ليلة فكرية خولية في ساقية الصاوي الثقافية

قاسم المحبشي
dr.kasem22@hotmail.com

2020 / 2 / 23

طوبا للأجداد بالأحفاد الذين يحملون شعلتهم

حينما قرأت عنوان الندوة في الدعوة قبل عشر أيام ( التجديد عند أمين الخولي: مقاربة ما بعد الحداثة) تسألت مع نفسي يا ترى ماذا يربط رجل دين ازهري عاش معظم حياته في النصف الأولى من القرن الماضي في بلد عربي بحركة ما بعد الحداثة التي ولدت ونمت وازدهرت في الثلث الأخير من القرن العشرين في سياق ثقافي غربي مغاير؟! وبحكم تخصصي في الفلسفة المعاصر واطلاعي على المسار التاريخي والمعرفي لظاهرة ما بعد الحداثة عبر دوائرها الفلسفية والثقافية والإعلامية وتنويعاتها المختلفة تسألت: يا ترى ماذا يمكن للأستاذة الدكتورة يمنى طريف الخولي أن تقارب في محاضرتها المزمعة؟ في الواقع انتابتني مشاعر العجب الممزوج بالشفقة! إذ أني من خلال معرفتي البسيطة بالإرث الفكري والأدبي للشيخ أمين الخولي لم تكن تخطر ببالي فكرة تأويله فلسفيًا مابعد حداثي. فكان هذا دافعًا اضافيا حفزني على حضور الندوة، فضلا عن دوافع أخرى أهمها الاستماع إلى فيلسوف العلم المعاصر الدكتورة يمني التي أعزها. حرصت على الحضور مبكرًا كي لا يفوتني شيئا من هذه الندوة الفريدة من نوعها في عالمنا العربي الإسلامي وربما في تاريخ الفكر الإنساني عامة إذ قلما يحدث أن يقدم حفيد أو أن تقدم حفيدة إرث جدها الفكري في محاضرة مباشرة وجه لوجه. الليلة في ساقية شهدت وخبرت تلك التجربة التي لم أمر بمثلها في حياتي. إذ قدمت حفيدة الشيخ الأزهري أمين الخولي الدكتور يمنى الخولي محاضرة في غاية الروعة والجودة والإثارة. على مدى ساعة كاملة متوسلة وسائل التقنية الحديثة اللابتوب والداتاشو استعرضت سيرة حياة جدها الراحل أمين الخولي 1895- 1966م. نشاءته ودراسته ووظائفه وعائلته وكتبه ورحلاته. واستعرضت منهجه التجديدي في الخطاب الديني بالشواهد والأدلة اعتمادًا على كتاباته التي ذكرتها واهمها؛ المجددون في الإسلام 1965، وكتاب صلة الإسلام بإصلاح المسيحية 1939 وكتاب في مناهج التجديد، وكتاب فن القول وكتاب الخير في الفلسفة الأخلاقية وكتاب في هدى القرآن وغيرها. وأشارت في تناولها لمنهجه التجديدي أنه كان يعرف عن ماذا يتحدث ، منطلقًا من وعي عميق بجسامة المهمة التي تصدى لها بارادة المثقف المجدد المستوعب للتراث الذي ينوي تجديده وهو صاحب المقولة الشهيرة: "أول التجديد قتل القديم فهمًا وبحثًا ودراسةً" وهو القائل "إذا مضى المجدد برغبة في التجديد مبهمة، يهدم ويحطم ويشمئز ويتهكم فذلكم، وقيتم شره، تبديد لا تجديد."وقد "أرسى الخولي بناءه المنهجي التجديدي على ما أسماه "التفسير الأدبي للقرآن". كان محور هذا الضرب من التفسير هو إظهار الإعجاز الأدبي للقرآن، لكنّ الخولي يرى أنّ ما ألّف في هذا الغرض من التفاسير السابقة ينطلق في معالجته للنص من منطلق دعوي وتراثي، لذلك كانت الجهود مسخّرة لغايات دفاعيّة عن الإسلام، ولم تكن العناية بالجانب البياني اللغوي غاية في حدّ ذاتها. ويتحدد مدخل التجديد عند الخولي والمدرسة الحديثة كلها في وظيفة المفسّر أوّلاً، وفي مكانة النصّ المفسّر ثانيًا، فليس مقبولاً عند الخولي أن يظلّ التفسير المعاصر مجرّد أداة لاختيارات مذهبيّة وتوظيفات دعويّة مهما كانت أهميته. كانت الدكتور يمني وهي تتحدث عن التجديد عن جدها أمين الخولي بحماسة الحفيد الذي يفتخر بمنجز جده المعرفي شديدة الثقة بما تتحدث عنه وفي غاية الإدهاش بقدرتها على الإحاطة بموضوعها بأهم وأدق التفاصيل الكفيلة بتقديم صورة كافية شافية عن أمين الخولي وسياقه الاجتماعي والثقافي في تسلسل زمني ومنطقي شديد الوضوح والإقناع. وفي السياق ذكرت أثر سفره وعمله وإقامته في إيطاليا وألمانيا لبضع سنوات وكيف استلهم المنهج الهرمنيوطيقي من مؤسسة الألماني شليرماخر، وحرصه على تعليم أولاده اللغة الألمانية وعودته إلى مصر بعيون ثقافية جديدة وتسنمه رئاسة قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة القاهرة مشكلًا مع رفيق دربه الشيخ علي عبدالرازق أول رئيس عربي لقسم الفلسفة بجامعة القاهرة ثنائيا تجديدا مبدعًا وخلاقا.وعززت حدثها بصور مشاركتهما في مؤتمر دولي عام 1935 في روما إذا لم تخني الذاكرة. وفي ختام محاضرتها لملمت الدكتورة يمنى المقاربة لتقنع الحضور بفكرة كيف أن جدها أمين الخولي كان ما بعد حداثيا قبل ظهور الحركة ( حركة مابعد الحداثة) ذاتها مدللة على ذلك بالشواهد الثلاث الآتية:
أولًا؛ بوصفه شيخ المجددين العرب المسلمين في الخطاب الديني باعتراف الجميع. وما بعد الحداثة هي حركة تجديدية.
ثانيا: بوصفه أول هرمنيوطيقي عربي إسلامي مستشهدة بدراسة المفكر العراقي عبدالجبار الرفاعي الذي قال "إن فرادة الشيخ أمين الخولي تظهر في محاولته الرائدة بتوطين الِهرمنيوطيقا والمناهج الجديدة في تفسير النصوص الدينية، في المجال التداولي العربي. وبعد استقراء وتتبع يمكن القول إن الخولي هو أول هرمنيوطيقي بالعربية، وربما في عالم الإسلام. إذ لا أعرف أحدًا سبقه إلى ذلك"
ثالثا: نزعته التفكيكية في قراءة التراث والنص القرآني من حيث هو خطاب أدبي وقد أشرف على أطروحة طالب دكتوراه عن القصص الأدبي في القرآن الكريم هذا فضلًا عن انتهاجه أسلوب جديد في تفسير النص القرآني مستندًا إلى الموضوعات وليس الآيات. كانت ندوة على مستوى عالي من الأهمية الأكاديمية والثقافية، أحسست من المناقشات التي اثيرت حول موضوع المحاضرة وردد الدكتورة يمني بأنها تلمح أكثر مما تجهر وتخفي الكثير بين السطور كما كان يفعل أبو حامد الغزالي في بيت الحكمة العباسي في المضنون به على غير أهله! أمسية الليلة علمتنا درس بالغة الأهمية عن الفرق بين من يقرأ تراث الراحلين من داخله ومن يقرأه من خارجه. لقد قدمت الحفيدة جدها بصوره تليق به وبها واعتقد أنها منحت سيرته الذاتية دفقة حيوية مفعمة بالروح الإيجابية قل نظيرها. أتصور أن الجد أمين الخولي لو كان هو المتكلم لما قدم بنفسه كما قدمته حفيدته. فطوبا للأجداد بالأحفاد الذين/تن/ يحملون/لن/ شعلتهم. لفت نظري في قرأتها النقدية نقدها الذكي للاتجاهين؛ السلفي المتقوع في قوقعة الماضي التقليدي الإسلامي بكل عجره وبجره! والاتجاه التغريبي العلماني المنبهر بالحضارة الغربية بكل مقوماتها وشروطها وأدواتها في محاولة استدعاءها بديلا عن الموروث والتراث العربي الإسلامي مشيرة إلى فكرة بالغة الأهمية هي أن مشكلة الإسلام ليس مجرد عقيدة دينية كما كانت عليه المسيحية في القرون الوسطى بل أن الأمم المتحدة واليونسكو صنفت الدول الإسلامية ثقافيا بوصفه دائرة إسلامية متميزة عن كل ما عداها، إذ لا وجود لدوائر تحمل الهوية الدينية(مسيحية أو يهودية أو بوذية أو هندوسية) في تصنيف الأمم المتحدة غير (الدائرة الإسلامية) بوصفها بنية ثقافية شاملة ورؤية للعالم وموجهات للسلوك وفي ذلك يكون معنى التجديد المقصود ليس مجرد اصلاح التليد بل هو إبداع شيء جديد وإضافة نوعية فعالة للثقافة الإنسانية إذ ميزت بين ثلاثة دلالات للتجديد؛ التجديد بوصفه ترنيجا أو اعادة طلاء للقديم ذاته، والتجديد بوصفه إبداعا خلاقًا وإضافة فعالة بمعنى النهضة بإعادة بعث الروح في الأصالة وتجاوزها بأجنحة المعاصرة. والتجديد بوصفه مسح الصفحة والبدء من أول وجديد في تأسيس الفعل الحضاري العربي الإسلامي وهذا في نظرها اتجاه عدمي. وما أجمل التواصل الثقافي المعرفي بين الأجيال. والمعرفة والثقافة تراكمية بطبيعتها النامية وللرواد الفضل في تأسيس البدايات وبذر الشتلات. وهكذا وجدت الطريق لأن أناس كثيرون ساروا في اتجاه واحد ! كما يقول المثل الصيني. والبذرة تحمل في جوفها شكل الشجرة وطعم الفاكهة! ولا يموت المرء طالما وهناك عقول وقلوب ما برحت تتذكره. والرموز خالدة لا تموت. ربما كانت سعادتي مضاعفة بمقابلة صديقي الفضائي الأستاذ الدكتور جلالي بوبكر استاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة حسيبة الجزائرية وهو الذي ادار الندوة بكفاءة واقتدار إلى جانب الاستاذ الدكتور الصاوي الصاوي رئيس المنتدى الثقافي في الساقية. ومن دواعي سروري أن يهديني الصديق الدكتور زكريا منشاري الجالي كتابه المهم ( التجديد في المنطق عند زكي نجيب محمود بنظرة نقدية) مشفوعًا بتوقيعه الجميل.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن