريستالينا جورجيفا" عن دخول العالم فيه بشكل ربما يكون أسوأ من ركود عام 2009

إن العالم يعجز حاليا عن مواجهة الأزمة ويبدو أنه لا توجد وصفة جيدة لعودة الحياه إلى طبيعتها، ولو تتذكروا في مقالات سابقة نقدية للحضارة الغربية قلت أن وعي الإنسان الغربي – أوروبا وأمريكا – منخفض وليس كما يشاع أنه مرتفع الذكاء ، وفي مقال " أوروبا بين التحدي والاستجابة" طرحت فيه بعض النظريات والفرضيات التي أكدتها أزمة كورونا ومجملها أن أوروبا ضعيفة من حيث الفكر والوعي والمجتمع وبالتالي التخطيط، وبما أن أوروبا هي مركز الحضارة فانخفاض الوعي فيها يعني انخفاض في وعي الحضارة وأزمات متلاحقة سيشهدها العالم تقول بجلاء أن الوضع الحالي لا يجب أن يستمر، فقد أصبح العالم مطالب بانتفاضة تغيير بعد استنفاذ كل التجارب لإصلاحه منذ نهاية الحرب الباردة.

فالفيروس لا تكمن خطورته فقط في تأثيره المادي والمعنوي بل العجز عن توقع مستقبله، وخريطة انتشار الفيروس حاليا تقول أن هناك فوضى جغرافية وعدم تنظيم حتمي مرافق لبؤر الانتشار، كما رأينا أن دولا مثل السويد والنرويج معدلات الإصابة فيهم منخفضة والتدابير الاحترازية هناك أقل بكثير من التدابير التي اتخذتها بريطانيا وألمانيا مثلا رغم ارتفاع أرقام الوفيات والإصابات فيها، وهذا يعني أن خريطة انتشار الفيروس ليست منظمة ولا تحمل بُعدا جغرافيا يمكننا التنبؤ عن طريقه بوجود الفيروس ومن ثم مقاومته، لاسيما أن الهند وباكستان مثلا يقعون ما بين الصين وإيران جغرافيا وبرغم ذلك قفز الفيروس متخطيا الهنود والباكستانيين ليضرب إيران بعد الصين، وهذا القفز لا زال لغزا يجتهد في تفسيره البعض أنه ناتج عن مؤامرة ضد الدولتين "الصين وإيران" بوصفهما ألد خصوم الرئيس ترامب حاليا.

ولأن هذا القفز لا يثير فقط خيال الفكرين فهو يحفز أيضا خيال السياسيين مما دفع مسئولا بوزارة الخارجية الصينية لاتهام أمريكا بتعمدها حربا بيولوجية ضد الصين ونشرها للفيروس عقب دورة الألعاب العسكرية الدولية في مدينة ووهان في سبتمبر الماضي، وقد اعترضت أمريكا بشدة ويوميا يظهر ترامب ليهاجم الصين بعد ارتفاع أرقام دولته مبررا هذا الارتفاع بالشفافية والاختبارات المفقودة في الصين، وباعتراض عقلي لطيف فترامب مطالب بالجواب عن إشكالية تأخر ظهور أي حالة أمريكية خلال شهري "يناير وفبراير" في وقت الصين وصلت فيه إلى 70 ألف حالة، إضافة لوجود 4 مليون صيني في أمريكا لا يعقل عدم إصابتهم بالفيروس ونقله لأمريكا خلال هذين الشهرين، وعليه فلو ادعاء ترامب صحيح فأمريكا أيضا أخفت الحقيقة وخلال شهرين كتمتها على أمل نهاية الوباء قبل فصل الربيع ولم يضطر ترامب والطبقة الحاكمة -الأوليغارشية -لإعلان الحقيقة سوى بضغوط من المعارضة والصحافة..

هذا الاستطراد مهم لشرح محاور الفكرة الرئيسية أن قرار الغرب وإدارة الرئيس ترامب ضد كبار السن والضعفاء لا يمكن عزله عن مؤثرات وطبيعة الوباء في نواحٍ أخرى كالاجتماع وعلم النفس ، فالقرار على ما يبدو أنه مأخوذ لصالح طبقة رأسمالية غنية تحكم العالم حاليا ليس من صالحها تطبيق حظر تجول كلي ومنع أي تجمعات بما فيها المصانع، وما يدعيه ترامب بأن ضحايا الإغلاق سيكون أكبر من ضحايا الوباء الحالي هو مجرد تبرير لموقف لا أخلاقي يجد صداه حاليا في الداخل الأمريكي بتهديد الديمقراطيين بمحاكمة ترامب وإدارته بعد نهاية الوباء واتهامه بشكل صريح بالتسبب في قتل آلاف الأمريكيين إما عن عمد لصالح تجارته الخاصة وإما لقصورٍ منه في تصور الأزمة ..أو كما قالت هيلاري كلينتون ساخرة" لا تسمعوا نصيحة طبية من رجل نظر لكسوف الشمس"..!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن