ضرورة إعادة تأصيل مفهوم الكفر في الإسلام

أحمد إدريس
hamada.d.1968@gmail.com

2020 / 3 / 16

"لو تجاهل الإنسان كل سؤال يُخالِف اعتقاده، و امتنع عن قراءة الكُتب التي تُخالِف أفكاره و ما يؤمن به، فإن حياته ستكون خطيئة ضد البشرية." (ويليام كليفورد)

"إن كل تديُّن يُجافي العلم و يخاصم الفكر و يرفض عقد صُلحٍ شريف مع الحياة، هو تديُّن فقد صلاحِيَّته للبقاء." (الشيخ محمد الغزالي)



هذا اللفظ الذي تفيض به خِطاباتُنا الدينية لَدَيْه كثافة دلالية كبيرة و لكِنْ لا يَجِب إغفالُ الأهمِ بِشأنِه و هو أنَّه نشأ في سِياق تاريخي مُحَدَّد، و الأمر كذلك فلَيْس مِن المعقول إطلاقُه اعْتِباطاً و جُمْلة على إخوةٍ لنا في الإنسانية لا يَمُتُّون بِأيَّة صِلَة إلى هذا السِّياق التاريخي المُحَدَّد. بِدون تَرَدُّد أجزم بأنه مِن غير إعادة نظر كُلِّية و مراجعة جذرية لِمفهوم الكفر، لن يُجدي نفعاً و سيذهب سُدًى، كُل ما يُبذل لِأجل القضاءِ أو على الأقل الحدِّ مِن خطر و ضرر ظاهرة التكفير. أكيداً لا ينفع في معالجة هذه الآفة و ما يَنجُم عنها الوعظُ الديني السائد الآن، مِثلما لا ينفع في معالجة داء السَّرطان أو ما شابَههُ تَناوُلُ أقراص الأسبرين.

أؤكد هنا بإصرار و إلحاح على أنَّه لا يُمكن بِحال فَصْلُ مفهوم "الكفر" عن السِّياق التاريخي الذي نشأ فيه و يندرجُ ضِمْنَه هذا المفهوم. فواقع الحال يفرض علينا رؤية مختلفة عن رؤيتنا التقليدية في هذا الصدد. واقع الحال هذا يَضَعُنا كُلَّنا و بدءاً بالمرجِعيَّات الدينية و الفِكرية أمام مسؤوليةٍ تاريخية كبرى، سياسياً و ثقافياً و إنسانياً، أداؤها و القِيام بها كما ينبغي و على أحسنِ و أكملِ وجه واجبٌ أكيد مُحتَّم على مجموعِ الأمة.

الموضوع بالغ الحساسِيَّة في أوساط المُتديِّنين التقليديين عندنا، و لستُ من هُواة الإستفزاز الطائش أو الدَّوْس بلا مُبالاة على مشاعر العِباد، لكني لاحظت أمراً آلمني كثيراً و ما عُدت أُطيق السُّكوتَ عنه : القرآن فتح أبْوَابَ التفكيرِ الحر و التَّعَبُّدِ بإعمال العقل على مِصراعيها، و جمهور المُلَقَّبين عندنا بأهل العلم ما ادَّخروا وُسْعاً في سبيل إغلاقِها. جزء كبير مِن شغل هذه الطبقة هو إنشاءُ و صناعة الأصنام الفكرية أي إنتاجُ أفكار يُضفون عليها قداسة زائفة دون أن يروا في ذلك نقضاً لِلتَّوْحيد ! لهذا ما عادوا هُداةً للتي هي أَقْوَم و لا دُعاةً إلى دين قويم.

لقد غاب عن أذهانهم ما يلي : الدين القويم و هو الذي يُوائِم الفِطرة و لا يصدِم الضمير و قبل كل شيء يُعين الحياة و يُحسِّنُها و يُخفف مِن قسوَتها، و يُعلِّم المخلوق الآدمِيَّ كيف يكون إنساناً بجدارة و مُستحِقاً بالفعل أن يُسمَّى إنساناً، لا يُمكِن أن يستغني عن المُراجعة النقدية الدائمة و التصحيح المُستمِر للتَّصوُّرات و الدعائم الفكرية التي يقوم عليها. و هذا يقتضي عدم تصنيم أي فكرة هي نِتاج جهد بشري في محاولة فهم النصوص المُؤسِّسة للدين…

و طبيعي تماماً أنَّ المراجعة الواعية و المسؤولة و النزيهة لِما نحن عليه مُكلِّفة و مُربِكة أيضاً للمشاعر لكِنَّها ضرورية و لا مَناص مِنها حتى نتجاوز ما نحن فيه : الحقيقة وحدها تُخلِّصنا و تُحرِّرنا مِن الحالة الحرجة التي نحن فيها، و المستقبل الذي نريد و نرجو بُلوغَه لن تصنعه الأوهام بل الحقيقة.

ها قد حان الوقت لِيَسترجع أصحابُ العقول عقولَهم و لِيَمضِيَ الجميع قُدُماً نحو الحقيقة. نحو الإجابة النهائية ـ و التي سَتُحدِّد رؤيتنا للآخر ـ عن سؤال حاسم هو : مَن هو الكائن المنعوت بالكافر و المُتَوعَّد بأقسى و أشد و أنكى أنواع العذاب، حَسَبَ ما يَنُص عليه مِراراً و تَكراراً و مِن دون أدنى لَبْس أو غُموض القرآن ؟ مَن المعني في قول الله : "عُقبى الكافرين النار" ؟

في الواقع الشيء الذي دفعني إلى التفكير بِجِدِّية و عُمق و بِتجرُّد مطلق في مسألة الكفر، مقال لأحد محترفي التضليل تحت عباءة الدين و هو مِن المُتورِّطين في كوارث الأمة الحالية، و المُتسبِّبين بضياع البوصلة في عموم مجتمعاتنا، يزعم فيه أن مخترع المصباح الكهربائي الذي يُضيء منزلَه قد ربح الدنيا و لكنه خسر الآخرة، هو إذن على يقين و لا يُخالِجه أدنى شك في أن نار جهنم هي المصيرُ الأبدي لأديسون. هذا الدجال المخادع الكذاب المتاجر بالدين الذي جمع الأموال الطائلة، و استمتع بشتى و مختلف المباهج الدنيوية أكثر بكثير من ذلك العالِم النافع للخلق الذي أحسن إليه، قرَّر أن مكافأة هذا الأخير ستكون التعاسة الأزلية و الخلود في جهنم : جزاءً وِفاقاً مِن إله قائم بالقسط، شكور، لا يُضيع أجر مَن أحسن عملاً !

لَوْ لم يتخلَّل مسيرة الإنسانية أفراد قلائل جداً من طراز هذا الشخص الفذ أي لا يكتفون بتقليد الأسلاف، بل لَدَيْهِم الشجاعة للخروج على المعروف المألوف المُتَوَارَث فيجتهدون لإبتكار أشياء جديدة و يظهر إبداعُهم في شتَّى مجالات الحياة و هم بالطبع بشر يُخطئون و يصيبون و نَجِدُهم في الغالِب أبعد الخلق عن ادِّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة و احتكارها أو الإعتقاد بذلك، لَوْلا هؤلاء ما كنا لِنَنعم اليوم بالهاتف و السيارة و الإنترنت و لَرُبَّما كان شيخُنا من مُمارسي وَأْدِ البنات…

لهذا المُسْتَشْيِخ أقول : يا مَن عقلُك لا يزال يعيش خارج الزمن تَوَجَّه بلباقة و بلغاتهم إلى هؤلاء الذين تُسميهم كفرة، أثبِتْ لهم بالدليل المنطقي و الحجة القاطعة الدامغة أن فاطر السماوات و خالقَ جميع الكائنات و مُسَيِّرَ مِليارات المجرَّات يفرض على الجميع تقليدَكَ في ما ورِثت عن آبائك في المجال الديني الذي ما كان لك فيه أي خيار، و بعد رفع هذا التحدي إستمِر إن كان ذلك يُسعدك و يريح خاطرك في نَعْتِ الآخَرين بالكفرة : "هاتوا برهانَكم إن كُنتم صادقين !" (قرآن). يا مغرور و مسرور بنفسك إذ تعتقد جازماً أنك على الحق فقط لأنك وُلِدت و نَشأت في محيط ثقافي مُعَيَّن، بينما الآخر حتى لو كان أرقى إنسانياً و روحانياً و أنفعَ للخلق مِنك فهو قطعاً في ضلال فاحش و ظلام دامس و يتوجَّبُ عليه، لِحُسن حظك أنت مُعفىً مِن ذلك و ستُجازى على كسلك الذهني بجنة الخلد، يتوجَّبُ عليه أنْ يتوقَّف عن السعي لِمعاشه و يتفرَّغ للأبحاث اللاهوتية المُقارنة و يتوَصَّل قبل الموت إلى أنَّ بِيَدِكَ مفتاح النجاة، يا هذا المسألة الدينية ليست بتلك البساطة التي يَتخيَّلُها أمثالك مِمَّن لم يُعملوا فيها فكرهم بتجرُّد مطلق.

يا غافل تأكد أنه لا قيمة للعناوين، عندما تنمحي و تغيب المضامين… العناوين الدينية أقصد و التي لا اختيار إرادياً حقيقياً فيها لعباد الله، عدا أفراد قِلة سمحت ظروفهم بذلك و مِن هذه الأخيرة أنهم وُلدوا في بيئات تكفُل حرية الإعتقاد و تمنح للجميع إمكانِيةَ البحث الهادئ و الإطلاع و الدراسة الموضوعية لِكُل الفلسفات و العقائد، و لا تُكلف نفس إلا وُسعها كما هو مُقرر بهذه العبارة في كتاب الله.

يستحيل علينا أن نندمج إيجابياً في المجتمع البشري و نُقدِّم إسهاماً فعالاً و ذا قيمة في أَنْسَنة العالَم، ما دُمنا مُصرين على استعمال لفظةٍ تنطوي على ذمٍ و ازدِراءٍ و قدحٍ بحق أغلب سكان هذا العالَم. متى سنتخلَّص مِن هذه النظرة السَّلبية و المُجحِفة جداً تجاه الآخرين الذين هم إخوانُنا في الإنسانية، و مِن هذا العُجب المثير للسخرية بِحق - إذ ما الذي يُبرِّره و نحن في الحضيض ؟ -، متى سنرقى إلى مستوى هذا النِّداء الداعي ضِمنياً إلى تقبُّل الآخرين كما هم فنحن جميعاً عِيال الله : "و لِكُل وِجهة هو مُوَليها فاستبقوا الخيرات، أين ما تكونوا يأتِ بِكُم الله جميعاً" (قرآن) ؟ إنَّ من فاتني و فاقني في الخيرات، هيهات أنْ أُدركه بِمُجرَّد كوني "وُلدتُ مسلماً" و إنَّما بِمُنافستِه في أعمال البِر، إلى أنْ ألحَقه و أسبِقه إن استطعتُ !

في القرآن آية تُعلِن : "من كفر فعليه كُفره و من عمل صالحاً فلأنفسهم يمهَدون". أدعو مشايخ الأمة الأُصلاء إلى تدبُّر هذه الآية القرآنية فإني أراها صريحة و قاطعة في نفي صفة الكفر عن أي مِن أهل الصلاح و ذوي النية الصادقة الطيبة الخالصة و أصحاب المَسلك الراشد في الحياة. مقطع قرآني آخر يجدر التوقف عنده : "ليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به و لكن ما تعمَّدت قلوبكم و كان الله غفوراً رحيماً." و الله لن يستقيم لنا حال و ستزداد أوضاعُنا سوءً ما دُمنا مواظبين على سب غيرنا عبر وَصمِهم جميعاً بلا استثناء بلفظ الكفار ! الكافر هو صاحب الإرادة السيئة، المسلم هو صاحب الإرادة الخيِّرة : لا يدخل في الإعتبار العنوانُ الديني، الذي قُدِّس على حساب جَوهر الدين. في هذا المجال أيضاً لا يُكلِّف الله اللَّطيف الحليم نفساً إلاَّ وُسعَها. ذلك لأن كُلَّ فردٍ مِن بني الإنسان هُوَ في صميم كِيانه عالَم بِحَد ذاته، بالتالي ليس مِن العدل و الإنصاف في شيء أن نحصِر الآخَر بِشكل قاطع في تصنيفات وضعتها عقولُنا المُعبَّأة بأحكام مُسَبَّقة كثيراً ما تكون مُجحِفة و لا مبرِّر لها، و عليه لا يجوز اختصار إنسان ما أياً كان في عنوان ديني أو غيره.

الخالق سبحانه لو شاء لجعل البشر جميعاً أُمة واحدة أو نُسخاً متطابِقة، لكنه أراد أمراً آخَر تماماً ـ القرآن واضح بهذا الشأن -، و ذلك لِحكمةٍ تخفى على العقليات الضيِّقة المحدودة و الألباب العاطِلة : مشايِخَنا الأفاضل و مرشدينا في سَيْرنا إلى الله، كفى إذن سخطاً و تذمراً و استِياءً من إرادة الله ! فللأسف ما زال عَصِياً على أذهان الكثيرين منكم، إدراك قيمة التنوُّع - إذ هو قانون الحياة -، و أنه بركة للناس و نعمة عظيمة مِن فاطر الكون. فَلِكُل ما في الوجود أهمية و دور في ضمان توازن و استمرار الحياة في هذا الكون. عجيب و غريب هذا السَّخط و التذمُّر الصارخ من مشيئة الله مِمَّن يُفترض أن يكونوا نموذجاً في الرِّضا الكامل بمشيئة الله.

المشايخ الذين خوَّلوا لأنفسهم حق الحكم على ما في القلوب، و ممارسة التضييق على حرية الفِكر ـ هذا إنْ لم يعتبروها مِن أمارات الكفر ـ، أنصحُهم بالتوقف قليلاً عند آية بيِّنةٍ مِن خِطاب علاَّم الغيوب : "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها و تُوَفى كل نفسٍ ما عمِلت و هم لا يُظلمون" (قرآن). إذن كل إنسان سيُجادل عن نفسِه بين يدَي الرب، و الظلم مُنعدِم تماماً في المحكمة الإلهية ؛ و لا جدوى مِن التباهي بالعناوين الدينية، لأن كُل واحد مِنا سيُحاسَب على أفعاله و حسب. العِبرة عِند ذوي الرشاد بِزكاة القلب و حُسن الإرادة و شرف المبادئ و نُبل الغاية و صلاح العمل، الكافر هو مَن لا يسمع نِداءَ ضميره في غالِب الأحيان و قد يَصِلُ به الأمر إلى التَّجَرُّد مِن إنسانيته، و كل ذلك في القرآن و لَكِن مَن يتدبر بِعُمق و بعقل مُتحرِّر مِن وِصاية أي مخلوق هذا الكتاب الفذ ؟

المطلوب بإلحاح ليس أقلَّ من تجديد كُلِّي و إعادةِ بناء حقيقية لِمَنظومَتِنا اللاهوتية بِرُمَّتِها و فكرِنا الديني المَوْروث. ذلك شرط تصالُحِنا مع كُلِّ ما هو جميل و طيِّب في العالَم، تلك أولى الخُطُوات على طريق إصلاح حال الأمة و تخليصِها مِن أمراضِها و مُعضِلاتها المُستعصِية، ذلك شرط نهضتنا المأمولة التي بها سيتغير وجه الأرض. أرجو أن يكون ذلك قريباً.



"إن مشكلتنا نحن المنتسبين للإسلام منذ قرون، لا تكمن في عدم تطبيقنا للإسلام، بل في أننا لم نفهمه بَعْدُ." (علي شريعتي)

"الدين كعلاقة مع الله هو شأن فردي خاص، لا يحتاج لرجل دين و لا وسيط، و (…) لكل إنسان طريقتُه في التقرُّب إلى الله، عليك احترامها. خلاصة القول : إنَّ الإسلام جدير أنْ نُنقِذه من الإجحاف الذي لَحِقَ به، و أن نُكرِّسه كرسالة إنسانية، الآخَر ضِمْنَها و ليس خارجها، قِوَامُها التَّعدُّد و الإختلاف (…)، و هذا التكريس يجب أن يدخل في العقل الجَمعي و في التركيب الإجتماعي، بِحَيْثُ يصبح عَصِياً على أن تُزَعْزِعَه فتوى أو دعوى جهاد أو حرب دينية أو طائفية، و نعيش حينها الإسلام كاملِاً كما ختمته رسالة محمد." (الدكتور محمد شحرور)

"كم نحن بحاجة لإعادة برمجة لكل مفاهيمنا القديمة التي جزمنا دائماً أنها الأصلح و أننا الأفضل بها." (فاطمة الزهراء إدريس)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن