لم ندفن موتانا بعد يا سلامة!

عديد نصار
adeednassar.12@hotmail.com

2020 / 2 / 23

بعد تجارب مضنية، تبين، لي على الأقل، ومنذ سنة 2007، عقم المحاولات التي جرت من أجل إحداث تغيير حقيقي في بنية الأحزاب الشيوعية العربية على المستويات الفكرية والتنظيمية والسياسية تتناسب مع اضطراد تفاقم الضغوط على القيعان الاجتماعية في بلداننا، والتي عبرت عن نفسها في ارتفاع نسب البطالة خصوصا بين الفئات الشابة والمتعلمة وفي التراجع المتواتر في قدرات الناس على تأمين متطلبات الحياة بالتوازي مع الانهيار السريع للقطاعات التشغيلية المنتجة في ظل سيطرة الاقتصاد الريعي واقتصادات الخدمات ووضع اليد ونهب الثروات حيث بات التمايز قائما بشكل فاقع بين قلة مسيطرة تمتلك ثروات هائلة وبين غالبية ساحقة مفقرة، كل ذلك في ظل تغول مهول في الطبيعة الاستبدادية القمعية والأمنية للأنظمة السياسية المسيطرة.
كل ذلك، والأحزاب الشيوعية واليسارية العربية منشغلة في البحث عن شكل من أشكال التمايز بين القوى المسيطرة يمكّنها من تبرير بناء تحالفات سياسية مع هذا التكتل السلطوي أو ذاك لتتعيش على هامش القوى المسيطرة من جهة ولتعيش حالة اغتراب كامل عمّ يعتمل في القاع الاجتماعي من تفاعلات.
سنة 2009 بدأتُ رحلة البحث في ما يمكن أن يعبّر عن تلك التفاعلات الاجتماعية في القاع. وقمت بجولات واسعة في مناطق مختلفة ومتباعدة في سوريا وفي لبنان، أي في المناطق التي يمكنني التواصل معها بدون تأشيرة وبدون جواز سفر. فكان تواصل مع حلب وحمص ومصياف ودمش وطرابلس وبيروت والجنوب اللبناني وسواها، وكان تواصل مع كتاب يساريين وماركسيين من مختلف البلاد العربية، وكان تواصل عبر الانترنت مع شباب مغاربة وتوانسة ومصريين وسوريين وعراقيين، الى أن حلت الأشهر الأخيرة من سنة 2010 حيث أسسنا مجموعة حوار على موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" باسم "نحو وحدة العمل النضالي للشباب الماركسي في الوطن العربي"، جمعت شبانا ماركسيين من المشرق ومن المغرب مرورا بمصر.
لم تمض بضعة اسابيع على تشكيل مجموعة الحوار تلك حتى انفجرت انتفاضة سيدي بوزيد. فواكبناها وحرضنا على التضامن العربي معها على أن يكون تضامنا من نوع جديد، اي أن يكون هذا التضامن عبارة عن مواكبة انتفاضة سيدي بوزيد بانتفاضات في مختلف الأقطار التي يقيض للشعب فيها أن ينتفض. انتفاضات تؤازر بعضها. هكذا كان الاقتراح، لكنه لم ينجح لاعتبارات عديدة ابرزها غياب الأحزاب الشيوعية واليسارية عن أحوال مجتمعاتها.
في الحقيقة، لقد كانت انتفاضة سيدي بوزيد والانتفاضة التونسية عموما، وكذلك سائر الانتفاضات العربية المتعاقبة، مفاجئة للاحزاب الشيوعية بنفس القدر أو ربما أكثر من مفاجأتها للأنظمة وقواها المسيطرة. فلم تكن تلك الأحزاب في حالة اغتراب عن المجتمعات فقط، بل كانت تعتبر أن تلك المجتمعات خاملة خانعة لا يمكن أن تنتفض أو تثور، عدا أنها كانت ترسم في رؤوس قياديها وأعضائها منظورا محددا وقواعد صارمة لشكل وسيرورة الثورات لا تستطيع خارجها أن تقبل أي شكل أو نموذج آخر للانتفاضة أو الثورة. وهنا يحضرني النموذج الكاريكاتوري للثورة الذي رسمه زياد الرحباني سنة 1974 في مسرحية نزل السرور: "حزب، فجريدة حزب، فتهيؤ، فـ...".
نعم، لقد فوجئت الأحزاب الشيوعية بالانتفاضات الشعبية العربية التي انطلقت ذات سيدي بوزيد، وارتبكت والتحقت مرغمة بانتفاضتي تونس ومصر وما لبثت أن تراجعت بعد وصول موجة الانتفاضات الى سوريا واليمن، لتبدأ مسيرة التراجع والاضحملال بسبب موقفها الملتبس أولا والمنحاز لأنظمة الاستبداد الدموية تاليا.
لن أغوص كثيرا في التفاصيل، فقد تابعت الصيرورة الثورية منذ انطلاقتها وحتى اليوم بكل التفاصيل، وقد عانيت كثيرا مع الشيوعيين المؤدلجين حتى النخاع على التبعية والالتحاق، من مصر أثناء الدعوة الى ثورة 25 يناير على إثر هرب زين العابدين بنعلي من تونس، اي على مسافة أسبوع من ثورة يناير في مصر، الى سوريا حيث توقف التاريخ عند أحزابها الشيوعية المفككة عند الجبهة الوطنية التقدمية بقيادة حزب البعث وقائده "المفدى" بشار الأسد، والتي عانينا معها قبل سنوات في محاولات وضعها على طاولة العمل المشترك دون جدوى، الى العراق الذي كان لي تجارب مريرة مع الحزب الشيوعي العراقي وتمسكه بالعملية السياسية.. الى لبنان، حيث وقفتُ في جمعية عمومية للحزب الشيوعي اللبناني ربيع 2011 متحديا أن يعلنوا ولو عن وقفة تضامنية مع الدم السوري المراق على بعد مرمى حجر من مكان انعقادها، دون تحديد السفاح أو الاشارة الى النظام الأسدي، ولكن دون جدوى، فكان الطلاق النهائي معه.
وخلال السنوات العشر التي انقضت على الانتفاضات الشعبية العربية، كنت أتساءل عن هذا الغياب التام للتظاهرات التضامنية التي اعتدناها في شوارع العواصم الأوروبية والعالمية تضامنا مع غزة والشعب الفلسطيني والتي غابت تماما عن التضامن مع الشعوب العربية الذبيحة على مذبح حريتها من اليمن الى العراق وخصوصا الى سوريا.. فكان جوابي الذي لم أعبّر عنه حتى الآن كتابةً هو، الموقف شديد النذالة للأحزاب الشيوعية واليسارية العربية التي كانت تنقل للقوى اليسارية العالمية الصورة المخادعة والكاذبة عن هذه الانتفاضات وتلك المذابح.
لقد كانت القضية الفلسطينية القميص الذي تتلفعه تلك الأحزاب للتعمية على موبقاتها، والتي ساعدتها اعلاميا على الصعيد العالمي في تعميم خطابها التضليلي حول الانتفاضات العربية وإقناع اليسار العالمي بأن ما يحدث في سوريا والعراق ليس إلا مؤامرة امبريالية صهيونية للتخلص من "محور الممانعة". هذا المحور الذي لم يستخدم القضية الفلسطينية الا لتبرير وجوده واستبداده وقهره للشعوب العربية وكذلك الايرانية. واليوم تتكشف فضائله المزعومة في العراق وفي ايران وفي لبنان.
ففي الأسبوع الفائت حدث ما يؤكد اتهامي أعلاه: إلغاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني لندوة كان دعى اليها المفكرَ والكاتب الماركسي اللبناني جلبير الشقر في الخرطوم. وكانت الفضيحة في تبرير هذا الإلغاء. فقد نص البيان على بندين: الأول إن جلبير الأشقر ليس عضوا في الحزب الشيوعي اللبناني!
ومن قال إن جلبير هو عضو في الحزب الشيوعي اللبناني؟ وهل الحزب الشيوعي السوداني لا يعرف جلبير الأشقر الذي التقته قيادته قبل أيام؟ وكيف يدعو حزب كمثل الحزب الشيوعي السوداني رجلا لا يعرف انتماءه الى لقاءات وندوات دون أن يعرف هويته السياسية؟
أنا لا أعرف جلبير الأشقر شخصيا، ولا تربطني به اية علاقة شخصية أو حزبية، كل ما أعرفه عنه قرأته في مقالات وأفكار للرجل، أتفق مع بعضها وأختلف مع بعضها الآخر. والرجل له مواقف ماركسية مشرفة من الانتفاضات والثورات الشعبية العربية بخلاف مواقف الأحزاب الشيوعية الرسمية. وكان مواكبا ومناصرا للثورة السودانية بحسب ما قرأت له، فهل بات من اللازم على الحزب الشيوعي السوداني ألا يستقبل كاتبا أو مفكرا لبنانيا إذا لم يكن منتميا للحزب الشيوعي اللبناني؟ أم ان الشيوعيين السودانيين غير محصنين كفاية وبالتالي هنالك خشية ما أن يتمكن أي كاتب أن ينتقل بهم من خندق الى آخر؟؟
كل هذا ليس مهما، المهم، إن حزبا يلعب دور المخبر والواشي بحق كاتب مهما كان انتماؤه أو اختلافه معه، لا يمكن أن يكون شيوعيا. وإن حزبا يمارس ما مارسه الحزب الشيوعي اللبناني في هذه الواقعة، ليس غريبا عليه أن ينقل صورا كاذبة عن الانتفاضات والثورات العربية الى اليسار العالمي. وفي ظني أن غياب الشارع العالمي عن التضامن مع شعوبنا الذبيحة على مدى عقد كامل، في أحد اسبابه، هو موقف الحزب الشيوعي اللبناني والأحزاب الشيوعية العربية ومنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحزب العمال التونسي. وهذه الأحزاب الثلاثة لها علاقات وطيدة بالأحزاب الشيوعية واليسارية العالمية وقادرة على التأثير في سياساتها العربية.
كنت واكبت الثورة السودانية على امتداد ساعاتها المشرقة، وكنت أعتبر أن الحزب الشيوعي السوداني يتميز تماما عن الاحزاب الشيوعية العربية خصوصا لجهة انغماسه التام في عمق القاع الاجتماعي في السودان، وبالتالي امتلاكه المقدرة التامة على فهم طبيعة التفاعلات الاجتماعية التي تدور في هذا القاع وبالتالي احتمالات انفجاره وحركته. ولم أعرف للحزب الشيوعي السوداني أية مواقف فاقعة حيال الانتفاضات الشعبية العربية. وبالتالي حفظت، كما كثيرين غيري من ماركسيي الانتفاضات، لهذا الحزب موقعا خاصا في وجداني، إلا أن موقفه الأخير المنوه عنه أعلاه أظهر مدى صدقية وشمولية الحكم الذي اصدره المفكر الماركسي العربي الراحل سلامة كيلة قبل عقد ونيف من الزمن على تلكم الأحزاب حين قال: علينا أن ندفن موتانا كي نستطيع أن نتنشق هواء الماركسية النقي.
وأنا اليوم اقول: لم ندفن موتانا بعد، وهذا ما جنته علينا أيدينا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن